فأمسكه مسرور بيد من حديد وقاده إلى النطع بعنف كأن له عليه ثأرا دمويا، فسقط أرجوان وهو يصيح: «الأمان الأمان.»
فلم يمهله مسرور حتى يقول الثالثة، لئلا يجيب الرشيد طلبه فيعفو عنه وهو سفاك غليظ القلب، يلذ له منظر سفك الدماء، ويفتخر بعدد الذين قتلهم، وبسرعة فتكه بهم، فابتدر أرجوان بضربة سيف على عنقه فأزاح رأسه عن كتفيه.
أما الرشيد فحول وجهه وسأل عن زبيدة، فدلوه على غرفتها، فدخل عليها وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما. وكانت متربعة على فراشها وقد أطرقت تفكر، فلما رأت الرشيد داخلا تحفزت للقيام ولم تقم. أما هو فلم يلتفت إلى شيء من ذلك لما هو فيه من الحنق، وقال وصوته يرتجف، ولحيته ترقص، وقد امتقع لونه: «أرأيت ما عاملني به جعفر؟ وما ارتكب من هتك عرضي وفضيحتي بين العرب والعجم؟»
فقالت زبيدة في صوت هادئ وجأش رابط: «هذه شهوتك وإرادتك. عمدت إلى شاب جميل الوجه، حسن الثياب، طيب الرائحة، جبار في نفسه، فأدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله، وهي
والحطب.»
فقال الرشيد: «ألا تزالين تعنفينني؟! والله سأمحو هذا العار عني بالدماء.»
فسرها تهديده وأحبت أن تمكنه من عزمه انتقاما من جعفر فقالت: «سنرى ما يكون، وأخشى أنك إذا رأيت وزيرك غيرت عزمك؛ إذ يغلب عليك حنان الأخوة فتعفو عنه!» قالت ذلك وهي تتشاغل بتثنية أهداب كمها المزركش بالقصب، وبان الغضب والعتب في عينيها.
فأحس الرشيد بما ينطوي تحت تلك العبارة من القوارص، وشعر أنه صاحب الذنب وحده؛ لأنه كثيرا ما سمع نصحها له في هذا الشأن ولم يعرها التفاتا، ولكنه استكبر تعريضها بذلك في تلك الساعة، ولولا احترامه لها ما صبر على توبيخها. ومع ذلك فقد كظم غيظه وتجلد وتنهد ونظر إليها وقال: «كفى يا ابنة العم. فما علينا إلا كتمان هذا الخبر ما استطعنا إلى كتمانه سبيلا. وأي إنسان علمت أنه اطلع عليه قتلته، إلا أنت. وقد قتلت أرجوان بعد أن أمنته؛ لأني لم أطق صبرا أن أرى رجلا يعلم بهذه الخيانة التي لطختني بها أختي ووزيري؛ الذي أسميه أخي.» ثم انتبه لنفسه وندم على تصريحه بما في خاطره على جعفر، ولا سيما بين يدي زبيدة، وهي أشد أعدائه نقمة عليه، فتماسك وحاول الابتسام والتجلد وقال: «ولكن الإنسان موضع الخطأ والنسيان.»
فأدركت زبيدة ما يتضارب في خاطره من العواطف وأحست أنه يهم بالخروج، فوقفت له وحاولت إجلاسه فامتنع وودعها وهو لا ينظر إليها إما خجلا أو حنقا، فأمسكت بيده واستوقفته فوقف وهو لا يلتفت إليها فقالت: «تمهل. ألا تحب أن تعرف مكان الغلامين؟»
فأجفل الرشيد وقال: «الغلامان؟ علمت أنهما في المدينة.»
Bilinmeyen sayfa