Abdurrahman el-Kavakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Türler
فإذا انقسمت الديانات إلى ديانات إيمان وديانات مراسم وتقاليد، فالإسلام في طليعة الديانات التي يغلب فيها الإيمان على المراسم الشكلية والتقاليد النقلية، وتفتح الباب على مصراعيه لوساطة الكهان وسلطان الهياكل والمحاريب.
وفي غير موضع من مساجلاته يذكر هذا الإيمان الأصيل في البديهة الإنسانية، فهو تارة «ناموس شريف واحد مودع في فطرة الإنسان، وهو إذعانه الفطري للقوة الغالبة؛ أي معرفته الله بالإلهام الفطري الذي هو إلهام النفس رشدها وإلهامها فجورها وتقواها، ولا ريب أن لهذه الفطرة الدينية في الإنسان علاقة عظمى بشئون حياته؛ لأنها أقوى وأفضل وازع يعدل سائر نواميسه المضرة، ويخفف مرارة الحياة التي لا يسلم منها ابن أنثى ...»
ويعود بعد قليل فيقول: «إن النوع الإنساني مفطور على الشعور بجود قوة غالبة عاقلة لا تتكيف، تتصرف في الكائنات على نواميس منتظمة ... وإن هذا الشعور يختلف قوة وضعفا حسب ضعف النفس وقوتها، ويختلف الناس في تصور ماهية هذه القوة حسب مراتب الإدراك فيهم أو حسبما يصادفهم من التلقي عن غيرهم، وذلك هو الضلال والهداية، على أن الضلال غالب؛ لأن موازين العقول البشرية مهما كانت واسعة قوية لا تسع ولا تتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية ...»
ثم يقول بعد استطراد: «إن أصل الإيمان بوجود الصانع أمر فطري في البشر كما تقدم، فلا يحتاجون فيه إلى الرسل، وإنما حاجتهم إليهم في الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما يجب من التوحيد والتنزيه.»
وقد ثبت عنده كما قال: «ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من الناس بلا دين لهم مطلقا؛ بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد من أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد من أصل باطل ...»
ومن ثم يتلخص كل إصلاح ديني نهض به الكواكبي في تصحيح الإيمان واعتبار الشعائر والفرائض آية على صحة الإيمان، تدل على سلامته بمقدار سلامتها من تشبيهات الوثنية وعوارض الشرك والزيغ عن الوحدانية، ولا بقاء للظلم والفساد مع هذا الإيمان، ولكنهما قد يبقيان ويطول بقاؤهما مع قيام الشعائر التي فارقتها روح الدين ولم يتخلف منها غير الرسوم والأشكال.
قال في كلامه عن الاستبداد والترقي في طبائع الاستبداد: «ولا أظنكم تجهلون أن كلمة الشهادة والصوم والصلاة والحج والزكاة كلها لا تغني شيئا مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر قياما بعادات وتقليدات وهوسات، تضيع بها الأموال والأوقات.» •••
هذا الإيمان هو قوة الإسلام، وهو مبعث الغيرة التي تثير المؤمن على البغي والغشم؛ لأنهما استعباد يأنف منه من يرفض العبادة لغير الله.
ولهذا يعقب الكواكبي بعد تلك العبارة قائلا: «إن الدين يكلفكم - إن كنت مسلمين - والحكمة تلزمكم - إن كنتم عاقلين - أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقل في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين.» •••
ومما يذكر من محرجات الإصلاح الديني في عصر الكواكبي بصفة خاصة، أن أزمته لم تكن أزمة إصلاح ولا أزمة شعب يعاني مشكلاته الاجتماعية من هذه الناحية، ولكنها كانت أزمة الدين نفسه؛ بل أزمة العقيدة الروحانية على اختلاف الأديان في بلاد الحضارة؛ لأنها كانت أزمة الاصطدام بين الدين والعلم من أواخر القرن الثامن عشر إلى الحقبة التي نشأ فيها الكواكبي في القرن الذي تلاه، ولاحقته آثاره ولم تزل تلاحقه إلى أخريات أيامه في أوائل القرن العشرين.
Bilinmeyen sayfa