فخطر له أن عتبة جاءته من عند مولاتها العباسة للتداول في شأن السفر، فقال: «قل لها إني راجع الساعة فأخاطبها بما تريد.»
فقال الحاجب: «إنها تطلب مقابلتك حالا.»
فخطر له أن يقابلها ويسألها عن شأنها، ولكنه خشي أن يلاحظ مسرور ذلك فيبلغه إلى الرشيد ، فوقف برهة يتردد في الأمر، ثم تذكر ريحان، وأنه يعلم بكل ما يتعلق بالسفر، فقال للحاجب: «دعها تقابل غلامنا ريحان وتطلب ما تريده؛ فهو مفوض من قبلنا.»
فأشار مطيعا، وخرج جعفر حتى بلغ باحة القصر، فركب في موكبه من الفرسان والغلمان، وساروا يطلبون قصر الخلد يتقدمهم مسرور على فرس، ويتوسط الموكب جعفر بسواده وقلنسوته، وحوله الفرسان من نخبة رجاله، وأكثرهم من الفرس، وكلهم يفدونه بأرواحهم، وكان إذا ركب اعتز بهم، فقطعوا الشماسية حتى أتوا الجسر، فتخطوه وأقبلوا على الميدان أمام قصر الخلد، فلما وصلوا باب القصر ترجل مسرور، وأشار إلى فرسان الموكب أن يقفوا هناك، فوقفوا وهم في غفلة عما يريد، فدخل مسرور وجعفر والغلمان في ركابه، ولم يفطن لاشتغال خاطره بأمر تلك الدعوة. ولما دخلوا أومأ مسرور سرا إلى الحراس فأغلقوا الباب، وكانوا قد أحيطوا علما بذلك قبل ذهابه، ثم دخلوا الباب الثاني فاستبقى الغلمان خارجه، ودخل جعفر فأقفل الباب وراءه. ولما دخل الباب الثالث التفت فإذا هو وحده ولم يبق معه أحد من رجاله، فندم على ركوبه في تلك الساعة وقد تعذر عليه الرجوع، ورأى في فناء القصر قبة تركية - كان قد نصبها مسرور هناك بأمر الرشيد - وحولها أربعون غلاما من السودان، فظن أن الرشيد ينتظره فيها، فدخلها فلم يجد أحدا، وإنما شاهد في أرضها سيفا ونطعا، فأيقن بالهلاك، ووقف وركبتاه ترتعدان، وغلب عليه الخوف، وصغرت نفسه؛ لعلمه بوحشية مسرور، وأنه لو أراد مقاومته لا يقوى عليه. وهب أنه غلبه فلا فائدة من فوزه وهو محصور في تلك الدار، فعمد إلى الملاينة، فقال لمسرور: «ما الخبر يا أخي؟»
فضحك مسرور في استخفاف وقال: «أنا الساعة أخوك، وفي منزلك تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية، وما كان الله ليهملك ولا يغفلك؛ فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة.»
فلما سمع جعفر قول مسرور بهذه الصراحة اقشعر بدنه، وكاد الدم يجمد في عروقه، وغلب عليه صغر النفس. ولعل ذلك الضعف طرأ عليه من الشرب - ويتوقع القارئ أن يرى من جعفر الوزير ثباتا ورباطة جأش في هذا الموقف شأن الرجل الكبير - ولكن الانغماس في الترف والخمر يضعف القلوب، ويوهن العزيمة، فلا صبر لصاحبهما على التجلد إذا تحقق من وقوع الخطر، ولا سيما ساعة خروجه من مجلس الشراب، كما كان حال جعفر في ذلك الصباح - فلما سمع مسرورا يخاطبه بهذه اللهجة الشديدة لم يتمالك عن الترامي عند قدميه، وأخذ يقبلهما ويقول: «يا أخي مسرور، أنت تعلم مدى إكرامي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف مكانتي من أمير المؤمنين، وما يفضي به إلي من الأسرار، ولعلهم بلغوه عني باطلا، وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، واتركني أهيم على وجهي.»
فقال مسرور: «لا سبيل إلى ذلك أبدا.»
قال جعفر: «احملني إلى أمير المؤمنين وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظره علي تتداركه الرحمة فيصفح عني.»
فهز مسرور رأسه وقال: «ما من سبيل إلى ذلك أبدا، ولا يمكنني مراجعته، وقد علمت ألا وسيلة إلى بقائك على قيد الحياة بأية حال.»
قال جعفر: «أمهلني ساعة وارجع إليه، وقل له إنك فرغت مما أمرك به، واسمع ما يقول، وعد فافعل ما تريد؛ فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة، فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك نعمتي مما ملكته يدي، وأجعلك أمير الجيش، وأملكك أمر الدنيا.»
Bilinmeyen sayfa