فلما أطلع عبد الرحمن الناصر على ذلك الكتاب انبسطت نفسه، وسر سرورا عظيما بتلك الهدية، واعتز بسلطته ومقامه. وكان سعيد في أثناء اشتغال الخليفة بمشاهدة الهدية يحدث جاره الفقيه ابن عبد البر، ولما كاد الخليفة أن يفرغ من مشاهدة الهدية، آنس سعيد اضطرابا على وجه الفقيه، فعلم أنه يتهيب من الوقوف للخطابة، وهم بسؤاله فسبقه الفقيه إلى السؤال قائلا: «ها نحن في المجلس، ولا يلبث الخليفة أن يدعوني للخطابة، فما رأيك هل أنجح؟ استطلع لي الطالع.» فأخرج سعيد الكتاب من جيبه خلسة وفتحه، وأخذ يقلب فيه وينظر إلى الحاضرين حوله، ويعيد النظر في الكتاب، والفقيه ابن عبد البر ينتظر ما يقوله، ولما طال سكوت سعيد شغل بال الفقيه وارتبك في أمره خشية أن يسمع ما يغضبه، وبينما هو في ذلك الاضطراب، إذ سمع صوتا يناديه من صدر البهو عرف أنه صوت الحكم ولي العهد يقول: «يسمعنا الفقيه محمد بن عبد البر الكسيباني كلمة في وصف هذا المجلس الحافل.»
وكان الخليفة هو الذي طلب إلى ولي العهد أن يختار من يرى من الفقهاء أهلا للخطابة قبل أن يتقدم الشعراء للنشيد، فاختار ابن عبد البر لأنه كان صنيعته، وكان يدعي القدرة على إجادة الكلام إجادة ليست في وسع غيره، فلما سمع ابن عبد البر ذلك النداء أجفل وزاد ارتباكه وذهب الخطاب من ذهنه، لكنه وقف وقد امتقع لونه وأخذت لحيته ترقص في وجهه، وشفتاه ترتجفان، وزادته أبهة المقام وجلا، فأرتج عليه، ولم يهتد إلى كلمة يقولها، فغلبه الخجل والقنوط فأغمي عليه وسقط إلى الأرض، فهرع إليه سعيد وظل يعنى به حتى أفاق، فأجلسه وأخذ يخفف عنه.
ونهض في أثناء ذلك إسماعيل القالي صاحب الأمالي، وكان حاضرا فخطب، وخطب أيضا منذر بن سعيد أحد الفقهاء فأجاد كثيرا، وأدى ذلك إلى توليه القضاء بعد حين. ثم أنشد الشعراء قصائدهم إلى أن انفض الاحتفال وتفرق الناس، ومضى كل منهم إلى سبيله.
الفصل الخامس عشر
تغيير
أما سعيد فشارك رفيقه الفقيه في أسفه إلى أن قال له: «والله إني كنت خائفا من هذا الفشل من قبل؛ ولذلك رأيتني ارتبكت في الجواب حين سألتني عن الطالع.»
فقال الفقيه: «لا أدري ما الذي أنساني الخطاب كأني لم أخط منه حرفا، ولعل ذلك من سوء الطالع. أظن أن وجود القالي أفسد علي طالعي.»
قال سعيد: «لا، بل هو منذر بن سعيد. يا لله! إنما الدنيا حظوظ وطوالع! أيرتج على الفقيه ابن عبد البر ويفلح المنذر بن سعيد!» قال ذلك بنغمة الأسف وهز رأسه وعمد إلى أن يتمم غرضه، فأظهر أسفه الشديد على ما اتفق للفقيه ابن عبد البر وقال: «والأمر الذي ساءني على الخصوص ...» وسكت.
فابتدره الفقيه قائلا: «لا بد أن يكون قد ساءك ارتباكي مع اعتقادك الأكيد أني أستطيع الكلام، وقد سمعت خطابي وأعجبت به.»
فقطع سعيد كلامه قائلا: «إن ارتباكك ساءني طبعا، ولكن هناك أمرا آخر أغضبني. دعنا من ذلك الآن.»
Bilinmeyen sayfa