قال الرشيد: «خذ الارتفاع.»
فأخذه المنجم وأخبر الرشيد، فجعل الرشيد يحسب له ذلك بنفسه، ونظر إلى نجمه ثم التفت إلى جعفر وقال: «يا أخي، هذه ساعة نحس لا أرى إلا أنه يحدث فيها حدث؛ فالأوفق أن تؤجل سفرك إلى الغد، وهو يوم الجمعة، فتصلي وترحل في سعودك، وتبيت في النهروان، وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق في النهار؛ فإنه أصلح من اليوم.»
فشق هذا التأجيل على جعفر، وأخذ الطالع وحسبه لنفسه. وربما رأى غير ما قاله الرشيد، لكنه ليس من آداب مجالسة الخلفاء أن يراجعوهم أو يخطئوهم. ولعل الرشيد أدرك ذلك، فلم يقبل حساب المنجم، فحسب الطالع بنفسه.
فقال جعفر: «صدقت يا أمير المؤمنين؛ إن هذه الساعة ساعة نحس، وما رأيت نجما أشد احتراقا ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم، ورأي أمير المؤمنين صواب.»
ولبث جعفر ينتظر أمر الانصراف على عادة الخلفاء، فتزحزح الرشيد، فقام جعفر وخرج يلتمس قصره، والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه في داخل القصر، وعلى قارعة الطريق، وفي كل مكان، والكل غافلون عن حقيقة حاله وما يحدق بحياته من الخطر. وأكثر ما يشاهده الناس من مظاهر السعادة في أهل الدولة أو أرباب الثروة يقدرونه فوق قدره؛ لأنهم غافلون عما يشوبه من المتاعب والأخطار.
خرج جعفر من قصر الخلد وهو لا يصدق أنه سيستقل بعمله في خراسان، ويعيش آمنا بين أهله وأعوانه، ومعه زوجته العباسة وابناهما، وينجو من دسائس أهل البلاط وما يهدده من خطر على حياته.
فلما وصل جعفر إلى قصره بالشماسية بعث إلى حمدان، فلما أتى أخبره بتأجيل السفر إلى الغد، وأوصاه أن يهتم بأمر العباسة، فيبقى في الشماسية بعد سفره حتى يخيم الظلام، ثم يمضي إلى قصرها ومعه الركائب يحملها ومن شاءت نقله معها إلى النهروان، أو يسير بهما إلى ما وراء ذلك لتكون في مأمن. وهو يعلم أنها تحب أن تصطحب عتبة وأرجوان، ولكن حمدان لا يحتاج في مثل هذا إلى توصية لذكائه وإخلاصه. ثم خلع جعفر ثيابه وجلس للراحة.
الفصل الثالث والستون
عتبة وحارس القصر
أما عتبة فكانت قد أمرتها العباسة ساعة مجيء الرشيد أن تبعث إلى جعفر، فتخبره بما يهدده من الخطر لعله ينجو بنفسه، فمضت إلى غرف الجواري والخدم لترسل أحدهم في هذه المهمة، فرأت القصر محاطا بالحرس ولا سبيل إلى الخروج، فعظم عليها الأمر، وذهبت إلى غرفتها ترتعد خوفا على سيدتها بعد ما شاهدته من مجيء الرشيد على تلك الصورة، وأخذت تفكر فيما دهمها من الأمر، وأيقنت أن سيدتها ستصاب بشر عظيم، ولم تعلم أنها مقتولة بعد قليل. وما إن تحققت من قتلها حتى بكت وندبتها، وعلمت أن الخطر سيمتد إليها، ولكنها احتقرت حياتها بعد هذا المصاب، وأصبح همها أن تنفذ وصية سيدتها إلى جعفر؛ لأنها لم تكن تشك في قتله بعد قتل العباسة، فلا بد من أن تنبهه إلى ذلك لينجو بنفسه، فأعملت فكرتها في وسيلة تنذره بها، فرأت السبل مقفلة في وجهها، فزادت حيرتها وطلع الفجر وهي تطوف من غرفة إلى غرفة وهي تبكي وتندب.
Bilinmeyen sayfa