ويقول لي أيضا: لقد خلق الإله الأشياء فلا تعبث بها، انقلها بأمانة، أبرزها بتقوى، لا تسلط عليها الخوف أو الشهوة أو الأماني الكاذبة، اعكس كل ما بي من نقص في الوجه والجسد ليتجلى جمالك في الحقيقة!
ذلك هو مولاي وأستاذي الذي لا يعيد نغمة قديمة، الذي يبهر بالجديد الحي، محطم الأوثان، مقتلع التقاليد البالية من جذورها، السابح في بحر المجهول، المنغمس في نشوة الحقيقة. ويوم اعتلى العرش أعلنت إيماني مرة أخرى بين يديه، وتقلدت وظيفة «المثال الأكبر للملك». ويوم أمره الإله بالهجرة إلى المدينة الجديدة، ذهبت على رأس ثمانين ألفا من العمال وأهل الصنعة لنشيد أجمل مدينة عرفتها الأرض؛ مدينة النور والإيمان، أخت آتون، ذات الشوارع العريضة، والقصور السامقة، والحدائق الغناء، والبحيرات المترعة، آية آيات الفن والجمال التي انقض الحقد عليها فوقعت فريسة الكهنة والزمن.
وسكت مرغما ليجتر حزنه المقيم على رائعة حياته التي تتهاوى ساعة بعد أخرى، وتتفتت لتضيع في زحمة تراب الأرض. واحترمت سكوته حتى خرج منه قائلا: وكان لمولاي إنجازه في الفن أيضا فأبدع شعرا ورسما، وجرب أصابعه الطويلة الرشيقة في مناجاة الحجر. وإليك سرا لا يعرفه إلا الأقلون؛ فقد نحت لنفرتيتي تمثالا نصفيا آية في الحقيقة والجمال، لعله يوجد الآن في القصر المهجور أو في قصر نفرتيتي، إن لم تكن انتقمت منه يد التخريب. وعندما هجرته الملكة بغتة مخلفة في قلبه طعنة لا تندمل، طمس عين التمثال اليسرى، معربا عن خيبة أمله مع الإبقاء على بقية التمثال رمزا لحب خالد، وإيمان راسخ لم يتزعزع إلا في لحظة يأس أخيرة. لقد كانا معا الرمز الحي للإله الذي هو أب وأم معا، وكان اتحادهما عن حب جليل ثبت أمام عواصف الزمن والأحداث، فكيف دهمتنا بهجر الرجل في اللحظة الأخيرة؟! لم لم تبق إلى جانبه حتى النهاية؟ لقد اتهمها أعداؤها بأنها هربت من السفينة الغارقة لتجد مكانا مناسبا في الدولة الجديدة، ولكنها لم تخطب مودة أحد، ولزمت قصرها بمحض مشيئتها قبل أن يتحول إلى سجن. كلا، لا تنتمي مولاتي إلى الانتهازيين، ولكني أعتقد أن إيمانها اهتز لموقف الإله اللامبالي من الأحداث، فهجرت العرش والعقيدة في ساعة يأس سوداء. أما مولاي فلم يتزحزح عن إصراره قيد حبة رمل. كيف لا وهو الذي تجلى الإله لروحه، وأسمعه صوته، ودعاه بابنه الحبيب؟! لم يعد وجدانه يتسع لسماع صوت آخر، ولم يعد يكترث لرأي أو نصيحة كما ينبغي لمنغمس في الحقيقة. وهو لم ينهزم، ولكننا نحن الذين انهزمنا؛ فحتى أنا خامرتني شكوك، خاصة بعد مطالبته بالتنازل عن العرش، وأكثر عندما قرر الجميع التخلي عنه، وجدته واقفا في خلوته يرقب ما يحدث بعينين طافحتين بالهدوء والصمت. ولما رآني قال: سوف تذهب معهم يا بك.
فقلت بغضب: لم يجرؤ أحد على مخاطبتي في ذلك يا مولاي.
فقال باسما: ولكنك ستذهب يا بك.
فقلت بحماس: سأبقى إلى جانب مولاي إلى الأبد.
فقال برقة: تذهب مختارا أو مكرها ...
ولذت بالصمت، فخامرني الشك من جديد، فسألته: مولاي، أيمكن أن ينتصر الشر؟
فرأيته يغيب ثم يرجع ليقول لي: الخير لا ينهزم، والشر لا ينتصر، ولكننا لا نشهد من الزمان إلا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان بيننا وبين رؤية الحقيقة.
وراح يترنم بصوت عذب:
Bilinmeyen sayfa