فقالت وهي تبالغ في الاستخفاف: «صدقت، إن الناصر لا يحبني أبدا، ولكن أنت وحدك تحبني. ما كان أغناني عن هذه المحبة! بل ما أحوجني إلى بغضك!» قالت ذلك وصرت على أسنانها.
فلما رأى جفاءها تقدم نحوها وهو يتكلف الاسترضاء وقال: «سامحك الله يا حسناء، كلما شكوت إليك غرامي وذلي زدت نفورا وجفاء.»
فلما دعاها باسمها الأصلي تذكرت أخاها فخافت عليه، فعادت إلى التجلد والملاطفة فقالت: «لقد أسأت إلي بمجيئك على هذه الصورة حتى أغضبتني وحملتني على ما قلت، ونحن كما تعلم قد تواعدنا واتفقنا.»
قال: «إنما حملني على المجيء حبي لك وغيرتي عليك.»
فمدت يدها نحوه كأنها تستوقفه وقالت: «لا فائدة من الغيرة وأنا في هذا القصر، وعما قليل أكون لك، لا تسألني عن شيء.»
فلما سمع قولها استخفه الفرح وصاح: «تكونين لي؟ قبلت ذلك، وعفا الله عما سلف .»
قال ذلك وهو ينظر في عينيها وقد نسي الغيرة والشك، وتناول يدها كأنه يهم بتقبيلها، فجذبتها منه ونظرت إليه نظرة عتاب وتوبيخ، وقالت: «امض الآن ولا تجعل للناس سبيلا إلى الظنون.»
فتحول وخرج وهو يحسب أنه قد تحققت له أهم أسباب السعادة بما سمعه من وعودها، فدخل غرفته واستلقى على فراشه، فعادت إليه هواجسه فأخذ يفكر في حاله، فاستغرب انقياده الأعمى لداعي قلبه ونسيانه المهمة الأصلية التي قام من أجلها، وقد قامت معه إفريقية كلها، وعول خليفتها عليه ووضع ثقته فيه، حتى إنه لو كتب إليه يطلب تجريد جيش لفعل، فكيف يشتغل عنه بحب جارية لا تحبه؟! فأحس بصغر نفسه وضعف إرادته كأنه عبد لعواطفه، فأخذ يوبخ نفسه على ذلك الضعف. ولكنه كان كلما هم بالرجوع إلى رشده والعدول عن الغرام إلى طلب العلى بحد الحسام، تمثل الزهراء وتصور أنها طوع إرادته، فتنحل عزيمته ويفتر حماسه.
الفصل الستون
طارق آخر
Bilinmeyen sayfa