وسر بذلك مروان إذ حدثته نفسه بأنه إذا جاء المدينة كان بالقرب من ابن عمه الخليفة عثمان، فلا تعود الأم إلى التردد خشية غضبه. وكان السفر سببا في اشتداد مرض الأم وأسماء لا تعلم سر ذلك الانتقال حتى خلت ذات يوم إلى أمها وعاتبتها على ما حملت نفسها من المشقة، فأسرت هذه إليها أنها تنوي الاستجارة بعلي بن أبي طالب لعله ينقذها لما اشتهر به من إغاثة المظلومين، ولما له من المكانة عند الخليفة والمسلمين.
وما زال المرض يشتد بالأم يوما بعد يوم، وزوجها ومروان يودان لو قضت نحبها قبل الوصول إلى المدينة لأنهما عرفا شيئا عن حقيقة غرضها، فكانا يطيلان مدة السير ويقودان القافلة في طرق طويلة حتى مروا بقباء وهي في الجنوب الشرقي من المدينة. •••
كانت الأم المريضة - واسمها «مريم» - بيضاء، تحبو إلى الأربعين من عمرها، رومانية الملامح، كبيرة العينين، وقد زادهما الضعف جحوظا، وكانت منذ نقلوها إلى الفراش في سبات عميق وأسماء بجانبها تمرضها ولا تأذن لأحد أن يأتي بحركة لئلا يزعجها. ولكنها لخوفها على أمها لم تكن تستطيع النظر إلى ذلك الوجه الممتقع وتينك العينين الغائرتين والعنق المستدق وقد غطاه من الجانبين شعر أسود يخالطه بعض الشيب بلله عرق الحمى فتجمع خصلا متلاصقة. وأشد ما كان يخيفها أن صدر أمها كان غائرا لفرط الضعف، وأن فمها اتسع واستطال حتى برز فكاه، فلم تكن أسماء تتأمل في ذلك المنظر حتى يختلج قلبها وتخاف الموت على والدتها في تلك البرية. وكلما أمسكت بيدها لتعرف مدى حرارتها أحست العرق البارد يبلل أناملها، ومما زادها بلاء وشقاء أن يزيد ما برح منذ نزولهم معتكفا في خيمة مروان، ولا يدخل خيمة امرأته إلا قليلا، متظاهرا بالاهتمام بها، بينما المكر والرياء ظاهران في وجهه. وأما مروان فكان إذا دخل الخيمة دخل متبخترا لا يدنو من الفراش ولكنه ينظر إلى أسماء ويبتسم كأنه يداعبها، وهي لا تستطيع الابتسام ولا تطيق النظر إليه.
فلما كان العشاء حركت النائمة رأسها وفتحت عينيها وحولت حدقتيها إلى أسماء وقد بهتتا من شدة الضعف، فهبت الفتاة واقفة وسألتها عما تريد، فأشارت تطلب الماء فأسرعت إلى القدح وأدنته من شفتيها فشربت منه قليلا، وانبسطت لذلك أسارير أسماء وعاودها الأمل، ووقفت تنتظر ما تطلبه منها، فلما لم تقل شيئا انحنت على جبينها وقبلته وأمسكت يدها بلطف وقالت لها: «هل تريدين شيئا يا أماه؟»
فأجابتها بصوت ضعيف وعيناها شاخصتان إليها: «لا، لا أريد شيئا إلا سلامتك، ولكنني قد لا أستطيع الوصول إلى المدينة، ولا أظنني أعيش إلى الغد فقد شعرت بدنو الأجل.» قالت ذلك والدموع تتساقط من عينيها فتختلط بعرقها، فاقشعر بدن أسماء وخفق قلبها، ولكنها تجلدت وتظاهرت بالابتسام وقالت: «لا سمح الله بسوء يصيبك يا أماه! فإنك ستصبحين في خير فنركب معا إلى المدينة بإذن الله.»
فتبسمت الأم تبسما يمازجه البكاء، وقالت: «اسمعي يا بنيتي، ما أنا آسفة على هذه الدنيا، ولكن في نفسي أمر أود قضاءه قبل الوفاة.»
قالت أسماء: «وما هو ذلك الأمر يا أماه؟»
قالت: «هو أن ألتقي بعلي بن أبي طالب فأكلمه دقيقتين قبل الموت.»
قالت: «غدا نلتقي به في المدينة.»
قالت: «قلت لك إنني لا آمل أن أرى صباح الغد يا بنيتي.»
Bilinmeyen sayfa