وكان هذا علمه بأنساب كل قبيلة ومحامد السابقين منها ومثالبهم ولا سيما قريش ومن جاورها. ولهذا كانوا يقولون كلما سمعوا أبياتا من الشعراء المسلمين يردون بها الهجاء على المشركين: هذا تلقين ابن أبي قحافة وما عداه؛ لأنه كان في هذا العلم بين قريش عامة بغير نظير.
ونحن لا ننتظر بداهة من كل رجل تيسرت له هذه المراجع أن يبلغ من الثقافة مبلغ أبي بكر الذي تدل عليه أقواله وأعماله وخلائقه وسجاياه. ولكننا إذا علمنا أن تلك مراجعه وأن ذلك مبلغه فقد علمنا شيئا آخر نقصده ونتحراه، وهو أنه رجل خلق من معدن العظمة والامتياز، ولم يخلق رجلا كسائر الرجال.
الفصل الحادي عشر
الصديق في بيته
من السهل بعد مراجعة يسيرة لحياة الصديق في جملتها أن نعلم أنه «رجل بيت» أو «رجل أسرة» وأن أواصره البيتية لا تستند إلى الشعور بالواجب وحده، ولكنها تستند مع الشعور بالواجب إلى الشعور بغبطة القرابة ومودة الرحم ونعمة الألفة والمصاحبة، فلم يكن ولدا بارا؛ لأن البر بالآباء واجب وكفى، ولا أبا رحيما؛ لأن الرحمة بالأبناء غريزة وكفى، ولا زوجا وفيا لأن الوفاء للأهل واجب وكفى، ولكنه كان كذلك كما كان في جميع أواصره وعلاقاته: رجلا يشعر بالغبطة في جوار أبناء جنسه، ويأنس للصحبة في جو الشعراء والأصدقاء، ويتجلى فيه خلق الإنسان «الاجتماعي بطبعه» على أخلصه وأوفاه.
عرف بره بأبويه في الجاهلية، فلما أسلم وصاحب النبي عليه السلام جمع بين بر الفطرة والحنان وبر الواجب والفريضة، واطمأن إلى هذا البر كما يطمئن صاحب الخير الذي لا جزاء عليه أن يصبح وله من الحظوة الإلهية أجمل جزاء.
وعرف عطفه على أبنائه طوال حياته، فما داخلته في عطفه عليهم قسوة أو شدة إلا أن يكون ذلك بدافع من العقيدة أو وازع من التأديب.
قال له بعض أبنائه - وقد كان يقاتل مع المشركين: إنني كنت أراك فأتحاماك.
فقال له: لكنني لو رأيتك لما تحاميتك.
وكان بين عائشة والنبي كلام. فسألها: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟
Bilinmeyen sayfa