İslah ve Eğitim Dehası: İmam Muhammed Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Türler
ولم يتصل السيد بأحد من أصدقائه وأصحابه بمصر إلى ما بعد انتهاء الثورة العرابية، ومنهم خادمه الأمين العارف أبو تراب الذي كان يلازم السيد في حله وترحاله ملازمة ظله؛ لأن السيد قضى تلك الفترة في رقابة الحكومة الهندية تارة، وفي التنقل على غير قرار تارة أخرى، فلما رفعت عنه الرقابة شخص إلى أوروبا في شهر سبتمبر سنة 1882، وكتب من بورت سعيد إلى الشيخ محمد عبده خطابا يشكر له فيه رعايته لخادمه ويحمده «على البر والمعروف»، ويطلب إليه إبلاغ سلامه وشكره لتلميذيه إبراهيم اللقاني وسعد زغلول، ويذكر له عنوانه بالعاصمة الإنجليزية في إدارة جريدة الشرق والغرب، أو عند الشاعر المستشرق مستر «بلنت» صديق العرابيين.
وكان الشيخ محمد عبده يومئذ قد نفي إلى بيروت، فبادر بالجواب على السيد وكتب إليه كتابا نستغربه، كما استغربه تلميذ الإمام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار؛ لأنه لهج فيه بالتعظيم والتقديس لهجا لم نعهده في أسلوبه منذ صباه إلى ختام حياته، وغلا في اتضاعه والارتفاع بأستاذه غلوا يخالف المعهود من عرفانه لأعظم الناس قدرا عليه، وفيه كما قال السيد رشيد «من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات، ويصف نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة».
إلا أن الأسلوب هنا هو الأسلوب الذي لم يتكرر في خطاب أو مقال للأستاذ الإمام؛ لأنه أسلوب الساعة التي لم تتكرر في حياته، وليست هي مما يتكرر في حياة أحد؛ إذ كان كل ما يستوحيه في تلك الساعة شعورا مشبوبا يتوقد بحماسة الشباب وحماسة الثقة التي بقيت له في منفاه، بعد ضياع الثقة بأقرب الأقربين وأولى الأخصاء بالصدق والوفاء، ويذكيها من وجدانه الحي ذلك الشوق المتجدد إلى أستاذه بعد انقطاع العهد وجلاء الغمة، في أعقاب الثورة عن ذلك المصير الذي له ما بعده، وقد يكون ما بعده جهادا آخر يرجى له من الفلاح ما لم يكتب للأستاذ ولا لتلميذه في جهادهما الأول. فإن تكن في الأسلوب غرابة تلحظ في سائر الأحوال، فقد كان الأغرب أن يجري به القلم في تلك الحال مجرى المتكرر المألوف.
ومن عبارات الخطاب التي لم تتكرر ولم تؤلف في سواه، قوله عن نفسه وأستاذه: «... كنت أظن أن قدرتي غير محدودة، ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة، فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد؛ تناولت القلم لأقدم إليك من روحي ما أنت به أعلم، فلم أجد من نفسي سوى الأفكل والقلب الأشل، واليد المرتعشة والفرائص المرتعدة، والفكر الذاهب والعقل الغائب، كأنك يا مولاي منحتني نوع القدرة للدلالة على قوة سلطانك، فاستثنيت منه ما يتعلق بالخطاب معك والتقدم إلى مقامك الجليل.»
وفي هذا الخطاب تحدث التلميذ إلى أستاذه عن مصير الجماعة التي تركها بمصر واستخلفه عليها في غيابه، وأفاض في بيان ما يعنيه من أمر أصحابه ومريديه، ولم يتحدث عن أمر نفسه؛ لأنه اكتفى فيه بما كتبه زميله إبراهيم اللقاني إلى السيد كما علم منه. قال: «إني يا مولاي لا أحدثك عن شيء مما أصابنا بعد فراقك، فقد تكفل ببيانه أخي العزيز إبراهيم أفندي اللقاني سوى ما تركه في كتابه من انقلاب بعض القلوب من خاصتك، وتحول أحوالهم بعد نزول ما نزل بك، فقد تغلب أعوان الشر وأنصار السوء بقوة جاههم وشدة بأسهم، وأرغموا العقول على اعتقاد بالمحال، وألجئوها إلى التصديق بما لا يقال، حتى إنهم غيروا قلب دولتلو رياض باشا عليك وعلى تلامذتك الصادقين أياما معدودة، ركن فيها للعمل بالشدة والأخذ ببادرة الحدة، ولكن لم يلبث أن وصلنا إليه وجلوت الأمر عليك، وكشفت له ما أغمض من الحقيقة حتى زال ما لبس المبطلون ... وهكذا ضممت إلى كل من كان ينتسب إليك صادقا في الانتساب أو كاذبا، حتى إني لم أتأخر عن مساعدة أولئك الأشقياء الأدنياء ... وأمثالهم من اللئام، تحسينا للظن وإيثارا لجانب العفو، فأصلحت لهم القلوب، وفسحت لهم من الصدور، وفتحت لهم أبواب التقدم إلى المنافع الغزيرة، لكنهم لم يرعوا ودا ولم يحفظوا عهدا، ولا حاجة الآن إلى إيضاح ما يصدر عنهم خيانة ولؤما، وألفت لحبك ممن حرم التشرف بلقائك قبيلا ليس بالقليل، يجلون قدرك ويعرفون لك فضلك، وكنا وإخواننا كما شرح لك إبراهيم أفندي اللقاني ... ولسيرنا في تلك الحوادث نبأ طويل إذا أردت يا مولاي أن أقدم إليك به تاريخا ربما يكون مفيدا، فإنا رهين الإشارة، ونحن الآن في مدينة بيروت نقضي بها مدى ثلاث سنوات، لا لذنب جنيناه ولا جرم اقترفناه ... فها نحن سالكون في سنتك وعلى سنتك، ولا نزال إلى انقضاء الآجال، ولولا أطفال لنا رضع، ونساء لنا طوع، أبينا لهم الذل، وأنفنا لهم الضيم، فأتينا بهم هنا إلى حيث أقمنا، لكنت أول من تلقاك في مدينة باريس، لأسعد بالإقامة في خدمتك ... ولا أتكدر مما أشرت إليه في كتابك إلى أبي تراب، حيث طعنت في ثقتك بالناس أجمعين، وبالغت حتى سحبت الطعن إلي وإلى إبراهيم أفندي ... أما اختلال ثقتك بالدواهي والبلايا فقد صادف محلا لمن نقضوا عهدك وحالفوا عدوك، فاستبقوه للوجود وأنت موجود ...»
ولا نزيد في الاقتباس من هذا الخطاب على ما أوردناه من هذه الفقرات الضرورية لجلاء الموقف كله، وجلاء الموقف خاصة بين هذين الرجلين في أعقاب الثورة العرابية، فجملة ما يقال في هذا الموقف أنه موقف فتنة عمياء تلتبس خفاياها على المقيم بين ظهرانيها، فضلا عن المغترب البعيد عن ظواهرها وبواطنها، محجوبا بحجاب الرقابة الكثيف عن المباح والمحظور من أخبارها، ولولا ذلك لما التبست الحقائق على قلب ذلك المصلح العظيم، فأوشك أن ييأس من الناس كافة ، على غير المعود من شيمته وشيم الدعاة المصلحين أجمعين.
ونحن لا نعرف الآن بيانا وافيا عن أسماء أولئك الأصحاب والأنصار الذين تركهم جمال الدين بعده في الديار المصرية، فإنه كان - أثناء مقامه بها - قد برئ من طائفة منهم دخلوا معه في المحفل الماسوني الذي انضوى إليه السيد على أمل في مناصرة الشرقيين والأوربيين على دعوته العامة، تصديقا لما شاع عن مزاعم الماسون أنهم ينتصرون للحرية الإنسانية، ولا ينقادون لدولهم وحكوماتهم في سياستها الشرقية، فلما تبين بطلان هذه المزاعم نفض يديه من المحافل عامة وممن بقي على الولاء لها في ذلك المحفل وفي غيره، ولم يزل يحتفظ بأسماء زملائه الباقين على ولائه، وهم الذين سماهم ولاة الأمر بجماعته السرية في منشور نفيه، ونحسبه لم يكتم أسماءهم إلا حماية لهم من كيد وكلاء الدول وجواسيس الحكومة، وتمكينا لهم من العمل مع إخوانهم بمأمن من أعين الرقابة وحبائل الإغراء والدسيسة، فقد بقيت مع هؤلاء الأولياء المخلصين بقية لم تعلن أسماؤهم لذلك السبب، ولكنهم على الأرجح هم الفئة التي تألف منها فرع جماعة «العروة الوثقى» بالديار المصرية، وهي الجماعة التي أصدرت صحيفتها في باريس بعد انتقال الشيخ محمد عبده إليها.
فإن الشيخ قد عول على اللحاق بأستاذه في باريس بعد أن أقام بمدينة بيروت عاما أو أكثر من عام، ولحق بأستاذه لإصدار صحيفة سياسية تشن الحملة على الاستعمار، وتعمل لإثارة الشعوب المغلوبة عليه، وكانت مجازفة من الشيخ لم يكترث لعواقبها الوبيلة عليه وعلى ذويه، ومنها فراق أطفاله الصغار، وإطالة أجل النفي عن بلاده من ثلاث سنوات كادت تنقضي إلى غير نهاية موقوتة، مع المعيشة بغوائل الفاقة والمكيدة في ديار الغربة التي تجمعها عصبية المنفعة على كل من يكافح الاستعمار، ولو في بلاد غير بلاده.
ويتلخص برنامج العروة الوثقى في مبدأ عام ينطوي على مبادئ كثيرة، وهو حرب الاستعمار بكل وسيلة مستطاعة، ومن تلك الوسائل تحريض المحكومين على حكوماتهم الأجنبية، وإزالة أسباب الخلاف بين الدول الإسلامية لسد الثغرات التي يتسلل منها المستعمر بين تلك الدول لتأليب بعضها على بعض، وتسخيرها جميعا كما حدث غير مرة في طريق الهند على علم من جمال الدين بدخائل هذه السياسة التقليدية، ومنها ضم الصفوف الوطنية حيث يعيش المسلمون مع غير المسلمين، وهو مبدأ تأسست عليه دعوة جمال الدين قبل نفيه، ومن أجله أنشأ المحفل الماسوني الذي نشأ بمصر للاشتراك بين أتباع الديانات جميعا في قضية الحرية، ولم يزل لسان حاله في الصحافة قبل النفي وبعده أديبا مسيحيا كاثوليكي المذهب هو أديب إسحاق، الذي ثبت على هذا المبدأ إلى يوم وفاته.
وقد كانت صحيفة «العروة الوثقى» إحدى وسائل الجماعة، ولم تكن هي وسيلتها الوحيدة ولا وسيلتها الكبرى؛ لأن الحكيمين لم ينقطعا أثناء مقامهما بباريس عن الاتصال سرا وجهرا بأنحاء العالم الإسلامي، ولا بمراجع السياسة الفعالة في عواصمها المشهورة، ومن ذلك أن الجماعة أوفدت الشيخ محمد عبده إلى لندن لإثارة المسألة بحذافيرها أثناء قيام المهدي بثورته في السودان، وكان زبانية الاستعمار - كعادتهم - يخيفون المصريين من مقاصد المهدي، ويشيعون عن «مخابراتهم السرية» أنه ينوي غزو وادي النيل كله، وأن الحكومة المصرية لا تقوى على صده بغير المعونة البريطانية، فلما سأل الشيخ محمد عبده في حديث جرى بينه وبين مندوب صحيفة البال مال غازيت عن هذا الخطر المزعوم، قال: «لا خطر على مصر من حركة المهدي، إنما الخطر على مصر من وجودكم أنتم فيها، وإنكم إذا غادرتم مصر فالمهدي لن يرغب في الهجوم عليها، ولن يكون في هجومه أدنى خطر، وهو الآن محبوب من الشعب؛ لأنهم يرون فيه المخلص لهم من الاعتداء الأوروبي، وسينضمون إليه عند قدومه.»
Bilinmeyen sayfa