فلما سمع جعفر قوله تذكر أنها نفس العبارة التي قالها لإسماعيل حينما باحثه أمس فوخزه ضميره، وخشي أن يكون كلامه قد بلغ الرشيد، ولكنه استبعد أن ينقله إسماعيل، ولم يدر في خلده أن ذلك الغلام كتب به إليه، مع علمه أنهم يتجسسون كل واحد على صاحبه، على أنه لم يعمل فكرته في ذلك؛ لاعتقاده بقرب النجاة من هذه المخاوف بالخروج إلى خراسان، فأظهر شكرا لإطراء الرشيد وقال: «مهما بذل العبد في خدمة مولاه فلا منة له ولا فضل.»
ومكث جعفر ينتظر أمر الرشيد بانصرافه إلى خراسان؛ لأن التأدب يقضي أن يبدأ الخليفة بذلك، فلما لم يسمع منه شيئا في هذا الشأن قال: «هل يأذن لي أمير المؤمنين بالانصراف؟» ولم يذكر خراسان؛ فقد تحمل عبارته على أنه يطلب الانصراف إلى منزله.
فقال الرشيد: «هل تهيأت للسفر إلى عملك؟»
قال جعفر: «نعم يا سيدي.»
فقال الرشيد: «وهل تنوي الذهاب في هذا اليوم؟»
قال جعفر: «إذا أمر أمير المؤمنين.»
وكان الرشيد يريد تأخيره بحيلة ريثما يدرك غرضه، فمتى أراد الفتك به كان قريبا منه؛ لأنه ظل حتى تلك الساعة مترددا في ذلك الأمر لما يعلمه من أحزاب البرامكة، حتى بني هاشم أنفسهم كان أكثرهم يحبونهم، فعلم أن الفتك بجعفر يقتضي الاحتياط وإعمال الفكرة، فهو ليس كالفتك بالعباسة، فرأى أن يحتال في تأخير سفره، فقال له: «وهل استطلعت ارتفاع نجمك في هذا النهار؟»
قال جعفر: «كلا يا مولاي.» وكانوا شديدي التمسك بالطوالع يعتقدون بالسعد والنحس في النجوم باختلاف الساعات، وكانت منازل الكبراء لا تخلو من أسطرلاب لإخراج الطالع عند اللزوم، وكان عند الرشيد أسطرلاب متقن الصنعة ورثه عند جده أبي جعفر المنصور؛ لأنه كان شديد العناية بالتنجيم والمنجمين. وكان الأسطرلاب موضوعا على رف من الأبنوس المرصع بالعاج بجانب سرير الرشيد ليستخدمه عند الحاجة، وكان له إلمام بهذه الصناعة، وجعفر أعلم منه، فبادر الرشيد حينئذ إلى الإسطرلاب وأمر الحاجب أن يأتيه ببعض المنجمين، فما لبث أن جاء بأحدهم؛ لأنهم من جملة أرباب الفنون المقيمين في قصر الخلد على عادة الخلفاء في ذلك العصر.
فلما دخل المنجم قال له الرشيد: «كم مضى من النهار؟»
فقال المنجم: «ثلاث ساعات ونصف ساعة.»
Bilinmeyen sayfa