قال الفقيه: «ولكنه يحتال هذه الحيلة علينا لعلمه أن الأمير عبد الله لا يمكن أن يعصي أمر والده، فيرسل الفتاة حالا، ومتي صارت في قصر الخليفة سلمها الخليفة إلى ولي عهده.»
فأطرق سعيد هنيهة وهو يفكر. ثم أعاد النظر إلى الرق وقرأه ثانية وقال: «لا يمكن أن يفعل ما تقول؛ فإنه يطلب إرسال عابدة ليراها بعد أن سمع بأدبها ورخامة صوتها. نعم هو يقول إنه سمع ذلك من ولي العهد، ولكنه إذا رآها لا يعطيها له.»
قال الفقيه : «وهل تظن أن ولي العهد يسكت عنها ولا يطلبها من أبيه؟ وإذا طلبها منه هل تظن أن أمير المؤمنين يغضبه ويحول بينه وبينها؟»
قال سعيد: «أظن أنه يغضبه، ولا يسلمها له.»
فقال الفقيه: «وهل يرضى الحكم بذلك؟ ويرضخ كما يفعل مولانا الأمير؟»
فقطع الأمير كلامه قائلا: «إن طاعة والدي فرض علي وعليه، فإذا لم يرض أو إذا آثره والدي علي بهذه الجارية ...» ولما وصل إلى هنا اعتدل في مجلسه، وقد تملكه الغضب، وجعل يحك أنفه ويهز رأسه. متشاغلا عما جال في خاطره.
فقال الفقيه: «اسمع يا مولاي. إذا امتنع أمير المؤمنين عن تسليمها لأخيك، وغضب هذا وتنافرا، كان ذلك غاية ما نرجوه؛ لأن الخليفة يرجع عند ذلك عن قراره ويجعل ولاية العهد إليك. ولكن ما قولك إذا لم يتغاضبا عليها؟»
وكان الأمير عبد الله قد اشتد حنقه حتى عجز عن كظمه وخاصة لانحراف مزاجه، والرجل أثناء المرض تبدو له الأمور غير ما تظهر في حال صحته، وكثيرا ما تهون عليه وهو في اعتدال مزاجه وتمام صحته أمور لا تهون عليه وهو مريض، وذلك أمر مشاهد لا ريب فيه. حتى التوعك البسيط، يبعث صاحبه على حدة الطبع والخروج عن الاعتدال، فيخونه الصبر ويعصاه الكظم، فيقول ما لا يرضاه لنفسه وهو في صحته، فالأمير عبد الله كان يحمل نفسه مضض الكظم خوفا من الفشل، وكان يرجو نصرة أبيه. فلما رأى أباه يطلب نفس ما طلبه أخوه غضب وهان عليه الخروج عن طاعته. فلما سمع سؤال الفقيه: «وإذا لم يتغاضبا؟» صاح: «إذا لم يتغاضبا سوف أغضب أنا.»
فقال الفقيه: «وهل تعرف الغضب يا سيدي؟!»
فنظر سعيد إلى الفقيه شزرا وقال: «أراك لا تحسن التعبير يا فقيه! إن العاقل لا يغضب إلا قليلا، وإذا غضب كان غضبه عظيما. ألا تذكر ما كان من صبر مولانا وطول أناته، وكم أردت إغضابه ولم يغضب؛ لأنه كان يتوقع بابا للفرج محافظة على كرامة أمير المؤمنين، ومراعاة لحقوق أخيه، فلما لم يفد الصبر غضب، وليس غضب مثله يجوز في كل حال؛ لأنه لا يغضب ويرضى في كل ساعة كالأطفال، وإنما يصبر ويكظم، حتى إذا يئس من المسألة غضب، فتغضب لغضبه الأمة برمتها، ولا ترضيه عند ذلك كلمة لطيفة، وإنما يرضيه أن يعود إليه حقه بعد ضياعه.» وكان يتكلم بلهجة الجد، فلما وصل إلى هنا تراجع وأظهر أنه صرح بما لم يكن يريد التصريح به.
Bilinmeyen sayfa