ونعتقد نحن أن الخليفة الأول قد أعطى الروية حقها، كما أعطى اليقين حقه، فما كان أبو بكر بالرجل الذي ينسى الحيطة كلما وجبت الحيطة على ولي الأمر، وهي هنا كأوجب ما تكون.
وحسبنا من ذلك حيطته في حراسة المدينة وتبييت الجند بالمسجد حين تجرد لكفاح أهل الردة، ثم وصيته لخالد بن الوليد - وقد علم حنكته في فنون الحرب وقدرته على قيادة الجيوش - فلم ينسه هذا العلم أن يزوده بالنصح حين خرج لحرب المرتدين، فيدير هذا النصح كله على الحيطة واليقظة كما قال من كلام رصين وجيز: «إذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا عن الحملة؛ فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بأفراد، وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة ... وإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك، وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء ينتظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، سر على بركة الله.»
وأدل من هذه الوصية على الحيطة والاحتراس في كفاح الأجانب وصيته ليزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام حين يقول: «إذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا تريثهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك كعلانيتك فيختلط أمرك ... وأكثر حرسك، وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرها لقربها من النهار ...»
ولم ينس قط ما بين جنده وجند العدو الأجنبي من فروق العدة. فكان يعمل في تدارك هذا الفرق ورأب هذا الصدع ما استطاع. فذهب يوما يتفقد جنده الذين هموا بالخروج لغزو الشام فلم تعجبه عدتهم وسأل من حوله: ما ترون في هؤلاء إن أرسلتهم إلى الشام في هذه العدة؟ فقال عمر: ما أرضى هذه العدة لجموع بني الأصفر، وقال بقية أصحابه: نحن نرى ما رأى عمر، فكتب إلى أهل اليمن يستكمل العدة ويستنهضهم إلى الجهاد ليخفوا إليه بما يسد هذا النقص من جند وسلاح.
فالرجل الذي لا تفوته فائتة من شأن القبائل التي يرسل إليها بعوثه، والرجل الذي يختار القائد فيحسن اختياره، ثم لا ينسى مع ذلك وصيته وتحذيره وإتمام عدته بما يقارب عدة عدوه، والرجل الذي يقرن ذلك كله بالحيطة في مدينته بما في وسعه ليس هو الرجل الذي يزجي البعوث إلى تخوم فارس ولم يأخذ للأمر مثل هذه الحيطة ولم يعمل فيه مثل هذه الروية، وليس بالذي يجازف وله مندوحة عن المجازفة من إرجاء أو مسالمة إلى حين.
وإنما يرجو الغلبة بالقليل على الكثير؛ لأنه يعتمد على «عدة الإيمان» ويعلم كما قال ليزيد بن أبي سفيان: «قد نبأنا الله أن الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ذلك ممدكم بالرجال في أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان.»
وإننا لنعلم اليوم أن الصديق لم يجازف قط بتجريد البعوث إلى تخوم فارس والروم، ونعلم أن عوامل النصر كانت كلها أو معظمها في صفوفه، وأن عوامل الهزيمة كانت كلها أو معظمها في صفوف أعدائه.
نعلم اليوم أن الفرس قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمتها الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت نارها التي تعبدها في قلوب أهلها قبل أن تبوخ في معابدها ومشاغلها، وشاع فيهم الخوف من الثبات في القتال حتى قيدوا بعضهم إلى بعض بالسلاسل ليحولوا بين هارب وهربه، وقلت الدربة في قادتهم حتى تخيروا أسوأ المواقع وأسوأ الأوقات للهجوم في معارك كثيرة.
ونعلم أن الروم قد انهزموا؛ لأنهم كانوا يدفعون العرب عن دولة حطمها ما قد حطم الفرس من الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وباخت عقائدها في صدورها لفرط ما أرثها من الجدل العقيم والمحال الدميم، واستكانت إلى الذلة زمنا حتى رضيت بالجزية تؤديها لبرابرة الهون والأبارة، واشتملت على أمم كثيرة تعاديها وتتربص بها الدوائر كلما طمع الطامعون فيها.
نعلم اليوم ذلك من الواقع الذي وقع وبطل الشك فيه، ومن التاريخ الذي تفتحت أمامنا صفحاته وقد زال عنها الحجاب.
Bilinmeyen sayfa