كان الفصل شتاء، وكانت أقطار الهند تقطر ماء، أرضا وسماء، وأكنافا وأرجاء، وقد تملك الضباب الآفاق فأدجت إدجاء، وتلاه الليل فأضفى عليها من ظلامه رداء.
وكانت على بعض النواحي الشمالية من أطراف الهند الشرقية غابة عذراء، ممدة شماء، يضيق عن دائرتها الفضاء، وهي مظلمة الأرجاء أبدية الأدجاء، لا تغشاها الشمس بصبح، ولا يزورها النجم في مساء.
وكان عند مدخل هذه الغابة رجلان، ليس ثم غيرهما إنسان، أحدهما عظيم كتلة الجسد، في صورة الأسد، ذي الأظفار واللبد، مكشوف الرأس والصدر، غائبهما في الشعر، وعليه سربال من كتان بال، ممسك بحبال، وفي خاصرته اليمنى خزانة سلاح، مستكملة أدوات الكفاح، وفي اليسرى خزانة أخرى فيها عدد وآلات، ومواد للاستعمال وأدوات، وهو كأنه سارية من اعتدال قامته الوافية، وكان شيخا يناهز الستين، وإن يكن يراه الرائي فلا يزيده على الأربعين، والآخر فتى شاب في الثلاثين، له أجمل صور الإنسان، وعليه كذلك ثوب من كتان، وهو قد تقلد سلاحه، وحمل جرابا مملوءا طعاما وشرابا، وكانا يتمشيان على المكان، والشيخ يقول للفتى: ها نحن قد بلغنا الغابة يا «هاموس»؛ غابة الببغاء الأسود، الذي يحج إليه ويعبد فصفحا للسفر عن إساءاته؛ إذ كان هذا اليوم من حسناته. قال: يا مولاي، إن كان كنز لا يفنى فالسفر، أو كتاب لا يفرغ من قراءته في هذه الأرض، وإني لأعجب للإنسان كيف يخلق كل هذا الملك لأجله، ويعيش فيه بعقله ثم يموت، وهو لم يجس أديمه برجله، ولم يعرف وعره من سهله. قال: هذا يا بني أكبر عيوب الأنام، أو هو نقص القادرين على التمام، فإن أكثرهم يفنون أيامهم بالحضر، ثم يتهمون الأعمار بالقصر. وهيهات هيهات ما سدى قدرت أيام الحياة، وإنما نتوهمها قليلة من سوء استعمال الأوقات، وإنهم يا بني ثلاثة، لا تجتمع المفاخر لأمة؛ حتى يجتمعوا لها: الكرام، والعلماء، ورجال الأسفار. قال: وأنت هي جملة يا مولاي، فأنت إذن أمة في المفاخر وحدك، فأجاب الشيخ متبسما: ولكني الشقي «طوس». قال: إنه من كيد الكهنة يا مولاي، إن كيدهم عظيم. قال: خلنا الآن من هذا يا «هاموس»، وانظر هل تطلع النجم بعد، فارتجل الفتى نظرة في الأفلاك، ثم قال: نعم، ظهر يا مولاي وبان. قال: إذن فهلم على اسمه وببركة مطلعه السعيد. ثم تقدم نحو المدخل فتبعه الفتى يحمل شريطا من المعدن مشعل الذبال، حثيث الاشتعال يضيء لهم خلال الثرى، ويكشف من الغابة الجوانب والذرى، وكان يديره للشيخ حيث دار، ويسير به بين يديه أينما سار، وقد أمسك هذا ورقة صفراء من البلى مخرقة وهو منهمك يقرأ فيها، فلما فرغ منها طواها بصيانة، وألقاها في الخزانة، ثم أخذ في سيره اليمين، والتفت إلى الفتى يقول: سندخل من حيث دخل يوقو الصيني يا «هاموس». قال: وهل لذلك أثر حي على المكان، أم أنت يا مولاي تعتمد على الورقة لا غير؟ قال: تأدب يا «هاموس»؛ إن يوقو كان عالما، وإن الزمن الذي يفشو فيه الكذب بين العلماء لم يأت بعد. وإن كنت في ريب مما أقول؛ فانظر إلى هذا الجذع وهذا الساق كيف يتفاوتان لدى السنين، فهذا له آلاف من السنين، وهذا لا يتجاوز عمره المئين، فهنا لا شك نزل يوقو بالبلط وهشم وقطع وحطم؛ ليفتح له طريقا بين الأشجار. قال: وكم كانت أيامه في غابة الببغاء الأسود يا مولاي؟ قال: تسعون شهرا وشهرا. قال: إنها لمدة طويلة يا مولاي، ونحن لنا شأن غير هذا الشأن، يضطرنا إلى أن نختصر من الزمان. قال: ليطمئن قلبك يا بني فورأس «آشيم» لا يكونن الشهر عندي إلا يوما، فنلبث ثلاثة أشهر في هذه الغابة التي لو كانت واحدة لسهل الأمر وهان، ولكنها غابات ثمان، فيها من كل موبقة زوجان، وبعد ذلك لنا إلى مياه الشمال طريق مختصر بين الرمال نقطعه في سبعة أيام بليال، حتى نبلغ البحر؛ حيث المركب والصيادون على الشاطئ ينتظرون، ثم نقلع قاصدين جزيرة العذارى؛ مطلبنا الصعب الذي سوف يهون.
ثم إنه ابتدر الدخول من ذلك الموضع، فتبعه الفتى يحمل الشريط، واندفعا يصلان السرى حثيثا بين شجر ألفافا، وأعشاب تختلف أشكالها وألوانها اختلافا، إلى أن مضت تلك الليلة، وانقضت بدون أن يعتري تعويق، أو يعترض شيء في الطريق.
فلما أقبل النهار ولم تكن ظهرت له في الغابة آثار، غير تحول النبات من السواد الشديد إلى الاخضرار، التفت الشيخ إلى «هاموس»، فقال: أطفئ يا بني الشريط، وخذ هذا السائل فادهن به أطرافك. واعلم أننا قادمان بعد لحظة على موطن الثعبان الأخضر، وستصادفه في الطريق جماعات على أبعاد، منتصبا على أطراف ذنبه في صورة أمهات الموز. فإياك أن تحتك به في مسيرك، فتقيم علينا قيامة لا طاقة لنا بها. قال: وهل لأجله صنع هذا العطر؟ قال: نعم، وإن نكهته تحدث به من الطرب ما يشغله عن أمرنا.
وفي الحقيقة لم يكن غير يسير زمان، حتى قدم الرجلان على أمثال جماعات الموز، وكانت في أتم سكون، فلما تخللاها وسرى في جوها طيب ما كانا يحملان، راحت تموج بالمنظر العجب، كأنما أخذها من تلك الروائح طرب، فاستمرا في سيرهما آمنين قريرين ببدائع ما يجتليان، والشيخ يقول لتلميذه: تمتع يا «هاموس» من رؤية هذه المناظر، التي لم يشهد الأوائل لها نظائر، ولا أظن أن سيرى الأواخر، ومد معي لقدمك الخطو، واحتمل للسفر، واحمل مشاقه، واعلم أن المروءة منه، والصبر منه، والشجاعة منه، وهي الثلاثة القائمة بمكارم الأخلاق.
فتشجع الفتى بهذا الكلام، وازداد إقداما على إقدام، إلا أنه استأذن أستاذه في تناول بعض الطعام فأذن له، وطلب هو أيضا شيئا من الزاد فأكل، ثم عاودا السير يوغلان فيه إلى أن أخذ النهار في الإدبار، وكانا قد بدآ يبتعدان عن أماكن الثعبان، فأشعل الفتى الشريط واندفعا يتبعان السير سرى موصولا، فلم يكن نصف الليل، إلا وهما بعيدان كل البعد عنها وبأمان تام منها، ثم إذا هما بأرض خضراء نقية العشب، كأنما أمطرت أمطارا أو غسلت مرارا، فلما غشياها أعجب الشيخ مرآها، فنظر إلى الفتى قائلا: توسد يا بني هذا المهاد الوطيء وخذ لبدنك حصته من النوم، وأنا ساهر عليك أحميك وأشتغل بمطالعاتي. قال: سمعا وطاعة، ثم اضطجع فأخذه النوم فنام. وجلس الشيخ عند رأسه ساهرا ينظر في بعض أوراقه على ضوء الشريط، حتى طلع النهار، فانتبه الفتى من رقاده ناشطا خفيفا، وقام الشيخ فمشيا يومهما كله بين أكل وشرب وحديث، يسيران في أرض كبسط الخز تأخذ القدم منها ولا تأخذ من القدم.
فلما كان المساء، عادت الأشجار فتنكرت دلالة على زوال النهار، فأراد الفتى أن يشعل الشريط ليسريا بهداه وفي سناه، فمنعه الشيخ ونهاه قائلا: لقد أوشكنا أن نلج الغابة الثانية، غابة الثعبان الوضاء. قال: وهل في الثعابين كما في الدود ذو النور المشهود؟ قال: ولم لا وليست هذه إلا أصغر عجائب الوجود؟ قال: وما ذلك الثعبان ذو اللمعان؟ قال: شيء يا بني في حجم الثعبان الأخضر أو هو أكبر، وأما لونه فأصفر، ويقول يوقو الصيني: إنه بالنهار جهنمي ثوار، وثاب صفار، جواره شر جوار، وإلى لقائه تنتهي الأخطار، حتى إذا بدا له الليل عانق الأشجار، يتدفق خلالها بالأنوار، ثم نام نومة العاشق الممتع بالأسحار ، فلو قامت القيامة عند رأسه ما انتبه حتى مطلع النهار.
وما استتم الشيخ حتى قدم الصاحبان على منازل ذلك الثعبان، فإذا نوره التام المحيط، خير من ألف شريط، وهو على الأشجار، يرتجل الأنوار، مختلف الصور والأشكال، آخذ من كل فلك في السماء بمثال، وقد انجلت الغابة في رواء فتان، لم ير مثله حالم ولا يقظان، فاندفع الرجلان يسريان في كلاءة الليل، وبذمة من ساكن الغاب وأمان، والشيخ يقول للفتى: انظر يا بني إلى هذا المكان، كيف يتغير من شأن إلى شان، فبينما هو النهار مسبعة بغير قرار أو كمساكن الجان، إذا هو كما تجتليه الآن، أفق منير الأهلة مزدان، يجتازه الطفل على قدم السكينة والاطمئنان. قال: وهل سرى ليلة يا مولاي يكفي للابتعاد عن موطن هذا الثعبان؟ قال: لا بل هما ليلة ونهار لمن سرى وسار. قال: فما عندنا له من عدد التوقي، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: سر يا بني ولا تخف، فمن كان مليك الوجود لن تغلبه هذه الدود، وقد أعددت لذلك مسحوقا يشمه الثعبان، فلا يستطيع إلينا دنوا ولا يملك سببا.
حتى إذا مضى الليل هب ساكن الغاب من نومته فسمعت لذلك ضجة، راحت بها الأرض مرتجة، وماج الجو واضطرب الغاب، وسالت بالمزاحف الأعشاب، فالتفت الفتى إلى شيخه كالمذعور فوجده ينثر من ذلك المسحوق في الطريق، والثعابين تنفر عنه نفارا، وتولي من تلك الرائحة فرارا، إلا أنها كانت تجتمع من بعيد عن اليمين وعن الشمال، وتسايرهما هائجة حنقة، وهي تموج كالجبال، فجد بالفتى القلق، وزاد به الفرق، ورأى الشيخ عليه ذلك فزجره قائلا: ما هذا الجزع يا «هاموس»؟ أتشفق من هذه الديدان، وأنت لو فتشت عن أفئدتها لوجدت أن بها منك فوق ما بك منها، فمهلا رويدا بعض هذا الخوف، واعلم أن بالعقل قام هذا الوجود، فمهابته منذ البداية سارية في الأشياء، ممتزجة بالغرائز عند سباع الأرض والسماء، يحملها الحي الذي يرزق، وتتشربها النطف التي لم تخلق، فلما سمع الفتى هذا الكلام تقوى جنانه وثبتت الأقدام على الأقدام، ومسخت الثعابين بعينيه حبالا وكانت جبالا، فراح متنشطا في السير لا يلقي لجمعها بالا.
Bilinmeyen sayfa