وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعا من عظماء الرجال.
ولكن الرجل قد يكون صبيحا دمثا محبوبا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير؛ لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينا فمن الجائز أن تفترقا حينا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.
أما محمد فقد كان جامعا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو من العلم بمنزلته من ثقة القوم، فأحب أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»
فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» ... إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.
الإيمان والغيرة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة ... وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان وطلاقة القسمات، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغيرة عليه ...
وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان ... وجاوره أناس أقل منه نبلا في النفس ولطفا في الحس ونفورا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه. فصدع بما أمر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة ...
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوى في الأفئدة، فيشبهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين ...
Bilinmeyen sayfa