ولما مثل بين أيديهم قرأ مدير المنوفية عليه حكم الإعدام، فتقدم إلى أولي الأمر شاب، خافض الرأس، معفر الوجه بالتراب، مقرح العينين، وطلب منهم بتذلل أن يسمحوا له بمقابلة أبيه المعدم؛ ليسمع وصيته الأخيرة، وينال رضاه وبركته، فانتهروه وطردوه، وأبوا عليه هذه الأمنية المقدسة، فرجع الولد مكسور القلب باكيا لاطما وجهه بيديه، وفي أثناء ذلك سمعت ولولة وبكاء وصياح فتطلع الرجل فرأى، ويا هول ما رأى! رأى امرأته واقفة فوق بيته تحدق فيه النظر بعينين ملؤهما الدمع المحبوس، ثم صرخت - عندما نظر إليها - صرخة اتصلت بعنان السماء وقالت: ارحمونا يا ناس يرحمكم الله!
ثم رأى بجانبها ست الدار حاثية التراب على رأسها مسودة به وجنتيها، وكانت عيناها الجميلتان مقروحتين، وقد جذبتهما تلك الآلة الجهنمية بمغناطيس الحب الأبوي، ثم رأى بين زوجته وابنته ثلاثة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم عن الأربع سنوات يبكون ويصيحون بدون أن يعرفوا سبب هذا الحزن، وبجانبهم ولد صغير يبلغ الثامنة من عمره يبكي بكاء مرا.
ولما نظر حسن محفوظ إلى عائلته - وهم في تلك الحالة التعيسة - أحنى رأسا لم تحنه الأيام، ودمعت عيناه ولم تكن تدمعهما الرزايا، ثم حول وجهه نحو باقي المساكن فشاهد الحال واحدة والمصاب عاما، فكاد يجن من اليأس.
وفي تلك اللحظة سمع عواء شديدا، فلفت وجهه وقد حن قلبه إلى هذا العواء، فرأى كلبه «سبع الليل» يجري ويخبط رأسه في قوائم ذلك المستطيل المنكود، ولقد دمعت عين الحيوان ولم تأخذ الرحمة قلب الإنسان!
ولما انتهى المدير من قراءة الحكم استلم المشنوق جنديان، وكان لون وجههما أصفر كلون الموتى، والتأثير باد على محياهما وهما يبكيان، فسلماه إلى عشماوي، فأوثق يديه وصعد به إلى المشنقة.
وهنالك في تلك اللحظة تعالت الأصوات بالعويل والبكاء حتى ضجت ملائكة السماء، وصرخت الأرض بما فيها من حيوان ونبات وجماد: إلهنا إلهنا! ارحم المظلوم وأشفق على أولاده، فالرحمة فوق العدل!
ولما استوى المظلوم فوق المشنقة ورأته زوجته عيانا، صرخت صرخة دوت في ذلك السكون الرهيب وقالت: آه يا زوجي، آه يا جملي، آه يا خراب بيتك يا محفوظ، رايح فين وسايب أولادك وأولاد ولادك لمين؟
فاقشعر بدن الرجل من هذا الصوت الحنون المؤثر.
ثم سمع ابنته ست الدار تصرخ بصوت يفتت الكبد ويدمي القلب وتقول: آه يا بويه، يا خراب بيتك يا بويه، يا مظلوم يا بويه، آه يا معدوم! يا جملنا رايح فين وسايبنا لمين؟!
فغشيت الرجل غمامة من اليأس، وصعد الدم إلى وجهه، وأظلمت الدنيا أمام عينه.
Bilinmeyen sayfa