وحنى رأسه كالممتن وهو يقول: اليوم يتربع آمون على عرشه، ويقف في سفينته المقدسة بقدس الأقداس سيدا للآلهة، حاميا لمصر، رادعا لأعدائها، ويسترد كهنته سيادتهم الشاملة، هو الإله الذي حرر وادينا بيد أحمس، ومد حدودنا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بيد تحتمس الثالث، هو الإله الذي ينصر، ويذل من يخونه.
فركعت إجلالا حتى أذن لي، فجلست على مقعد منخفض بين يديه، واستجمعت حواسي للإصغاء، على حين راح الكاهن الأكبر يقول: إنها قصة حزينة يا مري مون بدأت فيما يشبه الهمس البريء، وجاءت البداية على يد الملكة العظمى أم المارق وزوجة فرعون العظيم أمنحتب الثالث. امرأة من الشعب لا يجري في عروقها دم ملكي، من أسرة نوبية، وكانت قوية وداهية كأن في رأسها أربع أعين ترى الجهات جميعا في وقت واحد، وكانت في الظاهر تحرص على إرضائنا ومودتنا، ولن أنسى قولها لي يوم احتفال بعيد النيل: أنتم الخير والبركة يا كهنة آمون!
وكان من عادتها أن تحدق في الرجال الأقوياء بعينيها النجلاوين حتى يحنوا الرءوس متعثرين في ارتباكهم. ولم نتوجس منها خيفة، ولا ننسى حب فراعين الأسرة المجيدة لكهنة آمون، حتى وجدنا الملكة تهتم بتوسيع مجال الدراسات الدينية لتشمل ديانات الآلهة الأخرى، وخاصة الإله آتون. ولم يعد الأمر في ظاهره أن يكون زيادة في المعرفة بديانات نحترمها جميعا ونقدسها؛ فلم نجد ثمة وجها للاعتراض، ولكن ساءنا أن تحظى الآلهة بذلك الامتياز في طيبة موطن آمون. ولم يلطف من مشاعرنا ما رددته تيى من أن آمون سيظل سيد الآلهة إلى الأبد، كما أن كهنته سيظلون على رأس كهنة مصر بلا استثناء. وقال لي توتو الكاهن المرتل: إني أستشف وراء القرار سياسة جديدة لا شأن لها بالدين في ذاته!
فطالبته بمزيد من الإيضاح، فقال: الملكة العظمى تخطب ود كهنة الأقاليم لتقيم توازنا بيننا وبينهم، فتحد من سلطان الكهنة وتقوي سلطة العرش.
فقلت له ولم أكن أخلو من الهواجس: نحن خدام الإله والشعب، نحن المعلمون والأطباء، والمرشدون في الدنيا والعالم الآخر، والملكة العظمى سيدة حكيمة، وهي لا شك تقر لنا بالفضل.
فقال توتو بامتعاض: النزاع على السلطة، والملكة قوية طموح، وهي في رأيي أقوى من الملك نفسه!
فقلت وكأنما أناقش مخاوفي: نحن أبناء الإله الأعظم، ووراءنا تراث أقوى من الدهر.
ولعله من المفيد الآن أن أحدثك عن الملك أمنحتب الثالث. لقد شيد له جده تحتمس الثالث إمبراطورية لم تسبق بمثيل في اتساعها وتعدد أجناسها. وكان ملكا قويا، يثب للدفاع عن أملاكه عند أول نذير يخطر، وحقق انتصارات حاسمة حتى دانت له الإمبراطورية بالطاعة الكاملة، غير أن عهده الطويل غلب عليه السلام والرخاء. جنى هو ثمار ما تعب أسلافه في زرعه، فانهمرت عليه المحاصيل والثياب والمعادن والنساء، وبنى القصور والمعابد والتماثيل، وغرق حتى أذنيه في الطعام والشراب والنساء. وعرفت المرأة الداهية نقاط القوة والضعف في زوجها فاستثمرتها على خير ما يكون الاستثمار. شجعته على الحرب حين الحرب، وتسامحت معه في شهواته مضحية بقلبها كامرأة لتشاركه سلطانه بكل جدارة، ولتمارس طموحها غير المحدود. ولا أنكر أنها كانت ملمة بكل صغيرة وكبيرة من شئون مصر أو الإمبراطورية، ولا أنكر إخلاصها وبعد نظرها وحرصها على المجد والعظمة، ولكني آخذ عليها نهمها للسلطة؛ ذلك النهم الذي سول لها أن تستغل الدين بنعومة ودهاء لتستأثر بالقوة للعرش دون الكهنة أجمعين. ثم تبين لي أن ثمة أفكارا أخرى تدور برأسها؛ فقد زارت المعبد يوما لتقديم القرابين، وتقدمتني بعد ذلك إلى مثوى الراحة بقامتها القوية المتوسطة، فلما استقر بنا المجلس سألتني: ماذا يحزنك؟
وجعلت أفكر في اختيار رد مناسب، ولكنها عاجلتني قائلة: إني أقرأ أسرار القلوب مثل الكهنة، إنك تظن أني أرفع من شأن الكهنة الآخرين على حساب كهنة آمون؟
فقلت مسلما: كهنة آمون هم أمناء أسرتكم المجيدة ...
Bilinmeyen sayfa