بإلقاء القبض فورا على أصحاب الأسماء والألقاب الآتية، وهم القائد «منما» رئيس الفرق الاستعمارية بمنفيس والضباط «كعكا» و«شرم» و«مشناك» التابعون للفرق المذكورة، والكهنة «بربايس» و«مشنا» و«سيساين» التابعون لمعبد منفيس الأكبر، والأميرة «آثرت» كريمة جلالة الملك، والقائد «ندور» كبير الحرس وكريمته السيدة «آرا»، و«هوتر» مدير الخزينة الخاصة والقاضيان «برام» و«أتيون» الجالسان في هذه الجلسة، والأمير «مكارس» ابن أخي جلالة الملك ورئيس مجلس الحكومة الأعلى، و«نيناي» من أعضاء المجلس المذكور، والكهنة «فيرموس» و«كركة» و«خرايم» التابعون لمعبد طيبة الأكبر.
ثم إن الأمير أعلن انفضاض الجلسة فانفضت بين تصفيق من الشعب، وتهليل وهتاف متعال طويل أن ليحي الملك، ليحي الأمير، لتحي العدالة، ليحي «رادريس»، ونزل النجل الثاني عن كرسي الرئاسة، فتقدم نحو «رادريس» فعانقه طويلا، ثم خاطبه بصوت عال فقال الشعب: أيها القائد العزيز، بين منفذ ما ارتجل في تهنئتك ومنفذ ما كان ذخرا لتبرئتك، وطيبة لسان واحد حوالي هذه الجدران يهتف أن الحمد لله خير الحاكمين.
على أن شرف العظماء والعظم منك أيها القائد العزيز بمكان، كورد الحدائق إن نزعت منه ورقة انحل وانتثر وانتقض جميعه على الأثر، وهذه الورقة قد تنزعها يد العدالة، فإن كان ذلك عن خطل منها أو جهالة قيل: «ضلالة قضاء» وإن كان عن طغيان من السلطة ودوس للقانون قيل: «قضاء بغي وضلالة»، فالحمد لله ثانية على أن حاط هذه الوردة الزاهية الزاهرة، بعين عنايته الساهرة، بما تولى القضاء في أمرك والله خير الحاكمين.
وإني لا أجد مثلا لموقف الاتهام المهين، الذي كنت فيه، وكانت الريب عن الشمال، والحق الأبلج عن اليمين، إلا ساحة القتال؛ إذ تجمع بين الجبان الغادر القاتل، وبين الشجاع البطل الشريف المقاتل، فلا تنفع الأول كمالات محاذيه، كما لا تضر الثاني صفات قرينه في الصف وأخيه، حتى يعجل الله الحكم أو يؤجل، والله خير الحاكمين.
ثم الحمد له - سبحانه - أبد الآبدين، على أن أثابك عن ذلك الموقف خير ما يثيب العبد الصادق الأمين؛ حيث أبى إلا أن ينجلي بهذه التهمة، داجي تلك الغمة، عن سماء كرامة الأمة، فتبين الأمين من الخائن، وعرف الصادق من المائن، وهي خدمة للوطن العزيز يقل لها دم الحياة ثمنا، فكيف تستكثر لها وقفة بين يدي القضاء؟ لا سيما من بطل مثلك، كم له قبل هذه من يد عند الوطن بيضاء.
ولم يكد الأمير يستتم حتى سمعت ضجة أعظم ضجة تلاها ترديد أبواق، وصوت مزامير يملأ الآفاق، فسأل الأمير قائلا: ما هذه القيامة؟ فقيل له: إنه موكب ولي العهد يسير في البلد، وقد شارف دار المحكمة، وفي هذه الأثناء دخل أحد حراس «آشيم» فحيا «رادريس»، ثم ناوله سيفا من أفخر سيوف الأمير، وخاطبه قائلا: بأمر سعادة ولي العهد أدعوك أيها القائد الموقر لتخرج فتأخذ محلك في الموكب؛ حيث مركبتك الخصوصية مستعدة لتشرق بك في هذا اليوم السعيد، فتقلد «رادريس» السيف، وبرح دار المحكمة محمولا على الأكف من تحمس الناس في حبه، وبرحها الأمير على أثره، فسبق موكب أخيه إلى قصر الملك.
وهنالك عرض الملف على أبيه، وأخبره بتفصيل الحال جملة، فكان من وراء بلاغه هذا دهش عظيم للملك، وقيامة استغراب وحيرة بين ناس القصر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الموكب عريضا طويلا فاخرا جليلا، فخف ملأ القصر لاستقبال الأمير على الأبواب، وانتقل الملك إلى قاعة التشريفات الكبرى فوقف يحف به الأمراء والوزراء والقواد وكبار الحاشية، وعندئذ أقبل «آشيم» خافض الرأس من الخشوع، له عند كل خطوة انحناء، وإلى يساره عذراء الهند تفعل كما يفعل، فابتدر الملك لقاءه فقبله على جبينه، ثم لوى على عذراء الهند فقبلها على رأسها ، وانثنى بهما بعد ذلك، فجلس وأجلسهما إلى جانبيه.
ثم أجال الملك نظرا في الحاضرين. وقال: أين كبير الحرس؟ فتقدم «ندور» فغضب لرؤيته وطرده من حضرته. قائلا: إني لم أدع كبير المجرمين يا خائن، بل دعوت «رادريس» كبير حرسي من اليوم؛ فتقدم عندئذ «رادريس» فقبل سدة العرش، فبالغ له الملك في المجاملة والإيناس، وأكثر من الاعتذار له عما مر من ضيمه وضيره، في السجن وغيره، ثم التفت إلى «آشيم» وقال له: وحق عينيك لا يصحبني «رادريس» إلا يومين، ثم يجمعكما هذا القصر إلى ما شاءت الآلهة؛ فأحدثت هذه الإشارة هرجا ومرجا بين الحاضرين؛ إذ عدها أكثرهم شروعا في التنازل ووعدا مؤكدا لولي العهد بملك البلاد.
وبينا هم كذلك دخل مأمور الضابطة في العاصمة وبيده أوراق ليعرضها على الملك، ومن جملتها أوامر المحكمة بالقبض على القوم الذين لوثهم الملف، فاستصدر المأمور نطق الملك بشأن خمسة من بينهم أمرهم إلى جلالته مباشرة، وهم الأمير ابن أخيه، والأميرة كريمة جلالته، وكبير حرسه وكريمته، و«هوتر» مدير خزينته، فصدرت الأوامر بنفي الأمير والأميرة إلى بلاد اليونان، وبأن تسوى المعاملة بين الثلاثة الباقين، وبين سائر المتهمين، فلا يعلى في أمرهم على القوانين.
ثم التفت إلى كاتم أسراره فأمره بأن يعين اثنان من تلامذة «بنتؤر»، ينتخبهما الأستاذ نفسه مكان القاضيين الساقطين من المحكمة المخصوصة لتلوثهما بالملف، وأن تنعقد هذه المحكمة غدا للنظر في القضية الباغتة، والحكم فيها بالسرعة الممكنة، وبعد ذلك طلب جلالته حامل مفاتيح القصر. وكانت تلك عادة له في صرف الزائرين فاستأذن عندئذ الأجانب عن القصر من الحاضرين وخلا الملك إلى بنيه وخواصه، فلبث بينهم طويل حين، إلى أن أقبل الليل فحل نظام هذا العقد الثمين.
Bilinmeyen sayfa