قال: «لقد تفضلتم علينا بما لا طاقة لنا على شكره، ولا نشك في كرم مولانا أبي الحسن وحسن وفادته، ولكن لنا أهلا في المدينة لا بد من النزول عليهم، نخشى إذا نزلنا على غيرهم أن يعدوا ذلك منا امتهانا لهم، ولكننا في حمى أبي الحسن أنى ذهبنا.»
فعجب محمد لما آنسه من تلطفه، وكاد يحسن ظنه به فسأله: «وأين يقيم أهلكم يا عم؟»
قال: «يقيمون بقرب الزوراء سوق المدينة.»
وكانت أسماء أثناء الحديث جالسة تسمع ما يقولان وهي مطرقة حزنا وانكسارا وقد غطت رأسها بخمار أسود زادها هيبة وجمالا، فلما ذكر أبوها محل إقامته قال محمد وهو ينظر إلى أسماء: «إذن عسى ألا تنسونا، ومهما يعن لكم من الأمور فإني رهن إشارتكم لأن عليا حفظه الله أوصاني بكم خيرا.» وتطلع إلى أسماء فرأى الدمع يقطر من بين أهدابها وينحدر وهي مطرقة، فازداد عطفا عليها وحنوا.
قال يزيد: «إننا أبدا عبيد إحسانكم، فإذا أصابنا شر لجأنا إليكم ذاكرين حسن صنيعكم العمر كله.»
فقال محمد: «ألا تحتاجون إلى دواب تحمل أمتعتكم؟»
قال: «إن دوابنا ما زالت عندنا، وقد بعث إلينا أقرباؤنا خدما يساعدوننا في الحمل والنقل.»
ثم نهض محمد فنهض يزيد وأسماء لتوديعه، وتذكرت أسماء أن أمها عرفته وذكرت اسمه على فراش الموت، فنظرت إليه والدمع يتلألأ في عينيها وقد ذبلتا وتكسرت أهدابهما وتنهدت ولم تجب، فحياها وتحول إلى جواده فركب وعاد إلى المدينة وقد علق ذهنه بأسماء واشتغل قلبه بها.
أما ما ظهر في حديث يزيد من الرقة فقد اصطنعه تنفيذا لتعاليم مروان، وكان قد ذهب إلى المدينة خلسة ليستشير مروان فيما يصنعه إذا طلب إليه النزول في جوار علي، وأبدى خشيته من أن يكون هذا عقبة في سبيل زواجه من أسماء بعد أن توفيت أمها التي كانت عونا لها على رفض هذا الزواج. وقد لقي مروان في منزل الخليفة عثمان فأنبأه بوفاة مريم، واستشاره فأوصاه أن يحتال في التخلص من محمد، وعلمه كيف يشكر ويعتذر بالنزول عند أقاربه.
وكانت أسماء خالية الذهن من كل ذلك لسلامة نيتها واشتغالها عن الدنيا بأحزانها، ولكنها شعرت بارتياح إلى علي ومحمد وبأنهما سند عظيم لها إذا آنست من مروان أو يزيد ما لا يرضيها.
Bilinmeyen sayfa