أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - مدينة بغداد
2 - أبو العتاهية
3 - غريبان
4 - عتبة
5 - دار فنحاس
6 - التلصص
7 - العباسة
8 - البغتة
9 - الهاجس
10 - طارق
11 - دار الرقيق
12 - ألوان من الرقيق
13 - الجواري المولدات
14 - المساومة
15 - القبض على أبي العتاهية
16 - الصولجان والكرة
17 - قصر العباسة
18 - المقابلة
19 - الرأي الصواب
20 - قصر الأمين
21 - جعفر بن الهادي
22 - محمد الأمين
23 - مناطحة الكباش
24 - دار النساء
25 - مجلس طرب
26 - المغنيات وأبو نواس
27 - الطرب بالطعن
28 - إسماعيل بن يحيى
29 - الدهشة
30 - مقتل الهادي
31 - البرامكة والدولة
32 - العالية بنت الرشيد
33 - خبر جديد
34 - زبيدة بنت جعفر
35 - دار القرار والجواري المقدودات
36 - المشورة والحيلة
37 - قصر الخلد
38 - وفد ملك الهند
39 - مجلس الرشيد
40 - الفشل
41 - عبد الملك بن صالح
42 - المناجاة
43 - باب الرشيد
44 - مجلس المنادمة
45 - تغير الحال
46 - السر
47 - مداعبة السباع
48 - المداجاة
49 - الخروج للصيد
50 - المفاوضة
51 - التصريح
52 - إسماعيل وجعفر
53 - العباسة وأرجوان
54 - الرشيد وزبيدة
55 - كشف السر
56 - الانتقام
57 - التردد
58 - العباسة والرشيد
59 - الجدال
60 - عذر الرشيد
61 - الفتك
62 - الوداع
63 - عتبة وحارس القصر
64 - الدعوة
65 - الرشيد ورأس جعفر
66 - قضي الأمر
67 - الحسن والحسين
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - مدينة بغداد
2 - أبو العتاهية
3 - غريبان
4 - عتبة
5 - دار فنحاس
6 - التلصص
7 - العباسة
8 - البغتة
9 - الهاجس
10 - طارق
11 - دار الرقيق
12 - ألوان من الرقيق
13 - الجواري المولدات
14 - المساومة
15 - القبض على أبي العتاهية
16 - الصولجان والكرة
17 - قصر العباسة
18 - المقابلة
19 - الرأي الصواب
20 - قصر الأمين
21 - جعفر بن الهادي
22 - محمد الأمين
23 - مناطحة الكباش
24 - دار النساء
25 - مجلس طرب
26 - المغنيات وأبو نواس
27 - الطرب بالطعن
28 - إسماعيل بن يحيى
29 - الدهشة
30 - مقتل الهادي
31 - البرامكة والدولة
32 - العالية بنت الرشيد
33 - خبر جديد
34 - زبيدة بنت جعفر
35 - دار القرار والجواري المقدودات
36 - المشورة والحيلة
37 - قصر الخلد
38 - وفد ملك الهند
39 - مجلس الرشيد
40 - الفشل
41 - عبد الملك بن صالح
42 - المناجاة
43 - باب الرشيد
44 - مجلس المنادمة
45 - تغير الحال
46 - السر
47 - مداعبة السباع
48 - المداجاة
49 - الخروج للصيد
50 - المفاوضة
51 - التصريح
52 - إسماعيل وجعفر
53 - العباسة وأرجوان
54 - الرشيد وزبيدة
55 - كشف السر
56 - الانتقام
57 - التردد
58 - العباسة والرشيد
59 - الجدال
60 - عذر الرشيد
61 - الفتك
62 - الوداع
63 - عتبة وحارس القصر
64 - الدعوة
65 - الرشيد ورأس جعفر
66 - قضي الأمر
67 - الحسن والحسين
العباسة أخت الرشيد
العباسة أخت الرشيد
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
هارون الرشيد:
الخليفة العباسي.
جعفر البرمكي:
وزير الرشيد.
العباسة:
أخت الرشيد.
زبيدة:
زوجة الرشيد.
أبو العتاهية:
شاعر الرشيد.
الأمين:
ابن هارون الرشيد.
عتبة:
جارية العباسة .
الفضل بن الربيع:
وزير الأمين.
مسرور الفرغاني:
الجلاد.
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ الطبري - الفخري - ابن الأثير - أبو الفداء - المسعودي.
كتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني.
تاريخ ابن خلكان.
العقد الفريد.
إعلام الناس، للإتليدي.
مروج الذهب للمسعودي.
فوات الوفيات.
نفح الطيب.
ديوان أبي نواس.
سراج الملوك.
الفرج بعد الشدة.
الفصل الأول
مدينة بغداد
كانت عاصمة الإسلام في أيام الراشدين يثرب (المدينة) تبركا بقبر النبي
صلى الله عليه وسلم ، فجعلها بنو أمية في دمشق مقر أحزابهم من قبائل العرب. فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، وقد ساعدهم عليها مواليهم الفرس، جعلوا عاصمة ملكهم على حدود بلاد الفرس. وكانوا أولا في الكوفة؛ إذ بايعهم أهلها، ثم انتقلوا إلى الأنبار على الفرات، وفيها توفي السفاح؛ أول الخلفاء العباسيين، وخلفه المنصور. وأول شيء قام به قتل أبي مسلم خوفا منه على منصبه. فقتله غيلة كما تقدم في رواية «أبي مسلم الخراساني»، فأصبح المنصور بعد قتله يخشى على نفسه من أصحاب أبي مسلم وأشياعه، وخاصة بعد أن ثار عليه منهم جماعة الراوندية، وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. وقد فتك رجال المنصور بالراوندية وقتلوهم، لكنه ظل خائفا من مثل هذه الثورة، فعمد إلى بناء حصن يأوي إليه بأهله ورجال حكومته، فبنى بغداد بشكل مستدير سمي مدينة المنصور، وجعل قصره في منتصفها وسماه قصر الذهب، وجعل قصور الأمراء ورجال الدولة وأبنية مصالح الدولة حوله، وبينها الأسواق للبيع والشراء، وبنى حول المدينة سورا في ثلاثة أسوار الواحد داخل الآخر: الأول أو الداخلي يحيط بالأبنية، ووراءه فراغ فيه أبنية كالقلاع ونحوها، ووراء الأبنية سور ثان متين وراءه فراغ للمرور حوله، ووراء هذا الفراغ سور ثالث، ووراء هذا السور خندق فيه الماء، وجعل للمدينة أربعة أبواب سماها بأسماء المدن التي تتجه نحوها؛ وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وافتتح فيها أربعة شوارع كبرى تمتد من الأبواب إلى مركز المدينة.
وكان المنصور يقيم أولا في قصر الذهب في منتصف مدينته، ثم اطمأن باله وازدحمت المدينة، فشيد قصرا خارج المدينة على شاطئ دجلة سماه قصر الخلد. وظل القصران مقر الخلفاء بعد المنصور إلى أيام الرشيد. وكان الرشيد يفضل الإقامة في قصر الخلد وأكثر إقامته فيه.
على أن مدينة المنصور لم تكن وحدها كافية لإقامة الجند ومن يلحق بهم من الباعة والأهل وغيرهم، ناهيك بمن تقاطر إلى تلك العاصمة من المسلمين وغير المسلمين، فابتنوا المنازل خارج المدينة، ورأى المنصور أن يقلل الازدحام، فرغب الناس في السكنى على البر الشرقي في مكان سمي الرصافة، وأنشأ فيه مسجدا وقصرا، فابتنى الناس حولهما المنازل. واتفق أن ابنه المهدي جاء بجيشه من خراسان فنزلوا في الرصافة؛ لأنها آخر طريقهم برا من خراسان، فأمرهم المنصور أن يبقوا هناك، وأقطعهم القطائع، فبنوا المنازل، وأصبحت الرصافة بلدا كبيرا. وكانت في بادئ الأمر معسكرا يعرف بمعسكر المهدي، ثم امتدت جنوبا وشمالا فتولدت أحياء المخرم والشماسية. وأقام الخلفاء الدور على ضفاف دجلة شرقا وغربا. يهمنا منها في هذا المقام قصر الخلد، وقصر زبيدة، وكلاهما على الضفة الغربية، وقصر جعفر البرمكي، ووراءه قصر الأمين على الضفة الشرقية.
ونشأت حول مدينة المنصور أحياء أخرى على الجانب الغربي، أهمها الكرخ، وفيه كان يقيم التجار من الأجانب وخاصة الفرس، وحي الحربية في الشمال، وأكثر سكانه من العرب، فكانت بغداد في أيام الرشيد قسمين: قسما شرقيا، وقسما غربيا، بينهما ثلاثة جسور أهمها الأوسط، ويعرف بالجسر أو جسر بغداد، وهو يوصل بين مدينة المنصور والرصافة رأسا. وكان في بغداد على عهد الرشيد وما بعده أنهار تنبع من دجلة والفرات وتخترق أحياء المدينة. وقد بنى الناس قصورهم على ضفافها أو فيما بينها، أشهرها: نهر عيسى، ونهر طابق، ونهر الدجاج، ونهر البزازين، ونهر الصراة، ونهر جعفر، وغيرها.
وكانت بغداد في أيام الرشيد آهلة بالقصور والحدائق، وأهلها في رغد ورخاء، والأموال تنصب في خزائنها بالملايين، والخليفة يهب ويجيز، والناس يتقاطرون إلى بغداد التماسا للتكسب بما يرضي الخليفة أو رجاله من أسباب الارتزاق، وفيهم العربي، والفارسي، والرومي ، والتركي، والكردي، والأرمني، والكرجي، والسندي، والهندي، والصيني، والزنجي، والحبشي ... على اختلاف الأجناس، بين صانع، وتاجر، ونخاس، وشاعر، ومغن، وأديب، ونحوي، وراو ... وفيهم المسلم، والذمي، والحر، والمولى، والعبد، والغلام، والجارية. وكلهم يحومون حول دار الخلافة أو دور الأمراء يبيعونهم السلع، أو يتملقونهم بالمديح، أو يدسون إليهم أسباب الزلفى استنزافا للأموال. وهؤلاء يبذلون الأموال بسخاء، يأنفون أن تعد عطاياهم بمئات الدراهم، وإنما يعدونها بالألوف وألوف الألوف. وكيف يقدرون قيمة المال وهو ينصب في خزائنهم انصباب السيل ... إذ كانوا يشاطرون أهل الأرض غلاتهم فضلا عن الجزية والغنيمة، فإذا صار ذلك إلى الخليفة وأمرائه استكثروه فأنفقوه على من يحوم حولهم من المقربين.
الفصل الثاني
أبو العتاهية
وكان في جملة المرتزقين بالشعر على أبواب الخلفاء أبو العتاهية، وأصله من الموالي مثل أكثر شعراء ذلك العصر.
وكان أبو العتاهية في أول أمره يصنع الجرار، ويحملها في قفص على ظهره، ويتجول في الكوفة ليبيعها، وكان ذا قريحة شعرية فنزل بغداد، وما لبث أن ارتقى بشعره إلى مجالسة الخلفاء. وأول من قربه منهم المهدي بن المنصور، وقد فتن به وبشعره حتى كان المهدي يصحبه في الصيد أو النزهة ويكرمه ويجيزه. وكان ذلك شأنه مع الهادي بن المهدي، ولم تطل مدة حكم الهادي، ولكنها على قصرها أثرت في قلب أبي العتاهية، فلما مات الهادي عاهد أبو العتاهية نفسه ألا يقول شعرا بعده.
فلما تولى هارون الرشيد طلب إليه أن يقول شعرا فأبى، فغضب عليه، وأمر بحبسه في مكان مساحته خمسة أشبار في خمسة، فاستعطفه وقال شعرا غنى به الموصلي؛ المغني المشهور، فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم، وأصبحت له عند الرشيد منزلة كبيرة، حتى كان لا يفارقه في حضر ولا سفر إلا في طريق الحج، وعين له الرشيد راتبا سنويا غير الجوائز، وغير ما كان يناله من رجال الدولة وجوائزهم يومئذ بألوف الدراهم، فجمع مالا كثيرا، لكنه كان مع ذلك طماعا شديد البخل يجمع المال ولا ينفقه، ولا يدخر وسعا في حشده بأية طريقة كانت، وخاصة بعد أن نذر الزهد وعاهد نفسه ألا ينظم شعرا، فقل تكسبه من الشعر، فأخذ يغتنم الفرص للاكتساب من أبواب أخرى.
وكان أبو العتاهية في خلافة الرشيد حوالي سنة 178ه يحضر مجلس محمد الأمين بن الرشيد، وهو يومئذ في السابعة عشرة من عمره. وكان الأمين ميالا إلى القصف واللهو منذ نعومة أظفاره لا يخلو مجلسه من المغنين، وأهل الخلاعة، والجواري، والغلمان، وهو أول من استكثر من الغلمان والخدم، وتفنن في انتقائهم وتزيينهم. وكان يشهد مجلسه كثيرون من الشعراء، ولا سيما أهل القصف والمجون منهم؛ كالحسن بن هانئ الملقب بأبي نواس. وكان أبو العتاهية مقربا من زبيدة أم الأمين، فكان يحضر مجلس الأمين لعله يصيب كسبا أو جائزة بسبيل من السبل. وكان الأمين كريما مسرفا لا يعرف للمال قيمة.
وكان لا يشهد مجلس الأمير من أهل الجد والدهاء إلا من كان له غرض سياسي لا يرى الوصول إليه إلا على يد الأمين، أو تقربا به إلى أمه زبيدة، وهي أحب نساء الرشيد إليه؛ لأنها ابنة عمه، ولها كلمة نافذة عليه.
وكان أكثر نساء الخليفة يومئذ من الجواري المعتقات؛ ولذلك لم يكن بين العباسيين خليفة أمه وأبوه هاشميان إلا الأمين، فكان الذين يحبون التقرب من الرشيد بالدالة أو الوساطة أو الدسائس يتزلفون إليها بالثناء على ابنها، مع اعتقادهم أنه ليس أهلا للخلافة، ويطعنون على أخيه المأمون؛ لأن أمه جارية فارسية، ويحطون من قدره عندها ... وهو في الحقيقة أفضل من ابنها عقلا وأدبا.
وكان أكثر الناس سعيا في هذا السبيل الفضل بن الربيع؛ لأن أباه كان وزيرا للمنصور والمهدي، وكان هو يرشح نفسه للوزارة. فلما تولى الرشيد الخلافة قرب يحيى بن خالد البرمكي، وفوض إلى ابنه جعفر بن يحيى الوزارة بكل معانيها؛ لأن أباه يحيى كان سببا في توليه الخلافة، فشق ذلك على الفضل بن الربيع، وثارت في نفسه عوامل الحسد، ولم يدخر وسعا في خلق الأسباب للإيقاع به، ولم يجد سبيلا إلى ذلك إلا بالتزلف إلى زبيدة وابنها؛ لعلمه أنها تكره الفرس جملة والبرامكة خاصة، ولا سيما جعفر بن يحيى؛ لأنه حمل الرشيد على مبايعة المأمون «ابن جاريتها» بولاية العهد بعد ابنها الأمين، فكانت تقرب كل من ينصر ابنها ويطعن على المأمون؛ ولذلك كان الفضل يحضر مجلس الأمين في لهوه، ويسايره في قصفه، ويتملقه للغرض الذي قدمناه.
فاتفق في مجلس حضره أبو العتاهية تلك السنة أن ذكر الأمين عزمه على ابتياع بعض الجواري البيض ممن يحسن الغناء، يضمهن إلى اللواتي في قصره. وأكثر المغنيات يومئذ من الجواري الصفر.
وكانوا يقتنون الجواري البيض للترفيه فقط. وأول من علم الجواري البيض الغناء إبراهيم الموصلي مغني الرشيد، فأحب الأمين أن يتخذ مغنيات من البيض، فأخبره الفضل بن الربيع أن كبير النخاسين أتى بعدد من الجواري الحسان أنزلهن عند كبير من تجار الرقيق في بغداد، وهو يهودي واسمه فنحاس، وأن الناس معجبون بجمالهن الفتان، فيمكنه ابتياع بعضهن، ويعهد إلى الموصلي أن يعلمهن الغناء. وأخذ الفضل على نفسه أن يذهب في الغد إلى ذلك التاجر، فينتقي له أحسنهن طلعة، وأطربهن صوتا، فلما سمع أبو العتاهية ذلك، توقع منه ربحا كبيرا بالتواطؤ مع فنحاس؛ لعلمه أن الأمين لا يهمه مقدار ما يدفعه من المال في هذا السبيل.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فرأى أن يذهب في تلك الليلة إلى فنحاس يخبره بعزم الأمين، وأنه هو الذي حمله على ابتياع الجواري من عنده، ويغريه على زيادة مبالغ كبيرة على الثمن الذي يقدره هو، على أن تكون تلك الزيادة مقابل سعيه في ذلك.
الفصل الثالث
غريبان
فهرول أبو العتاهية من ساعته يتلمس دار ذلك التاجر، والمسافة بينهما بعيدة؛ لأن قصر الأمين في جنوب المخرم في الجانب الشرقي من بغداد، ودار فنحاس في أعالي الجانب الغربي، بقرب دار الرقيق التي أنشأها المنصور؛ لما كان يبتاعه من الجواري والغلمان المجلوبين. وكان أبو العتاهية أبيض اللون، أسود الشعر، نظيف الثياب، له هيئة حسنة. وقد عرف باللباقة والحصافة. وكان تلك الليلة في ملبس بسيط غير ما تعود لبسه في مجلس الخليفة أو ابنه أيام كان ينظم الشعر ، وكان منذ عاهد نفسه على الزهد يلبس ثياب الفقراء. ولعل بخله حفزه إلى ذلك. وكان يلبس فوق ثيابه عباءة بسيطة، ويعتم بعمامة بسيطة كأنه من عامة الناس، فالتف تلك الليلة بالعباءة وغير شكل عمامته إخفاء لحقيقة أمره؛ لأنه ذاهب في شأن يحتاج إلى التستر.
فمشى على شاطئ دجلة وهو يتردد بين أن يصعد في إحدى السفن التي تسير في دجلة حتى يصل إلى الجسر، وينزل من هناك ماشيا إلى دار الرقيق، أو يجعل طريقه كله برا. وكان يفضل الذهاب ماشيا فرارا من نفقة الانتقال بالسفينة، أو على دابة من دواب الأجرة، فلما أطل على دجلة رأى بالقرب من الشاطئ شراعا منشورا وسفينة تخترق عباب الماء على عجل، فاستبشر وعزم على الركوب بها. وكان الليل قد أسدل ستاره وسكنت الطبيعة لبعد ذلك المكان عن الشوارع المزدحمة في الكرخ؛ لأن أكثر الأبنية القائمة على ضفاف دجلة من القصور الشماء، والحدائق الغناء، للخليفة أو وزيره أو بعض أولاده أو أهله، فصاح أبو العتاهية بالسفينة أن تقف فلم يجد صياحه نفعا، فأعاد النداء، فأجابه ربانها بأنه لا يستطيع الوقوف، فأعاد الصياح قائلا: «قف. ناشدتك المروءة.»
فسمع أبو العتاهية عند ذلك لغطا، ورأى النوتية في حركة عند الشراع فأرخوه بحيث تبطئ السفينة في سيرها، ورأى حركة المجاذيف فعلم أن أهلها في عجلة لأمر ما، وليس لمجرد النزهة في مياه النهر على جاري عادة أهل بغداد. ولم تكن الليلة مقمرة تشجع على النزهة. وبرز رجل حتى وقف على حافة السفينة ونادى: «من أنت؟»
فقال أبو العتاهية: «إني غريب أمسى علي المساء، وأحب الطلوع إلى الحربية، ولا أعرف الطريق.»
فلما سمع الربان قوله تحول عن حافة السفينة حتى توارى، والسفينة تتباطأ في سيرها. ولبث أبو العتاهية في انتظاره، وبعد هنيهة عاد الربان وهو يقول: «مرحبا بك؛ تفضل.» وأدنى السفينة من الشاطئ ثم أمر أحد النوتية فألقى خشبة بينها وبين الشاطئ، مشى عليها أبو العتاهية حتى دخل السفينة، وحيا الربان فرد التحية وأشار إليه أن يجلس على مقعد بجانب الشراع، فجلس وأجال نظره فلم يجد هناك غير النوتية؛ وهم أربعة، يستعينون على سرعة المسير بالتجذيف. وحانت منه التفاتة إلى مؤخر السفينة فرأى على نور القبس رجلا وامرأة عليهما ثياب أهل البادية، وقد جلسا وأحنيا رأسيهما من النعاس، وبجانب الرجل نعال غليظة من نعال أهل الحجاز.
ورأى بين أيديهما غلامين قد توسدا ظهر السفينة، وجعلا رأسيهما على حجر المرأة، كل واحد من ناحية، وعليهما ثياب أهل البادية، وقد غطتهما المرأة بمطرف من الخز الموشى، فاستغرب ذلك ودفعه حب الاطلاع إلى معرفة خبرهما.
وكانت السفينة تخترق النهر والجو هادئ لا يسمع فيه غير مسير السفينة تشق عباب الماء، وأصوات المجاذيف تنقر سطحه بانتظام. وما لبثوا بعد برهة أن أطلوا على أبنية بغداد وقد أنيرت القصور على الضفتين، ثم سمعوا أصوات المؤذنين يدعون الناس إلى صلاة العشاء، فوجد أبو العتاهية بذلك حيلة لمخاطبة الربان فقال: «أليس عندك طنفسة أصلي عليها العشاء؟»
فنهض الربان وجاءه بطنفسة فرشها على ظهر السفينة بالقرب من أولئك الغرباء، فنهض أبو العتاهية وأخذ في الصلاة وعيناه لا تتحولان عن الغريبين والغلامين وهو يتفرس الوجوه، فعلم أن الرجل والمرأة من أهل الحجاز، وهما كهلان، وخشونة البادية ظاهرة في ملبسهما. أما الغلامان فكان نور القبس قد وقع على وجهيهما، فعرف أبو العتاهية من خلال خفقان نور القبس أنهما أخوان؛ أحدهما في الخامسة من العمر، والآخر في نحو الرابعة، وفي وجهيهما جمال أهل المدن بلون أبيض مشرب بحمرة، ولهما عيون طويلة الأهداب كأنها مكحولة بالأثمد، وقد زادهما دفء الغطاء إشراقا وحمرة وهما مستغرقان في النوم، ورآهما أصغر سنا من أن يكونا ابني هذين البدويين، فازداد رغبة في معرفة الحقيقة عنهما. وما إن فرغ من الصلاة حتى اقترب من الربان وسأله قائلا: «لم أعرف رفاقنا الليلة، فهل هم غرباء مثلي؟»
فقال: «نعم.»
قال أبو العتاهية: «من أين أتوا؟»
فقال الربان: «مالك ولهذا السؤال؟»
قال: «لأن الغرباء أنسباء.»
فضحك الربان ضحكة مصطنعة وقال: «لا يهمك الاطلاع على أخبار الناس، دع عنك الفضول ؛ فإني لم أسألك من أين أتيت، أو إلى أين أنت ذاهب، ولا ما هو اسمك ونسبك.» قال ذلك وتركه وتحول إلى حافة السفينة. وكانت السفينة قد تجاوزت الجسر السفلي. وكان مفتوحا، وفتحه سهل؛ لأنه مؤلف من السفن السابحة متصلة بعضها ببعض بالسلاسل، وفوقها ألواح من الخشب لمرور الناس والدواب. وبعد أن تجاوزت السفينة الجسر أطلت على مدينة المنصور، واقتربت من الجسر الأوسط. ويندر أن يكون مفتوحا، فقال الربان: «قد اقتربنا من الجسر، وهذا آخر شوطنا؛ فتفضل وانزل.»
وكان أبو العتاهية قد استاء من خشونة الربان، وهم بأن يطلعه على حقيقة حاله؛ لأنه لو عرفه لاحترمه؛ وذلك لما كان للشعراء من النفوذ في دولة الخلفاء، ولكنه فضل الكتمان. ولما سمعه يناديه وقف وأسرع إلى حافة السفينة، فإذا هو بقرب قصر الخلد؛ حيث يقيم الرشيد، وقد أضيء القصر بالشموع الملونة، وانبعثت الأنوار من النوافذ على أزهار الحديقة، وتضوعت الروائح الزكية، فاختلطت رائحة البخور والطيب بشذا الأزهار والرياحين. وتذكر أبو العتاهية المهمة التي هو ذاهب إليها وما يتوقعه من وراء نجاحها من الكسب المالي، فأغضى عما كان يبعثه عليه حب الاستطلاع وقال للربان وهو يضحك: «هل ننزل في قصر أمير المؤمنين؟»
قال: «سننزلك وراءه بالقرب من الجسر.»
قال: «حسنا.» وعاد إلى التفكير في تدبير ما ينبغي أن يقوله لفنحاس؛ صاحب دار الرقيق، إذا لقيه، وأخذ يعد نفسه للمسير على قدميه المسافة الباقية - وما هي بقليلة - وود لو أن هذا الجسر مفتوح مثل الجسر السفلي ليتم سفره بالسفينة، فأصلح عمامته، وشد منطقته فوق القباء، وتزمل بالعباءة، حتى إذا دنت السفينة من الشاطئ الغربي ألقوا له خشبة يعبر عليها، وهو يثني على الربان لحسن وفادته، وذهنه لا يزال عالقا بما شاهده هناك. ولكن سروره بما كان يأمل فيه من الكسب أنساه كل شيء.
الفصل الرابع
عتبة
فلما وطئ الشاطئ سار مهرولا نحو الشمال حتى قطع شارع باب خراسان، ودخل في شارع دار الرقيق، فرأى الحوانيت قد أغلق معظمها، والأزقة لا تزال مزدحمة بعابري السبيل، فحدثته نفسه أن يكتري حمارا يركبه، ولكن غلب عليه البخل فظل ماشيا وهو يطيل خطواته حتى أقبل على دار فنحاس، وهي قصر كبير؛ لأن الرجل كان من أهل اليسار والثروة بما كان يكتسبه من تجارة الرقيق، وكان أكثر بيعه للخلفاء أو لأولادهم، فإذا وقف على جارية جميلة أو غلام جميل أنفذ بعض السماسرة إلى دار الخليفة أو الأمير أو غيرهما يسعون في ترويج تلك السلع. وكثيرا ما يكون الوسيط بالسمسرة بعض المقربين من بطانة الخليفة، أو ولي العهد ممن يحبون الكسب من هذا السبيل، وخاصة الشعراء والمغنين. ولم تكن هذه أول مرة اكتسب أبو العتاهية فيها مالا بالسمسرة.
فلما أطل أبو العتاهية على قصر فنحاس انتبه لنفسه وقد مضى هزيع من الليل، فخشي أن يكون الرجل قد ذهب إلى الفراش؛ لأنه قلما يطيل السهر؛ إذ لم يكن مغرما بالسماع أو مجالس الشراب، وإنما همه أن يروج سلعته بين أهل اللهو، ويسره أن يبالغوا في الترف والقصف لتزداد أرباحه، فكانت عادته أن يتناول عشاءه عند الغروب، فإذا حان وقت العشاء ذهب إلى فراشه.
وكان أبو العتاهية يعلم ذلك، ولكنه كان يأمل أن يكون فنحاس ساهرا تلك الليلة، فلما أطل على القصر رأى فيه الأنوار على غير المعتاد فانشرح صدره، وعد ذلك من أسباب توفيقه، فتحول من شارع دار الرقيق نحو اليسار في طريق يؤدي إلى القصر، فلما دخل الزقاق المؤدي إلى بابه رأى عند الباب أشباحا، وسمع عن بعد لغطا، فأصاخ وتفرس فرأى دابتين ترجل عنهما شخصان معهما غلامان، فدهش لما علم أنهم الرفاق الذين شاهدهم في السفينة، وتبادر إلى ذهنه حينئذ أن الغلامين من الرقيق جيء بهما للبيع، ولكن الرجل لم يكن يبدو أنه من النخاسين أو التجار، وإنما كان مظهره يوحي بأنه من البدو.
فتباطأ أبو العتاهية وانزوى في مستتر بحيث يرى ويسمع ولا يعلم به أحد، فرأى الرجل الشيخ بعد أن ترجل عن البغلة وهو يحمل الغلام على كتفه، أمسك بحلقة الباب ودقها دقا عنيفا، ووقف ينتظر الجواب، فابتدرته المرأة قائلة: «هل تظنهم في انتظارنا؟»
فأجابها الرجل: «لا بد من ذلك. ألا ترين الأنوار في القصر؟ لا بد أن تكون مولاتنا في انتظارنا هنا على أحر من الجمر؛ لأننا أبطأنا عليها.»
فلما سمع أبو العتاهية كلامهما، لم يجد فيه لغة أهل مكة ولا المدينة، بل هو أقرب إلى لغة أهل بغداد المولدين، فزادت رغبته في معرفة سر هذا الأمر، وما لبث أن رأى خوخة الباب قد فتحت وأطل منها رأس امرأة بيدها مصباح قد وقع نوره على وجهها، وظهرت ملامحها ظهورا تاما، فشاهد وجها مشرقا، وعينين سوداوين، وحاجبين مقوسين، ومبسما لطيفا، وشعرا قد ضفر ببساطة. وكان مظهرها يدل على أنها من الجواري البيض، وأنها في نحو الأربعين من عمرها ولا يزال الجمال ظاهرا في عينيها. ولما وقع بصره عليها خفق قلبه؛ لأنه تذكر وجها يعرفه ويحبه، وكان قد تعلق بصاحبته منذ بضع عشرة سنة، وقد منعت عنه وبقيت لذلك حرقة في قلبه، فأخذ يتفرس في المرأة ليتحقق من ظنه، فإذا هي تقول بلهفة: «جئتم؟ الحمد لله. لقد أبطأت علينا يا رياش.»
قال: «لقد أبطأنا رغم إرادتنا. اسألي برة عما لاقيناه من الصعاب في أثناء الطريق. ألم نذهب أولا إلى سيدنا - أعزه الله - فأبقانا عنده إلى المساء، فجئنا من عنده توا إلى هنا. هل مولاتنا هنا يا عتبة؟»
فلما سمع أبو العتاهية ذلك الاسم بعد أن سمع صوت الجارية بغت وتزايدت ضربات قلبه، وتحقق أنها الجارية التي كان يهواها في أيام المهدي، وقد أكثر من تشبيبه بها وهو لا يجرؤ أن يطلبها منه، فاحتال في عيد النيروز فأهدى إلى المهدي برنية فيها ثوب مطيب، وكتب على حواشيه بيتين يشير إلى طلبها منه؛ وهما:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
الله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
فأدرك المهدي يومئذ غرضه، فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت الجارية وقالت: «هل يرضيك يا أمير المؤمنين أن تدفعني إلى رجل بائع جرار ومتكسب بالشعر؟» فأعفاها وقال: «املئوا له البرنية مالا.» وأوصاه أن يكف عن التشبيب بها، فكف أبو العتاهية عن ذكرها، ولكن حبها ظل في قلبه. ولما مات المهدي وتفرقت جواريه لم يعلم أين كان مصيرها، فلما رآها في تلك الليلة هاجت في قلبه حرارة الشباب، ولكن دهشته مما يراه شغلته عن تلك الذكرى.
الفصل الخامس
دار فنحاس
أما عتبة، فإنها عادت إلى الخوخة وأمرت البواب ففتح الباب، فدخل الرجل «رياش» يحمل أحد الصبيين على كتفه، وقد ألقى الصبي رأسه على زنديه فوق رأس الرجل، واستغرق في النوم وذؤابتا شعره مرسلتان على كتفيه فوق الدراعة، وكذلك كان الصبي الآخر على كتف المرأة، وعتبة تسير بين أيديهما بالمصباح في فناء الدار حتى تواروا عن بصر أبي العتاهية، ثم رأى البغلتين في الزقاق عائدتين يسوقهما المكاري، فظل واقفا وهو يفكر فيما رآه، وقد نسي المهمة الأصلية التي جاء من أجلها، وأصبح همه كشف ذلك السر، وخاصة بعد أن سمعهم يتساءلون عن مولاتهم، فقال في نفسه: «من عسى أن تكون تلك المولاة؟! لعل في الأمر سرا أكتسب من وراء كشفه مالا!» فرأى أن يؤخر دخوله هنيهة لئلا يلحظ أهل البيت أنه عرف شيئا من أمر القادمين. فإذا دخل بعد ذلك احتال في كشف السر، فانتظر حتى سمع صرير الباب ورآه يغلق، ثم سمع صوت إغلاقه فتقدم نحوه ودقه بالحلقة، فسمع رجلا ينادي: «من؟»
فأعاد القرع ففتحت الخوخة، وأطل رجل من أنباط السواد اسمه حيان - كان فنحاس قد جعله بوابا - وكان يعرف أبا العتاهية وشاهده هناك غير مرة، فلما رآه في تلك الساعة وقد توسط الليل استغرب مجيئه، لكنه رحب به وفتح له، فدخل أبو العتاهية وهو يتظاهر بالتعب وقال: «هل مولاك في البيت يا حيان؟»
فقال بلهجة الأنباط وهم يلفظون الحاء هاء، والعين همزة، والقاف كافا: «نأم. هل تريد الدخول إليه؟»
أي «نعم. هل تريد الدخول عليه؟»
فقال وهو يمشي في فناء الدار: «لم يكن مرادي الدخول عليكم في هذه الساعة لو لم أر البيت يشع نورا على غير المعتاد؛ لأني لم أعهد المعلم فنحاس يظل ساهرا إلى ما بعد العشاء، فاستغربت ذلك وأحببت أن أعرف الباعث على هذه السهرة، فأرجو أن يكون السبب احتفالكم بزواج، أو مجيء زائر.» قال ذلك وهو يمازح البواب لعله يبوح بشيء.
فأجابه: «ليس ثمة ما يكلك (يقلق) الراحة، ولكني لا أأرف (أعرف) سبب السهرة.» ثم بدل الحديث حالا فقال: «أتريد أن ترى سيدي الآن؟»
قال: «نعم. أين هو؟»
فقال: «إني ذاهب لأدءوه (لأدعوه) لك.» وأسرع في مشيته حتى دخل في دهليز ينفذ إلى سلم صعد عليه، وأبو العتاهية يتبعه لئلا يبقى خارجا ويحدث ما يمنعه عن الصعود. وكان الدهليز والسلالم كلها مضيئة بالشموع، ولكنه لم ير أحدا من الخدم أو الجواري في طريقه، ولم يكن يسمع ضوضاء ولا غوغاء، فعلم أن القادم يريد التستر. ثم وصل حيان إلى غرفة تعود أبو العتاهية أن يجالس فيها فنحاس - وكانت مظلمة - فأدخل إليها حيان مشمعة فيها عدة شموع
وذهب النبطي ليدعو مولاه، فمكث أبو العتاهية في انتظاره وهو يدبر الحيلة للبقاء هناك تلك الليلة، ويود أن يعرف مقر أولئك الضيوف في القصر، فسمع صوت غلام يضحك، فعرف أنهم في غرفة قريبة من غرفته يعرف الطريق إليها.
ثم عاد حيان وهو يقول: «إن سيدي ذهب إلى الفراش، هل أيكظه (أوقظه)؟»
فاستبشر أبو العتاهية بنومه وقال: «دعه نائما وسأقابله في الصباح.» قال ذلك وتثاءب وتمطى وهو يظهر التعب والنعاس، فقال له البواب: «هل تريد النوم، أم آتيك بطعام قبلا؟» - مع تحريف الأحرف بلفظه.
قال: «لا حاجة بي إلى الطعام، ولكنني أشكو التعب؛ فقد كنت في مكان بعيد وتعبت من كثرة الركوب، ولما اقتربت من قصركم ورأيت الأنوار فيه قلق خاطري، وأتيت أقضي ساعة مع المعلم فنحاس، فصرفت الدابة والمكاري، ولا أدري إذا أردت الذهاب هل أجد دابة بقرب هذا المكان؟»
فقال حيان: «إذا كان لا بد من ذهابك فإن في الإصطبل دواب كثيرة، ولكني لا أرى حاجة إلى السرعة؛ فاسترح عندنا الليلة، وإذا شئت النوم أخذتك إلى حجرة فيها فراش.»
فقال: «ولكني لا أستطيع النوم في النور على هذه الصورة.»
قال حيان: «قد أخذنا في إطفاء الأنوار ولا تلبث أن ترى القصر مظلما.»
فقال: «إذا كان الأمر كذلك، فإنني أفضل النوم هنا على أن أذهب وأعود في الغد؛ لأني جئت إلى المعلم فنحاس بأمر فيه كسب كثير بعون الله.»
فازداد البواب رغبة في إبقائه لعلمه أن سيده يتوقع منه ذلك لكثرة جشعه للمال، بالرغم مما عنده من الثروة الطائلة. وكان فنحاس إنما يهمه كسب المال ولا يبالي بالطريقة المؤدية إلى كسبه، فكثيرا ما كان يغضي في سبيل ذلك عن أمور لا يغضي عنها الحر. وعذره أن الناس على ضلال في أمر دنياهم، فهم يتمسكون بأمور اعتبارية لا طائل تحتها يسمونها الشرف أو عزة النفس، ويبذلون في سبيلها حياتهم، أو يضيعون فيها أموالهم، ويفوتهم كثير من المكاسب الطائلة. وما كان الشرف يشبعهم إذا جاعوا، أو يدفئهم إذا تعرضوا للبرد، أو يرويهم إذا عطشوا. أما المال فهو عنده السلطان أو هو الصولجان، فمن استولى عليه كان سلطانا تطأطئ له الرءوس ويخدمه الزملاء. تلك هي مبادئ المعلم فنحاس. وكان أبو العتاهية يعرف ذلك فيه، وكثيرا ما كان يستعين به في أعمال يكسب بها الاثنان على نحو ما جاء به تلك الليلة.
فلما توسم البواب من أبي العتاهية ما يسر مولاه ألح عليه في النوم هناك، ودعاه أن يتبعه، فسار وأبو العتاهية ينصت ويتلفت لعله يعرف الغرفة التي تتوق نفسه إلى معرفة سر أهلها، ثم وقف حيان أمام باب فتحه ودعاه إلى الدخول والمشمعة بيده، فدخل وإذا هناك فراش على طنفسة لا بأس بها، فقال أبو العتاهية: «هذا فراش نظيف. جزاك الله خيرا.» وأظهر أنه يريد النوم، فتركه حيان ومضى. وكان أبو العتاهية قد عرف الجهة التي فيها أولئك الناس، فلما ذهب حيان وأطفئت الأنوار ونام أهل البيت، نزع عمامته وعباءته وتخفف بطاقية كانت على الفرش، وخرج يتلمس الحائط وركبتاه ترتجفان. وقد نام أهل القصر وساد السكون على المكان، وأصبحت معرفة تلك الغرفة أقرب من حبل الوريد، فإذا لم يدل عليها الصوت دل عليها النور المنبعث من شقوق بابها.
الفصل السادس
التلصص
فما لبث أن وصل الغرفة وهو يسمع أناسا يتكلمون همسا كأنهم يحاذرون أن يسمعهم أحد، فوقف بالباب ونظر من ثقب فيه إلى الداخل، فرأى امرأة عليها ثياب الملوك وهيبة الملائكة، جالسة على سرير في صدر المكان، وفي حجرها ذانك الطفلان وقد ضمتهما إلى صدرها، وأخذت تقبلهما وعيناها تتلألآن بالدمع، وفي ملامح وجهها مزيج من علامات السرور والحزن. فلا تدري أهي تبكي فرحا أم حزنا. وتفرس أبو العتاهية في تلك المرأة، فإذا هي بين الخامسة والعشرين والثلاثين من عمرها، وفي وجهها جمال وهيبة لم يشاهد مثلهما، بالرغم من كثرة ما رآه من الجواري الحسان في دور الخلفاء أو ولاة العهد، أو في دار جعفر البرمكي أو غيره من البرامكة، ورأى فارقا كبيرا بين ما يعرف من جمال أولئك وما في جمال هذه من الهيبة والوقار.
ولو تأملت في تلك الهيبة لرأيت مصدرها العينين، ولم تكونا كبيرتين ولا واسعتين، ولكنهما ترسلان أشعة براقة، ولم يكن فيهما ذبول مثل سائر عيون الغواني، بل كانتا حادتين يشعر الرجل إذا اتجهتا نحوه أنهما اخترقتا صدره، وأصابتا قلبه، واستطلعتا خفايا سره. ولم يكن لون الفتاة أبيض مع تفاخرهم يومئذ بجمال ذلك اللون، بل كانت حنطية مشربة بحمرة، ولها مبسم ينطق بغير كلام، ويدل على عواطفها كما تدل المرآة على ما يقابلها، ورأى أبو العتاهية على جبينها عصابة مكللة بالجواهر، فدهش لهذه العصابة على الخصوص؛ لأنه لم يكن رأى مثلها من قبل. وأول من اتخذ العصابة المكللة بالجواهر علية بنت المهدي؛ أخت الرشيد، فعلت ذلك إذ كان في جبينها شيء من سعة شوه جمالها، فاستحدثت العصائب المذكورة لتستر ذلك العيب، فكان من أجمل الابتكارات. ولم يكن أبو العتاهية قد رأى ذلك؛ لأنه لم يكن شائعا.
وكانت قد صففت شعرها تصفيفا بشكل جمة تعرف بالجمة السكينية، نسبة إلى سكينة بنت الحسين؛ لأنها أول من صففها. ورأى أبو العتاهية في مقدم تلك الجمة طرة مرصعة بالماس على شكل طائر عيناه من الزمرد، وفي أجنحته فصوص من الياقوت الأحمر مرتبة بين فصوص الماس ترتيبا عجيبا، وقد اختلط تلألؤها بأشعة النور حتى توهم أبو العتاهية أن الغرفة مضيئة من نور تلك الطرة وليس من الشموع. وقد غطت رأسها بخمار من الحرير عنابي اللون مزركش بالقصب، وفي أذنيها قرطان كل منهما لؤلؤة واحدة بقدر بيضة الحمامة، وفي عنقها عقد من الجوهر في غاية التناسب.
وأما ثوبها فمن أثمن المنسوجات، ولكنه كان في غاية البساطة؛ لونه سماوي، وعلى حواشيه وشي دقيق، فذهل أبو العتاهية لمنظر تلك الفتاة وقال في نفسه: «لا شك أن هذه الحورية من أهل بيت الرشيد، ولا بد أن وراءها سرا إذا اطلعت عليه ابتززت الأموال به.»
ونظر في جوانب الغرفة فرأى الرجل والمرأة لا يزالان بثياب أهل الحجاز وقد جلسا على الأرض باحترام وهيبة، وخاصة الرجل. وكان كهلا قد وخطه الشيب. وتفرس أبو العتاهية في وجهه فلم ير فيه من ملامح أهل البادية، فعلم أنه تنكر بذلك الملبس لغرض ما. وأما المرأة فلما رأى وجهها تبين له أن أصلها جارية من الجواري وقد كبرت سنها. وأما صاحبته عتبة فلفتت انتباهه على الخصوص، وكانت جالسة أمام السرير تخفف عن مولاتها وتلاطفها. وتأمل أبو العتاهية في عتبة فرأى الجمال لا يزال في وجهها، وقد تغيرت عما كانت عليه من قبل، فازدادت سمنة وبضاضة. وكانت في تلك الليلة مكشوفة الرأس وقد ضفرت شعرها بضع عشرة ضفيرة، علقت في طرف كل منها قطعة من النقود أو الحلي، وفي عنقها عقد ثمين، وفي يديها الأساور والدمالج، وعليها ثوب لونه أحمر مشجر بعروق خضراء.
فدهش أبو العتاهية من تلك المناظر، واصطكت ركبتاه من التأثر، وأتعبه الانحناء؛ لأنه لم يكن يستطيع النظر من ذلك الثقب إلا إذا انحنى، على أنه ظل صابرا يصغي لما يدور من الحديث هناك، وأول كلمة طرقت أذنه ساعة وصوله إلى الباب عبارة عرف من لغتها أنها لصاحبته عتبة؛ وهي قولها : «لا بأس عليك يا مولاتي. لماذا تبكين؟»
فرفعت تلك الفتاة رأسها إلى عتبة، وضمت الطفلين إلى صدرها وهي تقول وصوتها مختنق بالبكاء: «قلبي يحدثني يا عتبة أنها آخر مرة أراهما فيها.»
فصاحت: «معاذ الله يا مولاتي، بل أرجو أن تتمتعي برؤيتهما مرارا في كل عام كما كنت تفعلين إلى اليوم. وهذا رياش - حفظه الله - لا يدخر وسعا في المجيء إلينا كلما أمرت، وعسى أن يقضي الله بإطلاق حريتك فيكونان معك في كل حين.»
فتنهدت الفتاة وقالت: «آه يا عتبة، إنك تتمنين محالا؛ لأن عدونا ظالم مستبد له السلطة المطلقة، وقد انغمس في ملذاته، وتمتع بكل ما تشتهيه نفسه، وأصبح لا يبالي بسواه؛ أهلك عطشا، أو مات جوعا، أو ذاب لوعة؟ إنه رجل لا شفقة عنده ولا رحمة، لا يهمه سوى ملذاته.» قالت ذلك وهي تخرج من كمها منديلا من الحرير مزركشا بالقصب مسحت به دموعها.
فقالت عتبة: «تلك حال الرجال على الإطلاق، يا مولاتي، فإنهم أصحاب السيادة، وقد فضلوا أنفسهم على المرأة، فحللوا لأنفسهم ما حرموها منه، وتمتعوا بما حظروه عليها. يتزوج الرجل عدة نساء، ويقتني الجواري والسراري، ويمنع المرأة من أن تتزوج برجل تحبه ويحبها، ولكن ...»
فقطعت الفتاة كلام الجارية وقالت: «ليس بين الرجال من عمل عمل أخي، ولا بين النساء من أصيب بمصابي ... وزوجني برجل هو جمعني به وحببه إلي وعقد له علي، ثم حرم علينا ثمار ذلك العقد ما حلله الله لأحقر خلقه. وهو مع ذلك يخطر في قصر وحوله مئات من الجواري الروميات والتركيات والفارسيات والسنديات، وفيهن البيض والصفر والحمر والسمر والسود.» ولما بلغت إلى هنا غصت بريقها، وشرقت بدموعها، وكان الغلامان في حجرها وكبيرهما ينظر في وجهها نظرة الاستغراب وهي تتكلم، فلما رآها تبكي شاركها في البكاء، ولما رآه أخوه يبكي بكى أيضا، وبكت عتبة ... وعلا ضجيج البكاء في تلك الغرفة.
ثم رأت عتبة أن تتجلد وتخفف عن مولاتها فقالت لها: «لا يخفى عليك يا مولاتي أن أخاك أمير المؤمنين - حفظه الله - لم يمنعك من الزواج بذلك الوزير إلا لعدم كفاءته، فإنك بنت خليفة، وأخت خليفة، يتصل نسبك بعم النبي
صلى الله عليه وسلم ، والوزير مولى فارسي مثل سائر الموالي، فكيف تتزوجينه ومثلك تتزوج أحد أبناء عمها الهاشميين؟ فأمير المؤمنين مشهور بحبه لك، وإنما منعك من الزواج علوا لمقامك.»
فصاحت: «ويلك يا عتبة! ألا تزالين مخدوعة بهذه التمويهات. إذا كان أخي يعد الزواج بالموالي أو العبيد حطة لمقام الخلافة، فما باله يتزوج هو بالجواري ويستولدهن ويولي أولادهن العهد بالخلافة. لعل الجارية أرفع مقاما من المولى؟! ناهيك بما في قصوره من الجواري للتسري بلا عقد. فلماذا لم يقتصر بالزواج على ابنة عمه زبيدة مع ما يظهره من حبه لها واحترامها؟ ولكنه أطاع شهواته ولم يجد من يصده فانغمس فيها، ورآني ضعيفة فاستبد بي. عرفني بشاب لا أعرف في أبناء عمي من بني هاشم أحسن منه، وزوجني به، ثم منعني منه، وأصبحنا نعد التقرب خيانة، ونخشى أن يطلع أحد على سرنا كأننا من أهل الفجور - نعوذ بالله - ولكن من يستطيع أن يقول ذلك لأخي ولا تكون حياته في خطر؟!»
الفصل السابع
العباسة
وكان أبو العتاهية قد آلمه ظهره وهو منحن عند الباب ينظر من ذلك الثقب وقدماه ترتعدان، وهو يمسك أنفاسه مخافة أن يشعر به أحد. فلما سمع ما دار من الحديث، علم أن الفتاة هي العباسة أخت الرشيد. وكان يعرف أن الرشيد عقد عليها لجعفر بن يحيى البرمكي؛ وزيره؛ ليحل له النظر إليها؛ لأن الرشيد كان يحب جعفرا ويحب الاجتماع به، ولا يصبر على بعده، وكان الرشيد يحب أخته العباسة أيضا، ويجب أن يراها كثيرا، فعقد لجعفر عليها حتى يحل له أن يراها فقط، وخوفه مما وراء ذلك.
وعلم أبو العتاهية مما رآه وسمعه أن جعفر تزوج العباسة سرا، وأن الغلامين اللذين معها هما ثمرة ذلك الزواج، وأنها تخاف أن يعرف أخوها الرشيد بذلك فيقتلها، فخفق قلب أبي العتاهية فرحا بذلك الاكتشاف؛ لما يرجوه من الكسب الكثير بواسطته؛ لعلمه أن أعداء جعفر يبتاعون مثل هذه الوشاية بألوف من الدنانير، وخاصة الفضل بن الربيع؛ لأسباب تقدم ذكرها. ودمعت عينا أبي العتاهية لا تأثرا لحالة العباسة، بل من طول حملقته وتطلعه من ذلك الثقب، وأحس وهو في تلك الحالة الحرجة أن العطاس يكاد يدهمه، فخشي أن يعطس فيفتضح أمره، فجعل يفرك أرنبة أنفه حتى أذهب العطاس، فعاد إلى التلصص والتفرس. وكان قد سمع عتبة تخفف عن العباسة وتقول لها: «دعينا من النواح الآن؛ فقد تكبدت المشقة والخطر لتشاهدي ولديك؛ فاستمتعي برؤيتهما، ودعي المقادير تجري بما يشاء الله.»
فأطاعتها، وكان الغلامان في حجرها وهما شاخصان إليها، وقد استغربا ما رأياه منها. فلما رأتهما ينظران إليها والدمع لا يزال في عيونهما لم تتمالك عن الابتسام وعيناها تقطران دمعا، وتناولت الكبير وضمته إلى صدرها، وجعلت تقبله في خديه، وفي عينيه، وجبينه ورأسه وعنقه وصدره، وتستنشق ريحه، وهو غارق في الضحك يظنها تلاعبه أو تداعبه. وأنى له أن يشعر بما يجول في خاطرها أو بما يهيج من عواطفها، وهو لا يعرف من ملاذ الدنيا إلا الطعام والشراب، ولم يكابد من حوادث الزمان إلا اللعب بالرمل أو بالكعاب، أو بغيرهما من الألعاب؟! وما مطامع الدنيا عنده إلا ثدي أمه، فإذا فطم كان همه بطنه، ومطمعه عجلة يديرها، أو كرة يلعب بها، وتسليته حصى يبني بها بيتا، أو طينا يصنع منه تمثالا. يرى الميت فيظنه نائما، ويلقى الثعبان فيحسبه حبلا. لا يخاف الهجر، ولا يحاذر الفقر، ولا يعرف نوائب الدهر. ربما أحب هرة تلعب بين يديه أكثر مما يحب والديه؛ لأنه يحب كل ما تنتهي يده إليه. ولو عقل لقاس تعلقه بطير عاشره بضعة أيام ثم ذهب عنه؛ كم يكون أسفه عليه! فكيف يكون تعلق الوالدة بابنها وهو حشاشة قلبها، وقطعة من نفسها، ومثال حبيب قلبها؟! لا لوم على الأطفال إذا لم يدركوا حب الوالدة؛ لأنه سر مغلق على غير الوالدين. ومهما يكن من ارتقاء عواطف الشبيبة، واختلاطهم بالعائلات، ومشاهدتهم حنو الوالدات، فهم لا يدركون حقيقة ذلك الحنو حتى يولد لهم الأولاد، فيذوقوا مرارة التربية وحلاوتها بين مداعبة ولد يشرق وجهه صحة، ويسيل كلامه لطفا، وتزيده اللكنة عذوبة، وسهر على طفل يقاسي الألم، ويعجز عن التعبير عن موضعه لاحتباس كلامه، أو يكتمه خوفا من مرارة الدواء. والوالدان بين ذلك يراقبان حركاته، ويحصيان أنفاسه، وقد غلت أيديهما، وتفطر قلباهما، وضاقت الدنيا عليهما، ولا سيما الوالدة، فإنها ألصق بولدها في طفولته؛ إذا مشى مشى قلبها معه، أو ضحك رقصت جوارحها له، وإذا تكلم كانت كلها آذانا لعله يلتمس منها شيئا يسره ويسرها أن يناله، ولو كان في الظفر به شقاؤها. وهي تزداد حبا له كلما تعذبت في تربيته، ويزداد حنوها عليه بزيادة شقائها به. فمن أين لغير الوالدين أن يفقهوا ذلك، أو يدركوا حنان الوالدة؟ حتى المتزوجين الذين لم يرزقوا أولادا، فإنهم لا يستطيعون إدراك حب الوالدة لولدها إلا تخيلا. وأين الحقيقة من الخيال؟
الفصل الثامن
البغتة
فكانت العباسة تستنشق ريح ابنها وهي تجهش بالبكاء، وقلبها يتردد بين اليأس والرجاء، والغلام يضحك والسذاجة الفطرية ظاهرة في وجهه، وسلامة النية وطهارة القلب باديتان في كل حركة من حركاته. وقد أصاب المصورون إذ شبهوا الملائكة بالأطفال، فإنهم مثال الطهارة والقداسة وصدق اللهجة، فهم لا يخفون عواطفهم، ولا يكظمون ما في نفوسهم؛ ولذلك كانت المشاعر الطبيعية ظاهرة فيهم، وأقواها حب الذات؛ فالطفل يحب ذاته، ويحب كل ما يرى فيه نفعا لنفسه، وهو يحسد ولكنه لا يكظم، بل يظهر ذلك فيه، ولا يستحي من إظهاره؛ ولذلك لما رأى أحد الأخوين أمه تلاعب أخاه وتقبله ألقى نفسه على صدرها كأنه يزاحمه على ما يكنه ذلك الصدر، فقبلته العباسة ثم التفتت إلى عتبة وعيناها تتكلمان عنها، وما تمالكت أن قالت لها: «ما ألطف هذين الولدين! وما ألطف اسميهما «الحسن والحسين»! هل يسمح لي الله أن أعيش معهما ولو في كوخ حقير، أو في خيمة بالبادية؟!»
فابتدرتها عتبة قائلة: «إن الله على كل شيء قدير. ألا تظنين أن رجوعك إلى قصرك قد آن؛ فإن الفجر أصبح قريبا، وأخشى أن يشعر أحد برجوعك فنقع فيما نخشاه؟»
قالت: «يعز علي الذهاب يا عتبة، ولكن لا بد منه. أين الدراهم التي أتيت بها معك؟ ادفعيها إلى رياش.»
فتناولت بدرة من الدراهم ودفعتها إليه، فتناولها وأثنى على العباسة، ونهض فقبل يدها. وكذلك فعلت برة، فقالت لهما العباسة: «لا حاجة بي أن أوصيكما بالحسن والحسين؛ فإنهما فلذة كبدي.»
وكان الحسن أكبرهما سنا، فلما تحقق من عزم والدته على الفراق ورآها وقفت، ألقى بنفسه في حضنها، وأمسك بيدها، وأسند خده على راحتها، وقال وصوته مختنق: «تعالي معنا يا ماما، وقولي لأبي يجيء معنا أيضا.»
فنظرت العباسة إلى الغلام فرأته يرنو إليها وفي عينيه دمعتان تترددان بين المآقي، وشفتاه ترتجفان ولا تطاوعانه على الكلام. وكان يحاول الكلام ويحاذر أن يسبقه البكاء وقد غص بريقه. فلا تسل عن قلب العباسة عند سماعها تلك العبارة ومشاهدتها ذلك المنظر المؤثر، وقد كانت تخشى فراقهما وتغالب نفسها وتتجلد وقد ضاق صدرها لاحتباس عواطفها، فلما رأت ما رأته، وسمعت الحسن يذكر والده ويطالبها به على تلك الصورة، غلبتها عواطفها وأحست بما تكابده من ألم الفراق وثقل الحذر والخوف، فلم تتمالك أن جلست بغتة وهي تضم الغلام إلى صدرها وتصيح: «صدقت يا ولداه.» وأغرقت في البكاء حتى أغمي عليها.
وكانت عتبة واقفة ترقب حركات مولاتها وتشاركها في كل عاطفة من عواطفها، وقد همت أن تخفف عنها، فلما رأتها جلست بغتة خافت عليها من الإغماء؛ لأنها شاهدت إغماءها على تلك الصورة غير مرة، فلما سمعتها تصيح وتبكي تحققت من غيبوبتها، فتناولت إحدى الشموع من المشمعة وهرعت إلى الباب وفتحته؛ لتستدعي خادما يأتيها بالماء لترش سيدتها. وكان أبو العتاهية لا يزال واقفا ينظر من ثقب الباب. فلما أسرعت عتبة إليه وفتحته على غير انتظار والشمعة بيدها، بغت وارتبك في أمره، وكاد الدم يجمد في عروقه، فوقف كأنه صنم من الأصنام وبصره شاخص كأنه لا يرى شيئا. أما عتبة، فظنته لأول وهلة أحد خدم المنزل، فصاحت به: «هات الماء.» ثم علمت من ملبسه أنه ليس من الخدم، فاستغربت وقوفه هناك على هذه الصورة. أما هو فلم يطل جموده إلا لحظة، ثم انتبه لنفسه وحول وجهه وهم بالفرار، فلما تحرك تذكرت أنها تعرفه، ثم فطنت إلى أنه أبو العتاهية، فأشكل عليها أمره وهي على تلك الحال من القلق خوفا على سيدتها من الإغماء، فغلب عليها ذلك القلق فأسرعت إلى غرفة الخدم وصاحت بهم، فنهض أحدهم وجاءها بالماء، وعادت إلى سيدتها ورشتها به فأفاقت. وأخذت تخفف عنها وخاطرها مشتغل بأبي العتاهية، وأدركت من ارتباكه عند رؤيتها له أنه كان يتلصص عليهم، ولا بد أنه سمع شيئا من أحاديثهم، وهي تعلم أنه لا يؤتمن على مثل هذا السر، وأن اطلاعه على أمر هذين الغلامين خطر على العباسة، فكانت تخاطب مولاتها وتخفف عنها والقلق والارتباك باديان على وجهها، وهي تتردد بين أن تطلع العباسة على هذا الأمر أو تكتمه عنها، ولكنها فضلت كتمانه لئلا تزيد من أحزانها ومخاوفها.
على أنها عزمت على أن تدبر وسيلة تمنع بها أبا العتاهية من إفشاء هذا السر، فلما فكرت في ذلك ذهب قلقها وعادت إلى التهوين على العباسة والتخفيف عنها، وأشارت إلى رياش أن يذهب هو وبرة بالغلامين أولا، فأطاعها ونهض فحمل الغلامين على كتفيه وهو يلاعبهما ويضاحكهما. وكانا قد تعودا عليه، وعرف هو ما يلهيهما به من المواعيد أو نحوها، فسكتا وظلت عتبة بجانب العباسة تشاغلها وتسايرها وهي تتنهد ولا يزال أثر الإغماء باديا عليها. فلما خرج رياش وبرة، أمرت الخادم الذي كان قد جاءها بالماء أن يستدعي حيان، فذهب ثم عاد وحيان معه وآثار النوم ظاهرة في عينيه؛ لأنهم نادوه وهو مستغرق في النوم فجاء وعلى رأسه طاقية لم تستر إلا بعض شعره، فوقف بين يدي عتبة فقالت له: «إن مولاتي تطلب منك أن ترسل مع هذين الغلامين من يدبر لهما مركبا يركبان عليه إلى دجلة.»
الفصل التاسع
الهاجس
فأشار بيده على رأسه إشارة الطاعة وخرج، وظلت العباسة وعتبة في انتظاره، ثم أظهرت عتبة أنها تحتاج إلى شيء من حيان، فخرجت للقياه وهو عائد فدعته إلى خلوة، فخاطبته وفي يدها منديل فيه نقود وضعته في كفه وهي تقول: «أمرتني مولاتي أن أشكرك على الخصوص لعنايتك بنا، وهذا المنديل هو لك هدية منها.» ثم مدت يدها وأخرجت صرة أخرى دفعتها إليه وقالت: «وهذه للمعلم فنحاس.»
فأثنى حيان عليها جهد طاقته، فقطعت كلامه قائلة: «هل أبو العتاهية هنا منذ زمن طويل؟»
فقال: «بل جاءنا الليلة.»
قالت: «اصدقني.»
قال: «صدقتك؛ فإنه جاء لمقابلة المعلم فنحاس في هذه الليلة، وكان المعلم فنحاس قد ذهب إلى فراشه، فدعوته للمبيت عندنا فبات.» قال ذلك بغير حذر ولا تردد فتحققت أنه يقول الصدق.
فقالت: «أطلب إليك خدمة لا تكلفك تعبا، فهل تقضيها لي؟»
قال: «على الرأس والعين.»
قالت: «أريد أن تستبقي هذا الشاعر عندكم، ولا تدعه يخرج قبل أن أعود في صباح الغد.»
فاستغرب طلبها وقال: «أخشى أن يطلقه مولاي ولا يطيعني في بقائه.»
قالت: «قل لمولاك إن أمير المؤمنين يريد استبقاءه لأمر يهمه.»
فلما سمع ذكر أمير المؤمنين خفق قلبه؛ لأنه لم يكن يعلم من أمر العباسة سوى أنها امرأة من سراري بغداد استأجرت تلك الغرفة في تلك الليلة لأمر خاص فقال: «سأقول ذلك لمولاي.»
قالت: «احذر أن تستخف بقولي.»
قال: «سمعا وطاعة.»
فقالت: «فأعدد لنا البغال ريثما نرجع.» وأسرعت إلى سيدتها فرأتها في انتظارها وقد استبطأتها، فسألتها عن سبب غيابها، فقالت: إنها ذهبت تطلب إلى حيان إعداد البغال، فصدقتها ثم خرجتا حتى ركبتا ومضتا.
أما حيان فأخذ يفكر فيما سمعه من تحريض عتبة على الاحتفاظ بأبي العتاهية، فلم يفهم لذلك سببا معقولا، وقد خوفه ذكرها أمير المؤمنين، ولكنه عزم على إبلاغ سيده ما سمعه منها في الصباح ليلقى تبعة ذلك عن عاتقه. وكان قد مضى معظم الليل فمضى إلى فراشه.
أما أبو العتاهية فإنه فر من وجه عتبة على تلك الصورة وقد ذعر وكاد الدم يجمد في عروقه من البغتة، لكنه ظن أنها لم تعرفه، فوصل إلى فراشه وركبتاه تصطكان، فاستلقى بعد أن أغلق الباب، ولبث صامتا يتوقع أن يسمع صوتا ، أو يشعر بخفق نعال أو حركة تدله على ما كان من تأثير تلك المقابلة، فمضت برهة وهو يحبس أنفاسه؛ مبالغة في الإصغاء، ويصيخ بسمعه وقد تكاثف الظلام، وشبح عتبة نصب عينيه. وأخذ يفكر فيما عسى أن تكون العاقبة، على أنه تخوف وغلب عليه الحذر. وكانت الحجرة التي بات فيها تشرف على الزقاق المؤدي إلى باب تلك الدار من نافذة كانت مقفلة، فما لبث أن سمع قرقعة اللجم وجلبة السياس، فنهض وتطلع من شق في النافذة، فرأى رياشا وبرة قد ركبا ومعهما الغلامان، فتربص ليرى ما يكون من أمر العباسة وجاريتها، فسمع حركة السياس في إعداد الركائب ورآهما قد خرجتا على بغلين، وفي ركاب العباسة سائس يده على كفل البغلة، وقد التفت بعباءة وغطت رأسها بما يشبه العمامة إخفاء لحقيقة حالها، فتحقق من ذهابهما، فاطمأن خاطره وعاد إلى فراشه، وأخذ يفكر فيما جاء من أجله إلى فنحاس، فعزم على أن يبكر في الصباح إلى غرفته ويفاتحه في هذا الشأن، ثم ينصرف إلى بيت الأمين أو إلى الفضل بن الربيع ويجيء مع من ينتدبانه لاختيار الجواري.
الفصل العاشر
طارق
نام أبو العتاهية، ولكنه لم ينم كثيرا حتى سمع جلبة في ذلك الزقاق يتخللها قرقعة اللجم وصهيل الخيل، فذعر ووثب من فراشه إلى النافذة ففتحها بخفة، فرأى الصباح قد لاح، فأطل فرأى عدة رجال على أفراس جياد، عرف من سروجها وما عليها من أكسية الديباج أنها من إصطبل الأمين، فخفق قلبه وتفرس في الراكبين فرأى بينهم الفضل بن الربيع وحوله جماعة من حاشية الأمين عرف أكثرهم، ورأى في ركابهم جماعة من الخدم، وسمع الفضل يقول: «أظن أن القوم لا يزالون نياما؟»
فأجابه أحد الفرسان: «لا بأس من إيقاظهم؛ فإن المعلم فنحاس لا يهمه إلا كسب المال ولا يبالي بالنوم.»
فقهقه الفضل ثم قال: «إلا إذا ظن أننا قادمون لمصادرة ممتلكاته أو لأمر يذهب بحياته.»
فقال الفارس: «لا خوف من المصادرة في ظل أمير المؤمنين، والذهب يتدفق من بيت ماله، ولا خوف من نكبته وأهل الدولة في حاجة إلى جواريه وغلمانه حتى أمير المؤمنين.»
وفي أثناء ذلك تقدم أحد الخدم وقرع الباب، وأخذ الفرسان في التحول عن الخيول، وأول من نزل الفضل. وكان طويل القامة، رقيق العضل، خفيف شعر اللحية، أسمر اللون، يخالطه صفرة، ولا يزال في عنفوان الشباب، وقد غلب عليه المزاج الصفراوي - على اصطلاحهم - فساعده على كتمان عواطفه والظهور بما يريده من التظاهر بالصداقة لأعدائه، والسعي في الوشاية لهم. وأهل هذا المزاج من أقدر الناس على الكظم، والتظاهر بما يشاءون من الأحوال، وكتمان ما تكنه ضمائرهم؛ فهم لذلك يصبرون على الضيم ريثما ينتهزون الفرص لتحقيق مآربهم، فلا يخرجهم الغضب عن طور العقل كما يفعل بأهل المزاج العصبي أو الدموي، الذين إذا غضبوا ظهرت أمارات الغضب في عيونهم وجباههم؛ ولذلك ندرت فيهم رباطة الجأش والصبر على المكاره.
فلما تحقق أبو العتاهية من مجيء الفضل قال في نفسه: «لا بد من أمر بعث على تعجله في المجيء، ولا بد أن يكون الأمين قد حمله على ذلك؛ تشوقا لما وعد به نفسه من أمر أولئك الجواري؛ لاهتمامه بأسباب القصف والترف، ورغبته في الغناء.» وخشي أبو العتاهية أن يحول مجيء الفضل في تلك الساعة دون ما يتوقعه من الكسب وهو لم يقابل فنحاس بعد، فتحول عن النافذة وهو يطلب غرفة فنحاس، فرأى أهل الدار في هرج يتقدمهم حيان وقد أسرع إلى الدهليز لاستقبال القادمين. وكان البواب قد أنبأه بمجيئهم فلم ينتبه لأبي العتاهية. أما هذا فظل سائرا إلى غرفة المعلم فنحاس، وكان بابها مقفلا، فدقه وهو يناديه قائلا: «لعل المعلم فنحاس لا يزال نائما؟»
فلم تمض لحظة حتى سمع وقع خطواته داخل الغرفة، ثم فتح الباب وأطل منه المعلم فنحاس وهو لا يزال بملابس النوم، ليس عليه سوى السراويل والدراعة فوق القميص، وفي عينيه رمص من ضعفهما وطول النوم، وقد تشعث شعر رأسه وانتفش، واختل نظام سالفيه ولحيته. وكانت لحيته شمطاء يخالطها شيب قليل مع ميل إلى الطول والاسترسال، وهي منقسمة إلى شطرين، وأنفه كبير مستدق قد ذهب طوله بإحديدابه. وكان لدهشته في تلك الساعة قد نهض وقميصه مفتوح من أعلاه، فظهر أسفل عنقه وأعلى صدره وفيهما تجعد يتخلله شعر أجعد لو رأيته في تلك الحالة لحسبته من المتشردين.
أقبل المعلم فنحاس وهو يفرك عينيه ويمسح الرمص عنهما ببطن كفه، وحالما وقع نظره على أبي العتاهية عرفه فصاح فيه: «ما وراءك يا أبا العتاهية؟»
فدخل أبو العتاهية وأغلق الباب وراءه وهو يقول: «لقد جئتك مساء أمس بمهمة وكنت نائما؛ فانتظرتك إلى هذه الساعة، ولما استبطأتك جئت لإيقاظك، فأرجو ألا أكون قد أزعجتك.»
فقال فنحاس وهو يصلح لحيته وشاربيه ويقفل قميصه: «ليس ثمة إزعاج. قل: ما الخبر؟!»
قال: «لا تخف؛ فإن المسألة رابحة. قد حرضت مولانا ولي العهد على اقتناء بعض الجواري، وألا
لأخبرك بذلك على ألا تضيع تعبي.»
فقطع فنحاس كلامه قائلا: «فهمت المطلوب. كن مرتاحا؛ فمتى أتى رسوله بهذا الشأن أضفت نصيبك إلى هذا الثمن. بارك الله فيك. أليس هذا الذي تريده؟ إنك رجل غيور على مصلحتي، وإذا شئت جعلت نصيبك من الصفقة جارية جميلة.»
قال: «لا حاجة بي إلى الجواري كما تعلم.»
فضحك وهو يفتش عن قبائه وجبته وقال: «حسنا. إني أفهم بالإشارة، فافهم أنت. ولن يتم الشرط إلا بعد وقوع البيع.»
قال: «البيع يتم في هذه الساعة؛ لأن الأمين أرسل الفضل بن الربيع، وقد وصل إلى دارك، وأظنهم أدخلوه إلى دار الرقيق الآن. واحذر أن تطلع أحدا على ما دار بيننا.»
فوضع فنحاس يده على فم أبي العتاهية وقال: «لله ما أكثر سذاجتك! كنت أظن أنك أذكى من ذلك.» ثم عاد إلى تسريح شعره وإصلاح شأنه، فمشط لحيته، وفتل شاربه، وشد على خصره منطقة فوق القباء، ولبس الجبة وخرج وأبو العتاهية في أثره، وإذا بحيان يسرع نحوهما، فلما وقع نظره على أبي العتاهية أجفل وتذكر وصية عتبة، فأراد أن يوقف مولاه ليخبره بالقادمين، ويبلغه تلك الوصية، فابتدره فنحاس قائلا : «فهمت مرادك. ها أنا ذاهب إليهم. أين هم؟» وهو يحسبه قادما ليخبره عن الفضل فقط، فبغت حيان ولم يجرؤ أن يخبره بغرضه، وخاصة بين يدي أبي العتاهية فسايره وقال: «قد جاء مولانا الفضل بن الربيع فأدخلناه دار الرقيق، وهو في انتظارك هناك.» وأجل الخبر الآخر إلى فرصة أخرى.
أما أبو العتاهية فإنه نظر إلى حيان وتبسم على جاري العادة وهو لا يعلم ما في ضميره، فحياه حيان متأدبا ومشى في أثره.
الفصل الحادي عشر
دار الرقيق
مشى المعلم فنحاس وهو يتعثر بأذيال جبته حتى خرج من دهليز داره إلى باب بجانب الباب الكبير هو مدخل دار الرقيق، فأشرف منه على فناء واسع تحيط به غرف عديدة، ربما زاد عددها على ثلاثين غرفة. وكان الفناء مزدحما بالخدم من رجال الفضل وأنظارهم متجهة نحو تلك الغرف كأنهم يشاهدون فيها شيئا غريبا. وبجانب الباب من الداخل غرفة مفروشة بالطنافس، وفيها الوسائد مصفوفة بين الجدران وقد زخرفت تلك الجدران بالنقوش الملونة. وكان الفضل قد دخل هذه الغرفة مع بعض خاصته ولبث في انتظار المعلم فنحاس. أما هذا فحالما أقبل على الغرفة رأى الفضل في صدرها جالسا وقد أسند كوعيه على ركبتيه، فهرع إليه مسرعا وأكب على يده ليقبلها وهو يبتسم ويتأدب، فضحك له الفضل واجتذب يده منه وهو يقول: «أظننا أزعجناك بهذه الزيارة؟»
قال: «كلا، يا مولاي؛ فإن زيارتكم شرف كبير لنا.»
فأشار إليه بالجلوس وهو يقول: «إن مولانا ولي العهد رغب إلينا أن نأتيه ببعض الجواري الحسان ممن يحسن الغناء. وقد كان في الإمكان أن نبعث إليك ببعض خاصتنا في هذه المهمة، ولكننا أحببنا زيارتك لمشاهدة دار الرقيق والتفرج على ما حوته من أصناف الجواري والغلمان؛ فقد قيل لنا إنها تحوي من كل معنى طرفا.»
فقال وهو يتكمش ويتلملم تأدبا: «لقد تحملتم المشقة بهذه الزيارة فأوليتموني شرفا لا أستحقه، وكنتم في غنى عن ذلك بإشارة منكم، فننقل دار الرقيق بجملتها إلى ما بين يدي مولانا - حفظه الله - ولكن إقبال سعدنا حملكم على تكبد هذه المشقة. أما إذا شئتم أن تشاهدوا أصناف الرقيق التي في هذه الدار، فترون فيها ما لا يجتمع في سواها؛ لأني لم أدخر وسعا في إحضار أحسن الرقيق: الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود من الجواري والغلمان، على اختلاف القدود واللغات والأسنان؛ من المولد في العراق أو الحجاز، والمجلوب من أقاصي بلاد الترك، والروم، وطبرستان، وخراسان، والسند، والمغرب، وفيهم الصقلبي والصقلبية، والرومي والرومية، والتركي والتركية، والفارسي والفارسية، والأرمني والأرمنية، والسندي والسندية، والبربري والبربرية ...»
فقطع الفضل كلامه قائلا: «هل عندك من الجواري المغنيات؟»
قال: «كيف لا؟ وقد تعلمن الغناء عند مغني مولانا أمير المؤمنين نفسه، وحفظن الأشعار المطربة، وأتقن الضرب على آلات الطرب، وفيهن العوادة، والطنبورية، حتى صاحبة الدف والمزهر.»
فضحك الفضل وقال: «كأني بك تصف جواري أمير المؤمنين، ولكن أظن أن المغنيات اللواتي أشرت إليهن من الجواري الصفر والسود، ومولانا إنما يريد مغنيات من الجواري البيض.»
فقال: «كل ما يطلبه مولانا هو عندي.»
قال: «ولكن أهل بغداد لم يتعودوا تعليم الجواري البيض الغناء؛ فإنهم إنما يقتنونهن للتسلية كما لا يخفى عليك، ولم أعرف أحدا علم الغناء للبيض إلا إبراهيم الموصلي؛ مغني أمير المؤمنين.»
قال: «ألم أقل لمولاي إنه يجد عندي كل ما يطلبه؟!»
الفصل الثاني عشر
ألوان من الرقيق
فتحفز الفضل للقيام، فنهض المعلم فنحاس ونهض سائر الحاشية، ومشى هو بين أيديهم حتى خرجوا من الغرفة إلى فناء الدار، فأسرع الخدم إلى الانزواء وفتحوا الطريق للفضل، فمشى والمعلم فنحاس يمشي بين يديه متأدبا، وفي أثر الفضل رجال حاشيته، حتى إذا قطعوا الفناء وصلوا إلى الغرفة الأولى من جهة اليمين، وكان بابها مفتوحا قليلا، ففتحه فنحاس بيده، فرأى الفضل جماعة من الفتيات البيض صغيرات لا تتجاوز أكبرهن العاشرة من العمر، وكلهن عاريات لا يكسو أبدانهن إلا ما يستر العورة من الأطمار البالية، وخشونة البادية ظاهرة عليهن؛ بإرسال شعورهن ساذجة لم يمسها المشط منذ خلقن، ولكنه رأى الجمال الطبيعي يتجلى في إشراق وجوههن بالبياض المشرب بحمرة يدل على صحة البدن.
ناهيك بجمال العيون ... وفيهن شقراء الشعر، زرقاء العينين، وسوداء الشعر والعينين، وما بين ذلك. أما هن فحالما فتح الباب ورأين الفضل ورجاله نفرن نفور الظباء من الصيادين، وظهر الخوف على وجوههن، ولكن الحجرة أضيق من أن تتسع لفرارهن، فجعلن يتسترن بعضهن وراء بعض وعيونهن شاخصات، وبعضهن أخذن في البكاء، واستغثن بلغة لم يفهمها أحد من الوقوف، فدهش الفضل لذلك المشهد الغريب ونظر إلى فنحاس، فابتدره فنحاس قائلا: «لا تعجب يا مولاي لما تراه في هؤلاء من الوحشة؛ فإن معظم اللواتي في قصور الخليفة وسائر الأمراء من الجواري الحسان والقيان والمطربات ... كن في بادئ الأمر مثل هؤلاء، وقد أتيت بكم إلى هذه الحجرة أولا لأريكم حال الجواري عند أول حضورهن؛ لتعلموا كم نقاسي في تربيتهن حتى تنبغ منهن الجارية التي تباع بألف دينار، أو عشرة آلاف، أو عشرين ألفا.»
فقال الفضل: «في الحقيقة إنه عمل شاق. هل كانت فريدة ومنة ودينار وأم الخال وغيرهن من الجواري الفاتنات في مثل هذه الخشونة؟»
قال فنحاس: «نعم. إن أكثرهن حضرن بهذه الصورة.»
قال الفضل: «ومن أين تأتي بهن؟»
قال فنحاس: «إن النخاسين يتجولون في بلاد الترك والصقالبة والروم، ويتحملون المشاق والأخطار حتى يأتوا بهن.»
قال الفضل: «وكيف يجدونهن هناك؟»
قال فنحاس: «يأخذون البعض بالغزو، والبعض الآخر بالشراء من والديهن، أو بعض أقاربهن، بثمن بخس، ويبيعونهن لنا بأغلى الأثمان.»
فقال الفضل: «أليس حراما أن يفصل هؤلاء عن آبائهن ويحملن إلى ديار الغربة وهن صغيرات بهذه الصورة؟»
فضحك فنحاس وهو يحتشم في ضحكه وقال: «كلا، يا مولاي؛ فإن استرقاقهن من أكبر أسباب سعادتهن؛ لأنهن ينتقلن به من خشونة البداوة وشظف العيش إلى المدنية والترف، وقد يبلغن من رخاء العيش ما لا يبلغه بنات الأمراء، وخاصة من كانت منهن جميلة الوجه رخيمة الصوت. وليس كل واحدة منهن تبلغ إلى ذلك النعيم إلا اللواتي ينبغن ويبرعن، فهؤلاء نبيعهن بثمن غال. فربما نبغت واحدة من كل خمسين أو ثمانين؛ فمن نبغت وكانت تتصف بالذكاء ولها صوت رخيم، علمناها الغناء وحفظناها الأشعار، ونعلم الباقيات بعض الصناعات المنزلية وغيرها على قدر الطاقة. وسترى
فاستغرب الفضل مما سمعه، وأظهر الاكتفاء من رؤية تلك الحجرة وحول وجهه، فسبقه فنحاس إلى الغرفة التالية وفتحها، فرأى فيها فتيات سود البشرة، جعد الشعور، فطس الأنوف، فعرف الفضل أنهن من بنات الزنوج؛ وهن أقرب إلى القذارة والوحشية من أهل الحجرة الأولى، والسواد أقبح الألوان؛ يندر اجتماعه مع الجمال. ولاحظ فنحاس أن الفضل ميال إلى سرعة الانتقال من هناك، فمشى أمامه وهو يقول: «هؤلاء صغار الزنوج يحملهن إلينا النخاسون من أقاصي السودان. والغالب في أخذهن على سبيل السبي بلا ثمن، ونحن نبتاعهن بثمن بخس، وأكثرهن يتعلمن الخدمة الشاقة، ويغلب أن نجعلهن في خدمة الجواري البيض.»
وقبل أن يصلوا إلى الحجرة الثالثة قال فنحاس: «وفي هذه الحجرة بنات من البربر يحملهن النخاسون من بادية أفريقيا. وأكثر هذا الصنف من الجواري ينقلن إلى بغداد بدلا من الجزية كما لا يخفى على مولاي. وفي الغرفة التي تليها جوار صفر من بلاد السند، وفي الغرفة التي بعدها جوار حمر من بلاد الروم، وفي الغرف الأخرى طبقات من أولئك الجواري بين سراري ومواشط وحواضن وطباخات وخبازات ونحو ذلك من ضروب الخدمة. وفي بعض هذه الغرف طبقات من أصناف المماليك البيض والسود، وقد تدربوا على الصناعات المنزلية بين طاه وخباز وفراش وسائس. وفيهم من أتقن الأدب وحفظ الشعر والعربية، ومنهم المغنون والندماء والمضحكون وغيرهم بين بيض وسود على اختلاف الأعمار.»
الفصل الثالث عشر
الجواري المولدات
فرأى الفضل أن التنقل بين جميع هذه الغرف يطول أمره، فقال: «أرنا أمثلة من أغرب ما عندك ودعنا من هذا التفصيل؛ فإن الوقت لا يساعدنا على رؤية كل من في هذه الغرف.»
فقال: «هل تريد أن أريك الغلمان الصغار من البيض والسود؛ فإنهم في مثل ما رأيته؟»
قال: «أجل. أرنا الجواري الصبيات.»
فتجاوز فنحاس عدة غرف حتى وصل إلى حجرة فتح بابها، فإذا فيها فتيات بيض بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر ، وهن مع ذلك في حال السذاجة، عليهن أكسية من الأثواب البسيطة، وشعورهن مرسلة أو مجدولة، وفي آذانهن الأقراط، وفي أعناقهن عقود من الخرز الملون، وفيهن جمال النساء وحياؤهن. ولما رأين الفضل ورجاله غلب عليهن الحياء وتولاهن الخوف، فوقع نظر الفضل على واحدة منهن، رأى في عينيها سحرا وفي قامتها رشاقة، وقد زادتها السذاجة جمالا وهيبة، فوقعت من نفسه موقعا حسنا، فناداها بالعربية فلم تفهم مراده، ولكنها أدركت أنه يناديها فنفرت واختبأت وراء جارتها، وحولت وجهها وغطته بذراعها، فأعجبه ذلك النفور فقال: «أين أبو العتاهية أو أبو نواس يصف لنا هذا المنظر ببيت من الشعر؟!»
فتذكر فنحاس أبو العتاهية والتفت وهو يتوقع أن يراه إلى جانبه فلم يجده، وأوشك أن ينطق باسمه لو لم يتذكر نصيحته بتكتم أمره، فقال: «صدق مولاي بإعجابه، فإن هذه الجارية من طبرستان، اشتريتها في جملة جوار من نوعها. وليس فيهن أجمل منها، ولكنك سترى ما هو أعجب من ذلك! فكيف لو رأيت الجواري المولدات من البصريات والكوفيات ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المزرفنة، والعيون المكحلة، وحسن زيهن وزينتهن، وفيهن الطويلة البيضاء، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، وبينهن من إذا صببت عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها شيء لعظم عجيزتها، مثلما يتحدثون عن عائشة بنت طلحة، التي كانت إذا همت بالنهوض يساعدها عليه اثنان.»
فضحك الفضل لمهارة فنحاس في وصف جمال النساء مع ما يظهر من شيخوخته وقال له: «أراك ماهرا في وصف الحسان يا معلم فنحاس.»
فأجابه على الفور ويده على لحيته: «وأين قضيت هذه الشيبة يا مولاي؟»
فقال الفضل: «اذهب بنا إلى الجواري المولدات.»
فأشار إشارة الطاعة وتحول إلى الجانب الآخر من الفناء، فتبعه الفضل ورجاله وفنحاس يقول: «يظهر أنكم تعبتم من الوقوف، فها أنا ذا ذاهب بكم إلى الجواري المغنيات اللواتي حفظن الأشعار، وأتقن الضرب على العود وغيره من آلات الطرب.» حتى وصل بهم إلى غرفة فتح بابها ووسع للفضل مدخلها، فنظر الفضل فرأى الغرفة مفروشة بالبسط، وفيها الوسائد ، وفي بعض جوانبها ثلاث من الجواري البيض جالسات وقد فاحت رائحة المسك منهن؛ على إحداهن ملحفة معصفرة فوق غلالة حمراء، وعلى رأسها عصابة مزركشة. وقد أرخت تحت العصابة سالفتين علقت في طرف كل سالفة ياقوتة حمراء، وأرخت شعرها كأنه الليل، وتبخرت بالعود، وتعطرت بالمسك. وكانت مقدمة على صاحبتيها لأنها أجملهن خلقة، على أن صاحبتيها كانتا في مثل مظهرها من حيث الملبس، ولكنها تفضلهما بجمالها ورشاقة قدها، وكانت عيناها سوداوين كأنهما مكحولتان، ولونها أبيض في صفاء البلور، وفي عنقها عقد من العقيق. وكانت جالسة بين رفيقتيها على وسادة، فلما فتح الباب ابتدرها فنحاس قائلا: «قومي يا قرنفلة وقبلي يد مولانا الفضل بن الربيع.» وكانت تعرف هذا الاسم وعلاقته ببلاط الخليفة، فتحفزت للوقوف، وطال تحفزها لثقل فخذيها على حد قول الشاعر: «فوقع نظر الفضل على واحدة منهن، رأى في عينيها سحرا وفي قامتها رشاقة، وقد زادتها السذاجة جمالا وهيبة، فوقعت من نفسه موقعا حسنا ...»
فقيامها مثنى إذا نهضت
من ثقله وقعودها فرد
ثم نهضت ومشت وهي تتمايل وسراويلها تتثنى فوق قدميها، حتى إذا دنت من الفضل بن الربيع هشت له وابتسمت ابتسام التحية بلطف ورقة، وانحنت لتقبيل يده فمنعها والتفت إلى فنحاس لفتة الاستحسان، فقال فنحاس: «خاطبها يا مولاي؛ فإنها فصيحة اللسان.»
فحياها الفضل فأجابت بأفصح عبارة، فأدرك من لهجتها أنها بصرية، ولكنها تختلف عن أهل البصرة في لون الوجه وسائر الملامح، فنظر إلى فنحاس وقال له: «لعل هذه الجارية من أهل البصرة؟»
قال: «كلا، ولكنها ربيت في البصرة منذ طفولتها، وأصلها من بلاد الكرج، وقد ابتعتها صغيرة مثل الفتيات اللواتي شاهدتهن في الحجرة الأولى، فآنست فيها ذكاء وجمالا فأرسلتها إلى عميل لي في البصرة علمها اللغة العربية والقرآن، وحفظها الأشعار، ولما عادت إلي أعجبني منطقها ورخامة صوتها، ورأيت ما علمته من رغبة رجال الدولة في الاقتداء بأمير المؤمنين بتعليم الجواري البيض الغناء، فرغبت إلى الموصلي؛ مغني الخليفة، في تعليمها، فلم يقبل إلا بعد أن بذلت له المال الكثير، وصرت أبعثها إليه كل صباح تأخذ عنه لحنا بعد آخر حتى أتقنت هذه الصناعة، وأصبحت نادرة بين جواري بغداد؛ لا يوجد نظيرها ولا في بلاط الخليفة.»
وكان فنحاس يتكلم والفضل يتأمل جمال تلك الجارية، وكانت قد تشاغلت عن سماع إطناب فنحاس بإنزال عود كان معلقا على الحائط، فانحسر كمها عن يدها، فبانت غضاضة زندها وعليه الأساور والدمالج، وبان الخضاب في كفها. ورأى قرطيها يلمعان في أذنيها. فلما فرغ فنحاس من إطنابه قال له الفضل: «قلت إنها تحفظ الشعر وتجيد اللغة العربية.»
قال: «اسألها ما شئت واسمع حديثها، أو انظر إلى عصابتها واقرأ ما زركشته عليها.»
فتقدم الفضل ونظر إلى العصابة، فرأى عليها بيتا من الشعر بحروف من الذهب هو:
ليس حسن الخضاب زينا لكفي
حسن كفي زين لكل خضاب
فأعجبه ذلك والتفت إلى فنحاس وهو يقول: «ما أجمل هذه العصائب! لله در مخترعتها!»
قال: «أظنك تعني مولاتنا علية أخت الرشيد؛ فإنها ابتكرت للحسان - حقا - وسيلة فعالة من وسائل الجمال.»
قال الفضل: «هل تعلم السبب الذي من أجله اتخذت هذه العصائب؟»
قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «أنا أخبرك عن السبب. إن في جبين علية فضل سعة حتى تسمج به، فأرادت إخفاء ذلك العيب، فاتخذت العصائب المكللة بالجواهر لتستر بها جبينها، فاستحدثت - والله - شيئا ما رأيت فيما ابتدعته النساء أجمل منه.»
1
فتحقق فنحاس من أن الفضل سيشتري هذه الجارية لا محالة، فأراد أن يرغبه في الأخريين، فأشار إلى إحداهما إشارة فهمتها فانزوت في أحد جوانب الغرفة، والتفتت إلى مرآة معلقة بالحائط بحيث لا يظهر وجهها لأحد. وكان الفضل مشتغلا عن ذلك بمراقبة الجارية الأولى وهي تتلهى بإصلاح العود، فلما علم فنحاس أن الجارية الثانية أتمت وصيته التفت إلى الفضل وقال: «وانظر إلى ما على وجه هذه. تقدمي يا سوسنة.» وأشار إليها، فأتت تتهادى بمشيتها وثوبها الأرجواني يتموج بلمعانه.
فتفرس الفضل في وجهها فرآها قد كتبت على خدها بالمسك: «الفضل بن الربيع.» فافتتن الفضل بذلك ورغب في هذه الجارية أيضا.
فأدركت الثالثة رأيه وخشيت أن تبقى وحدها وهي تعد ذهابها مع الفضل نجاحا كبيرا لا تطمع في أحسن منه، فانزوت جانبا وبيدها تفاحة عالجتها سرا، ثم عادت حتى أقبلت على الفضل وقدمت التفاحة له، فتناولها وإذا عليها بيت من الشعر مكتوب بالغالية؛ وهو:
أقول والركب قد مالت عمائمهم
وقد سقى القوم كأس النعسة السهر
فأدرك الفضل أنها تشير إلى ما يقوله ناظم هذا البيت «أبو دهبل الجمحي» بعده:
يا ليت أني بأثوابي وراحلتي
عبد لأهلك هذا الشهر مؤتجر
إن كان ذا قدرا يعطيك نافلة
منا ويحرمنا ما أنصف القدر
فكأنها تشير إلى رغبتها في الذهاب مع رفيقتيها، فاستحسن الفضل فطنتها، وعزم على ابتياع الجميع، وكان في عزمه سماع غنائهن قبل الشراء، ولكنه خشي التأخير - ولم يكن ميالا للهو والقصف، وإنما طاوع الأمين لغرض له في سياسة الدولة - فعزم على المسير لوقته.
الفصل الرابع عشر
المساومة
فتحول عن الغرفة وتبعه رجاله وفنحاس بين أيديهم وهو يقول: «إذا شاء مولاي أريته أصنافا أخر من الجواري البيض، والسمر، والحمر، والسود، ولكنه رأى أحسن ما عندي.» قال ذلك ترغيبا له فيما وقع عليه اختياره، وسار بين أيديهم حتى أدخلهم غرفة الاستقبال فجلسوا، فأمر فنحاس بمائدة الشراب، فاعتذر الفضل لأنه لا يرى في الوقت متسعا لذلك، والتفت إلى فنحاس وقال: «بكم تبيع هؤلاء الجواري الثلاث؟»
فوقف فنحاس وقفة الاحترام وقال: «وهل على ولي العهد شرط أو مساومة؟ إن الجواري جواريه ونحن جميعا عبيده، سواء دفع مالا أو لم يدفع.»
فلم يجهل الفضل احتيال فنحاس في ذلك فقال: «نحن جميعا صنيعة ولي العهد، ولكن البيع والشراء حق واجب.»
قال: «لا بأس من البيع، ولكنني أستحيي أن أحدد ثمنا؛ فافرض ما تراه.»
قال الفضل: «ذلك إليك؛ فاطلب ما تريده.»
قال: «ولكن مثلك يعرف قيمة الأشياء، ومولانا ولي العهد كريم إذا أعجبه أمر فلا يبالي بثمنه، ونحن نقبل منه أن يدفع كما يدفع مولانا أمير المؤمنين.»
قال ذلك وابتسم كأنه يظهر المزاح أو يخلط بين الجد والهزل، فقال الفضل: «وكم يدفع أمير المؤمنين ؟»
قال : «ألم يدفع ثمن الجارية 100000 دينار،
1
وهل تلك الجارية أحسن من قرنفلة أو سوسنة؟» وضحك.
فعل ذلك في أول حكمه، ولما أمر وزيره يحيى بن خالد أن يدفع هذا المال اعتذر عن دفعه، فغضب أمير المؤمنين، فأراد يحيى أن يبين ما يحتمله بيت المال في هذا السبيل، فجعل المال دراهم فبلغت 1500000 درهم، فعرضها في الرواق الذي يمر به الخليفة حينما يريد الوضوء، فلما رأى ذلك المال استكثره وعلم أنه إسراف.»
فقال فنحاس: «فإذا لم يشأ مولانا ولي العهد أن يدفع كما دفع أبوه، فليدفع كما دفع وزير أبيه.»
فعلم الفضل أنه يشير إلى جعفر البرمكي عدوه، فتذكر ما بينهما من المنافسة، ولكنه تجاهل، ولم يبد في وجهه تأثر وقال: «ما الذي دفعه؟»
قال: «ألم يدفع ثمن الجارية 40000 دينار؟
2
وهل يليق بولي العهد أن يدفع أقل من ذلك؟ وعلى كل حال إني مرسل الجواري إلى قصر ولي العهد والذي يدفعه مقبول.»
فاستاء الفضل من هذه المساومة، وشق عليه أن يجعل الأمين أقل سخاء من عدوه، والناس يومئذ يكتسبون الأحزاب السياسية بالسخاء. وكان فنحاس يعلم تلك المنافسة؛ إذ كان مطلعا على أسرار الجميع، ولم يقل ما قاله إلا وهو يعلم أن الفضل لا يراجعه حفظا لكرامة مولاه الأمين؛ لعلمه أنه يرى من حسن السياسة أن يحفظ منزلته بين رجال دولته حتى لا يجدوا عليه ما يصغره في أعينهم، وخاصة في تلك الحال، فنجح فنحاس في خطته؛ لأن الفضل أراد أن يظهر فضل الأمين فقال: «لو كان جواريك هؤلاء من طبقة الجارية التي ابتاعها الوزير لحق لك هذا الطلب، ومع ذلك فإنني سأجعل ثمن الجواري الثلاث معا 100000 دينار.»
فقال فنحاس وهو يظهر الزهد في الكسب: «كل ما يدفعه مولانا كرم منه؛ فإننا وما نملك من بعض صنائعه.»
ولم يجهل الفضل تملق ذلك اليهودي، ولكنه جاراه وقال: «بارك الله فيك. أرسل الجواري إلى قصر مولانا مع من تثق به لتسلم المال.»
قال: «سأرسلهن حالا. وليس المال مما يستعجل فيه.» فلما قال ذلك تحفز الفضل للوقوف ، فسبقه رفاقه إلى النهوض، وأسرع أحدهم إلى الخدم في فناء الدار، فأشار إليهم أن يسرعوا في إعداد الركائب، واشتغل الفضل في إجابة فنحاس على عبارات المجاملة والإطراء، وهو في أثناء ذلك يتلثم بطرف عمامته إخفاء لما جاء من أجله.
الفصل الخامس عشر
القبض على أبي العتاهية
ولم يكد الفضل يفرغ من ذلك ويخرج إلى باب المنزل حتى سمع جلبة، ثم رأى جماعة من الرجال يتشاجرون وعليهم أردية تغطي أثوابهم كأنهم متنكرون، ولكنه عرف من قلانسهم الطويلة المدعمة بالعيدان من داخلها أنهم من جند الدولة - وأول من ألبس الجند هذا الزي أبو جعفر المنصور
1 - ولكن الفضل استغرب تنكرهم بالأردية فوق أثوابهم، على أنه ما لبث أن سمع صوتا ينادي: «إني من رجال الفضل بن الربيع. اتركوني وشأني.»
فلما سمع الفضل اسمه تقدم، فوسع له أصحاب القلانس، وكانوا متكأكئين على رجل يوثقونه وهو يحاول التخلص من بين أيديهم، وحالما وقع بصره عليه عرف أنه أبو العتاهية، فاستغرب وقوعه في تلك الورطة، ونظر يمينا وشمالا فرأى في أحد جوانب الزقاق امرأة ملثمة تشير إليهم أن يوثقوا الرجل، ولما رأته بالغت في التنكر والتستر، والرجال يوثقون أبا العتاهية بالوثاق وهو يهددهم بأنه من رجال الفضل، وهم يقولون: «ما لنا وللفضل؟! فما عليك إلا أن تجيب الخليفة.» ووقعت عين الفضل على عين أبي العتاهية، فرآه يشير إليه ويستنجد به، وفي استنجاده معنى توقع منه خيرا.
فصاح الفضل بهم: «اتركوا الرجل. من الذي أمركم بالقبض عليه؟»
فأجابوه وهم مشتغلون بشد الوثاق: «هذا أمر أمير المؤمنين» ولم يلتفتوا إليه.
فقال لهم: «ومن ينبئنا بأن أمير المؤمنين يطلبه، وما شأنكم في ذلك؟»
فتقدم أحدهم إليه - وهو عريفهم - ونظر إلى الفضل، فتوسم من زيه أنه من كبار أهل بغداد، ولكنه أنكر تلثمه وقال: «إننا من جند أمير المؤمنين، وقد أمرنا بالقبض على هذا الرجل.»
قال: «لا أراكم من الجند، وليس عليكم شارة الدولة.»
فابتسم الرجل مظهرا الاستخفاف بذلك الإنكار، وخلع الرداء عنه وأدار ظهره ليقرئه ما هو مطرز بين كتفيه، فقرأ:
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، ثم أشار العريف إلى خصره، فرأى سيفه معلقا بمنطقته.
فضحك الفضل وقال: «هذه ثياب قديمة من أيام المنصور؛ لأنه هو الذي أمر رجاله بكتابة هذه العبارة
2
على أثوابهم، وبتعليق السيوف بمناطقهم، فلا يبعد أنكم ابتعتم هذه الأثواب من بعض الوارثين لتنتحلوا الجندية، وإلا فأين اسم أمير المؤمنين الرشيد؟»
فمد الرجل ذراعه فقرأ الفضل على أعلى الكتف اسم الرشيد مطرزا بالقصب: «هارون بن المهدي أمير المؤمنين.» ثم تحول العريف عن الفضل وهو يهز رأسه، وتوجه نحو رجاله وهم لا يزالون يوثقون أبا العتاهية، وأخذ يستحثهم على الإسراع في شد الوثاق. وكان رجال الفضل واقفين ينتظرون أمره لإنقاذ أبي العتاهية، ولم يريدوا الإقدام على ذلك إلا بإشارة؛ خشية أن يكون قاصدا التنكر لغرض في نفسه.
أما هو فلما رأى استخفاف العريف به ناداه بصوت هادئ يمازجه التهديد قائلا: «ولكنه يقول لكم إنه من رجال الفضل بن الربيع.»
قال: «ومن ينبئنا بصدق قوله؟ وهب أنه صادق؛ فنحن مكلفون بالقبض عليه.» قال ذلك وهو لا يلتفت وراءه، فصاح به الفضل: «أنا أقول لك أيضا إنه من رجال الفضل؛ فاتركوه.»
فلما سمعه يخاطبه بهذه اللهجة، تحول نحوه وتفرس في وجهه من وراء اللثام، ثم التفت نحو المرأة التي كانت واقفة هناك، فرآها تنسل من بين الجماهير، فعلم أنها تسعى إلى الفرار، واستدل من ذلك على أن الرجل الذي يخاطبه ممن يخشى بأسهم، على أنه لم يكترث لقوله وعاد إلى رجاله وصاح فيهم: «أوثقوه حالا.»
وكان فنحاس في أول الأمر واقفا بجانب الفضل، فساءه ما وقع في منزله من القبض على أبي العتاهية ولم يفهم السبب، وحدثته نفسه أن يتقدم لإنقاذه وهو قادر على ذلك لكثرة من في داره من الرجال، ثم تذكر وعده بتخصيص نسبة له من ثمن الجواري، فتوسم بالقبض عليه بابا للتخلص مما وعده به. هذا إلى أن حيان ما لبث أن جاءه وأسر إليه ما كان في الأمس، وما أوصته به الجارية من الاحتفاظ به ريثما تأتي، وأن سيدتها من أهل أمير المؤمنين، فاطمأن فنحاس، وصمم على السكوت، ودخل إلى داره يتشاغل بما لا طائل تحته.
أما الفضل فلما سمع تهديد العريف، تقدم خطوتين بقدم ثابتة وهو يقول للرجل: «لا، لا ينبغي أن توثقوه حتى نعرف ما هو ذنبه، وإلا فأنتم تتحملون تبعة هذا العمل عند أمير المؤمنين.»
فالتفت العريف نحو الفضل وهو يقول: «ومن أنت حتى تهددني بأمير المؤمنين؟ امض لشأنك.»
فلما سمع رجال الفضل ما في تلك العبارة من الاستخفاف كادوا يهمون بالرجل أو يصرحون له بالحقيقة، ولكنهم تركوا ذلك للفضل ولبثوا ينتظرون أمره. أما هو، فظل رابط الجأش، وما زاد على أنه أشار إلى رجاله أن يخلصوا أبا العتاهية فهجموا - وكانوا أشداء وأكثرهم من القواد - فعلت الضوضاء وهم الجند بتجريد السيوف، فصاح الفضل فيهم: «لا حاجة بكم إلى السيوف. اتركوا الرجل، فإذا سئلتم عنه فقولوا: إن الفضل بن الربيع أخذه منكم، فإذا كان أمير المؤمنين أو سواه في حاجة إليه؛ فيطلبه مني.»
فلما سمعوا ذلك التصريح بغتوا وتوقفوا عن الحركة، وجاء العريف إلى الفضل، وقال له بغير لهجة الاستخفاف: «إن الرجل طلبه أمير المؤمنين. فكيف نتركه بعد أن قبضنا عليه؟ وماذا نجيب إذا سئلنا عنه؟»
قال: «قل لطالبه إنه عندي. قل إنه عند الفضل بن الربيع، أو عند ولي العهد، كما تشاءون.» قال ذلك وهو يهم بإزاحة اللثام.
فلم يبق عند العريف شك أنه بين يدي الفضل، ولكنه نظر إلى من كانوا حوله من الرجال، فسمع أحدهم يقول له همسا: «إنك تخاطب وزيرا كبيرا. هذا هو الفضل بعينه.»
فتقدم العريف نحوه وهو يتأدب في مشيته وقال: «لماذا لم يقل مولانا ذلك في بادئ الأمر؛ فنحن صادعون بأمره.» ثم أشار إلى رجاله فحلوا وثاق أبي العتاهية وتحولوا، فاتجه أبو العتاهية نحو رجال الفضل وقد وقعت عمامته عن رأسه، وانتفش شعره، فظهر قبح منظره، وجاءوا به إلى الفضل فخر على قدميه وحاول تقبيل طرف ثوبه، فأنهضه الفضل وهو يقول له: «ما الذي أوقعك في هذا المأزق وأنت الشاعر الزاهد؟» وضحك وهو يحسب أن سبب القبض عليه مما يخالف أسباب الزهد.
فقال: «إن السبب يا مولاي سأقصه عليك وهو يهمك.»
فأشار إليه أن يسير معهم، وأمر رجاله بالركوب بعد أن قدموا له فرسه، فركب وركبوا في أثره قاصدين قصر الأمين.
الفصل السادس عشر
الصولجان والكرة
أما العريف ورجاله فإنهم عادوا إلى قصر العباسة. وكانت قد أرسلتهم للقبض على أبي العتاهية بمشورة عتبة. وذلك أنهما لما رجعتا إلى القصر في أواخر الليل، كما تقدم، ظل خاطر عتبة مشغولا بما علمته من أمر أبي العتاهية، وقد رجح في ذهنها اطلاعه على سر مولاتها، فلما وصلتا إلى القصر دخلت العباسة إلى غرفتها تلتمس النوم، واستولى القلق على عتبة فلم تتمالك عن الدخول عليها باكرا، والتصريح لها بما لاحظته، وأشارت بالقبض على أبي العتاهية سريعا لئلا يبوح بالسر، فأعظمت العباسة الخبر وخشيت منه، ولم تر حيلة للنجاة إلا بالقبض عليه وإخفاء خبره ريثما تتدبر في أمرها، فطلبت من عتبة أن ترسل شرذمة من الجند ممن كانوا في خدمة قصرها ليقبضوا عليه بأمر الخليفة، فذهبت عتبة معهم، حتى إذا وصلوا إلى دار فنحاس كان الفضل قد سبقهم إليها ودخل دار الرقيق، كما تقدم. وكان أبو العتاهية عازما على الخروج خلسة بحيث لا يشعر به الفضل ولا يعرف بوجوده هناك، مخافة أن يلحظ تواطؤه مع فنحاس، ولم يخطر بباله أنه مطلوب. وشعر حيان بذلك وأخذ يشاغله بالحديث ونحوه ريثما يعود سيده من دار الرقيق ليطلعه على وصية عتبة، فلما أحس أبو العتاهية بقرب خروج الفضل أسرع في الذهاب. وكان العريف قد جاء بجنده، فأشار حيان إليهم أن يقبضوا عليه، فهموا به. ورأى أبو العتاهية عتبة فأدرك غرضهم، فأخذ يطاولهم حتى جاء الفضل فوجدهم على تلك الحال فأنقذه منهم.
فعاد العريف إلى العباسة. وكانت عتبة قد سبقته إلى هناك، وأخبرت مولاتها بتعرض الفضل لهم. فلما عاد العريف وأنبأها بما كان من نجاة أبي العتاهية على تلك الصورة عظم الأمر عليها، وتحققت أن سرها لا يلبث أن يصل إلى الفضل، فأخذت تندب حظها، وخلت بعتبة وشاورتها في الأمر، فقالت لها: «لم تبق لنا حيلة يا مولاتي إلا بالاستنجاد بمولاي الوزير.»
قالت العباسة: «وكيف نبلغه الخبر وهو اليوم مع أخي في الميدان يلعبان بالكرة والصولجان؟» وكان ذلك اليوم موعد تلك الألعاب على جاري العادة في الميدان بقرب قصر الخلد.
قالت عتبة: «لا بد من ذلك، وإذا شئت فإني أتولى نقل الخبر إليه.»
فأثنت عليها وقالت: «تدبري في الأمر كما تشائين؛ فإني لا أعي شيئا.»
قالت عتبة: «هل أدعوه إليك إلى هنا؟»
قالت العباسة: «افعلي ما ترين؛ لأني أخشى افتضاح أمرنا قبل تدبير الحيلة للنجاة.»
قالت عتبة: «لك علي ذلك بإذن الله» وهمت بالخروج فنادتها العباسة وقالت: «خذي إليه هذه البطاقة.» وكتبت إليه بطاقة قالت فيها: «أدركني في أول فرصة تتاح لك؛ لإنقاذنا من مخالب الأعداء.» ودفعت البطاقة إليها، فأخفتها بين ثيابها وخرجت للحال إلى غرفتها، وتزيت بزي رسول قادم من خراسان، وتلثمت بلثام السفر، وركبت فرسا وأسرعت نحو الميدان، وكان قصر العباسة على مقربة منه.
فوصلت إلى الميدان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، فرأت تلك الساحة غاصة برجال الدولة على خيولهم في ساحة كبيرة قد أحاطوها بسور من حبال مزدوجة منصوبة على أعمدة، وقام الجند حول السور بالأسلحة يمنعون الناس من الدخول، فوقفت بجوادها بحيث تشرف على اللاعبين حتى تتحقق من موقف جعفر، ثم تسعى في الوصول إليه، فرأت في أحد جوانب الساحة فسطاطا كبيرا خرج منه الرشيد على فرسه، وقد اعتم بعمامة خفيفة خاصة باللعب، وبيده صولجان هو عبارة عن عصا طويلة طرفها أعقف، ورجال الدولة على أفراسهم متأهبين للعب، وفي أيديهم الصوالجة وقد اصطفوا صفين: أحدهما مع الرشيد، ورأت الرشيد يجول على فرسه والعصا مشهرة بيده، ثم لقف بها الكرة من على الأرض وأرسلها في الهواء، فتسابق اللاعبون لملاقاتها بصوالجهم.
وأخذوا يستحثون أفراسهم وراءها، وفي جملتهم جعفر الوزير على فرس أدهم، وعليه دراعة تمنطق فوقها بمنطقة عريضة من الخز، وعلى رأسه طاقية فوقها عمامة خفيفة. ولاحظت أنه لم يكن أحد غيره يجرؤ على الدنو من الخليفة. وأما سائر اللاعبين من رجال الدولة فكانوا يجولون في الميدان مسايرة للخليفة، ولا يجرءون على سباقه خشية أن يغلبه أحد منهم - والمجاملة تقضي بأن يكون هو الغالب - إلا جعفر؛ فقد كان يسابق الرشيد في الكرة ويلاعبه بها، والرشيد يجامله، فإذا أخطأ ضحك وصاح بجعفر ومازحه، وجعفر يتعاجز عن غلبته.
وكان صولجان الخليفة من الخيزران المطوق بالذهب، ورأسه من الذهب الخالص، وصولجان جعفر من خيزران بلا تطويق، وكراتهم كتل من مشاقة الحرير معبأة في أكياس من الحرير المتين، وقد شدت بأطواق من الأوتار المرنة، فلا يلبث الفارس أن يلقف الكرة من على الأرض بطرف صولجانه الأعقف حتى تطير في الهواء، فيستحث الآخرون أفراسهم في أثرها، وعيونهم شائعة نحوها، وصوالجتهم مشرعة في أيديهم، فيبتغون ملاقاتها، وأفراسهم قد هاجها الجهد حتى تصبب العرق منها، واختلط الزبد المتحلب من أفواهها بما أزبد من العرق المتقطر من أعناقها وصدورها، وهي لا تشكو تعبا؛ لأنهم أعدوها لمثل ذلك اليوم. وكان الرشيد شديد الولع بهذه اللعبة،
1
ورجال الدولة يتقربون إليه بإتقانها واللعب بين يديه بها.
وكان جعفر قد قضى ليلته الماضية في قلق على أثر مشاهدته ولديه؛ إذ جاء بهما إليه رياش قبل ذهابه إلى دار فنحاس، فقبلهما جعفر واستنشق ريحهما ولاعبهما مدة، فثارت عواطفه وأصابه ما أصاب أمهما تلك الليلة من يقظة الحنان الأبوي على ولدين كأنهما الفرقدان، مع ما ذكرناه من جمالهما ولطفهما. وقد قضت إرادة الخليفة بإبعادهما عن حجر والديهما؛ خوفا من الموت، فبات جعفر تلك الليلة وهو يتصور العباسة معانقة ولديها، مع ما قد يجيش بين جنبيها من عوامل الحنان يخالطها خوف الفراق، ناهيك بما يعترض ذلك من الهواجس والمخاوف، فعظم عليه الأمر وهجره النوم. وقد كان على موعد للذهاب إلى الميدان لملاعبة الرشيد بالكرة والصولجان في صباح الغد، فجاء بموكبه وحاشيته وهو يظهر الارتياح؛ لعلمه بما يحدق به من الحساد والوشاة، على أنه كان مطمئن الخاطر من ناحية الرشيد، واثقا بحسن ظنه به، لا يخاف حسد الحاسدين، ولا وشاية الواشين.
وقد فاته ما يجول في خاطر الرشيد من أمره وما يدسه الوشاة إليه؛ يثيرون نقمته عليه بما يحدثونه به من اتساع سلطان البرامكة، واقتنائهم الضياع والقصور، واختزانهم الأموال مما لم يكن عند الرشيد مثله، فضلا عن استبداد جعفر بشئون الدولة، على أنهم لم يكونوا يجدون من الرشيد إصغاء، ولم يسمعوا منه غير إطرائه والثناء عليه، وقد أطلق يده في أموره العامة والخاصة، حتى أباح له الدخول على دوره بلا استئذان، وسلم إليه خزائن بيت المال، وأطلق يد أبيه يحيى في دوره وقصوره، وجعل النظر فيها وفي حريمه إليه، حتى إنه كان يغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح.
2
ولم يكن الرشيد يصبر على فراق جعفر حتى آل ذلك إلى ما تقدم من عقده له على أخته العباسة؛ بحيث يحل له النظر إليها فلا يخلو مجلسه منهما، فأفضى ذلك إلى ما علمته من زواجهما سرا.
على أن جعفرا لم يكن يعد زواجه بالعباسة إلا شرعيا، وإنما عمد إلى التستر خوفا من غضب الرشيد، ولم يخطر بباله انكشاف ذلك السر لأحد، وكأن إقبال الزمان غره فأعمى بصيرته عمن يحيط به من الحاسدين. ولعل له عذرا في غروره بما كان يحسه من تزلفهم إليه، وتظاهرهم باحترامه ورعاية جانبه. ولا نظن أنه كان غافلا إلى هذا الحد، ولكنه سكر بما ظهر له من حب الرشيد له وإجلال مقامه، وما كان يبديه من إكرامه والرجوع إليه في معظم شئونه.
الفصل السابع عشر
قصر العباسة
أما عتبة فجعلت تتفرس في اللاعبين حتى عرفت مكان جعفر وهو بعيد عنها، ودون الوصول إليه رجال وحبال، فوقفت وهي تعمل فكرتها في طريقة لإيصال البطاقة إليه بغير أن يشعر بها أحد، فوقع بصرها وهي في تلك الحيرة على رجل من غلمان جعفر - كان يأتي إلى قصر العباسة لبعض المهام الخاصة، ولها ثقة به - فاستغفلت رفاقه وأشارت إليه، فجاء نحوها على انفراد فنادته: «حمدان.» وكان حمدان هذا من أقدم غلمان جعفر؛ نشأ في منزل أبيه يحيى منذ طفولته، وقد ربي جعفر على ذراعيه، وكان يحبه حبا يقرب من العبادة، وقد بلغ الخمسين من عمره وهو لا يزال نشيطا، وكان فارسي الأصل، خراساني الموطن، وكان مفضلا عند جعفر، يدخل عليه متى شاء ويعامله معاملة الأقرباء ... فلما سمع حمدان عتبة تناديه باسمه عرفها، وأدرك أنها متنكرة لغرض هام، فقال لها: «ما وراءك؟»
قالت: «جئت برسالة إلى الوزير، فكيف أوصلها إليه؟»
قال: «إنهم لا يلبثون أن يفرغوا من اللعب ويعود الوزير إلى فسطاطه للراحة، فيسهل الاتصال به. أعطني الرسالة فأوصلها إليه.»
فسرت عتبة لذلك، ودفعت إليه البطاقة فأخفاها في ثيابه وقال لها: «اذهبي واطمئني؛ فإني سأسلمها له حالا.»
فعادت عتبة إلى سيدتها فرأتها في انتظارها وقد فرغ صبرها، فقصت عليها ما كان، وجلستا على مثل الجمر تنتظران مجيء جعفر.
وكان قصر العباسة على ضفاف دجلة بالقرب من قصر زبيدة «دار القرار»؛ بينه وبين قصر الخلد «دار الرشيد». وكان لقصر العباسة شرفة مطلة على دجلة، وأخرى تطل على طريق يؤدي إلى الميدان، وهو الطريق الذي عادت منه عتبة، فجلست العباسة في هذه الشرفة وأطلت من وراء حجاب فلم تر في الطريق أحدا، وطال انتظارها وعيناها شاخصتان نحو الأفق، وبعد حين رأت شبحا ظنته وزير أخيها أو حبيبها وزوجها ومحط آمالها، حتى إذا مالت الشمس إلى المغيب واستطالت أظلال المآذن على سطوح قصور بغداد، وعلت أصوات المؤذنين؛ انزعجت العباسة لصوت الآذان على غير المعتاد؛ لأنها كانت تستأنس به وتطرب لسماعه. أما الآن فقد أزعجها؛ لأنه أنبأها بانقضاء النهار وحيلولة الظلام بينها وبين الأفق. وكانت عتبة واقفة إلى جانبها لا تقل عنها قلقا، فلما سمعت أصوات المؤذنين لاحظت تذمر مولاتها، فابتدرتها قائلة: «أظنه قد تعمد أن يتأخر حتى يسود الظلام.»
قالت: «ولماذا؟»
قالت: «حتى يأتيك خلسة فلا يشعر به أمير المؤمنين أو غيره.»
قالت: «ومتى كان أخي يرقب ذهابه ومجيئه، وهو غير متهم عنده، ومفاتيح القصور في يد أبيه، ولكنني أخشى أن يكون لتأخره سبب مزعج ، وقد أصبحت بعد اطلاع ذلك الشاعر بائع الجرار على سرنا أعد حياتي في خطر.» قالت ذلك وغصت بريقها.
فقالت عتبة: «لا يزعجك هذا الوهم يا مولاتي؛ فإنني لست على يقين من اطلاع أبي العتاهية على سرنا، وإنما اتهمته فأحببت أن يقبض عليه من باب الاحتياط، وهبي أنه اطلع عليه؛ فهل يجرؤ أن يذكره لأمير المؤمنين؟»
فلما تصورت العباسة ذلك اقشعر بدنها خوفا من غضب أخيها؛ لعلمها أنه إذا غضب فتك واستبد ولا مرد لغضبه، وهي تعلم أيضا أنه ما من أحد يجرؤ على ذكر شيء من ذلك بين يديه، ولكنها قالت: «إذا كنت لا أخاف أن ينطق أبو العتاهية بشيء من ذلك بين يدي أخي، ألا أخاف أن يبوح به لحساد جعفر فيتخذوه وسيلة للإيقاع به، على أني لا أخاف أحدا خوفي من تلك المرأة.»
فأدركت عتبة أنها تشير إلى زبيدة؛ زوجة أخيها؛ لعلمها بما بينهما من المنافسة مما يكون بين المرأة وبنت حماتها، لا سيما أن الرشيد كان يظهر حبه للعباسة ولا يصبر على بعدها، وزبيدة تفاخر سائر نساء الخليفة بشرف نسبها الهاشمي؛ لأنها حفيدة المنصور وابنة عم الرشيد. وكان الرشيد يحبها أيضا ويحترمها، ولا يرد لها طلبا، فلم تقنع بذلك وأخذت تغار من حبه لأخته.
ولعل علو منزلتها عند الرشيد زاد من أسباب غيرتها، وخاصة بعد أن علمت بما بين العباسة وجعفر من تبادل العلاقات. ولم يكن ذلك كله يخفى على عتبة، بل كانت هي أعلم به من مولاتها - لأن الخبر يصل إلى أذن صاحبه ويقف - ولا سيما في ذلك العصر والناس يتقربون إلى أهل المناصب بالإطراء والإرضاء، ويتجنبون إبلاغهم ما يسوءهم ذكره. وربما ارتكب المرء جناية ظن نفسه مبالغا في كتمانها، والناس يتحدثون عنها في مجالسهم وأنديتهم وهو يحسبهم غافلين، ولا يجرؤ أحد منهم أن يطلعه على ذلك. فلما سمعت عتبة تصريح العباسة بخوفها من زبيدة قالت: «لا أرى مسوغا لما تتخوفين منه الآن.»
قالت: «وكيف لا ترين مسوغا وأنت تعلمين ما في نفس زبيدة مني ؟ فكيف إذا اطلعت على هذا السر؟»
فابتسمت عتبة وقالت: «هل تظنين زبيدة لم تعلم بذلك إلى الآن؟»
فأجفلت العباسة وقالت: «وهل علمت؟ ومن أطلعها عليه؟»
قالت: «إنك عاقلة حكيمة، ومثلك لا تأخذ بظواهر الأمور. كيف يخطر لك أن يبقى هذا الأمر مكتوما عن الناس ومولاي الوزير يدخل هذا القصر متى شاء بلا حجاب ولا حساب؟»
فقطعت العباسة كلامها وقالت: «وهل أهل القصر يعلمون ذلك أيضا؟»
فخافت عتبة على مولاتها فقالت: «كلا، ولكنني أظن أن زبيدة علمت به لما تعلمينه من تجسسها بوساطة الجواري والأعوان لما يهمها من أمرك، على أن اطلاعها على ذلك لا يقتضي أن تبوح به لزوجها؛ فإن أمير المؤمنين لا يجرؤ أحد أن يذكر له شيئا مثل هذا، إن لم يكن خوفا منه فخوفا من سيدي الوزير، وهو صاحب العقد والحل في الدولة. فمن يجرؤ أن يتعرض لغضبه؟»
وكان الظلام قد تكاثف وهما جالستان في تلك الشرفة في الظلام، وسائر القصر مشعشع بالأنوار والشموع، وأهله لاهون عن حال مولاتهم لا يعلمون بما يكنه ضميرها. ولم يكن أحد ممن في قصرها من الجواري والخصيان وغيرهم يجالسها أو يعلم ما في قلبها إلا عتبة؛ لأنها صحبتها منذ طفولتها وهي في قصر أبيها المهدي، ووثقت بها. وكانت العباسة تتحدث مع عتبة في ذلك المساء وعيناها لا تنتقلان عن الأفق وإن كان مظلما، على أن بصرها كان يتحول رغم إرادتها إلى الأنوار المتألقة في قصر الخلد إلى يمينها، ودار القرار إلى يسارها، وفي كل منهما رقيب تخشاه. فلما استبطأت جعفرا انشغل خاطرها، وتحفزت للنهوض وهي تقول: «هلم بنا إلى الشرفة المطلة على دجلة لعله يجيء من هناك.» وإذا هما بخفق نعال في الدهليز المؤدي إلى ذلك المكان. فلما سمعت العباسة ذلك الصوت خفق قلبها؛ لأنه يشبه وقع خطوات جعفر، فأسرعت وهي تقول: «أظنه جاء!» فمشت عتبة بين يديها وقالت لها: «اذهبي يا مولاتي إلى غرفتك البعيدة حتى آتي به إليك فلا يكون عليكما رقيب، ولا أنا.»
فأطاعتها العباسة وتحولت إلى تلك الغرفة . أما عتبة فأقبلت على الدهليز وفي جدرانه الشموع، فرأت جعفرا داخلا وعليه السواد «الجبة السوداء» والقلنسوة الطويلة، وهما ملابس العباسيين الرسمية، فتقدمت إليه وقبلت يده، فابتدرها قائلا: «أين مولاتك؟»
قالت: «هي في غرفتها تنتظر مجيئك منذ عدة ساعات.»
فمشى وحده، ومشت عتبة في أثره، ريثما يصل إلى باب الغرفة فتساعده على خلع نعاله، ثم تعود إلى مكان بعيد على جاري العادة. وكان جعفر يومئذ في السابعة والثلاثين من عمره، وهو طلق المحيا، ظاهر البشر، جميل الطلعة، ربع القامة، كستنائي الشعر، خفيف اللحية والشارب، لم يخالط شعره الشيب إلا قليلا، وفي عينيه ذكاء. وكان قد أرسل القلنسوة إلى الوراء فبان بياض جبينه، وظهرت على محياه أمارات الاهتمام. ومن كان دقيق الشعور، قوي العاطفة، ظهرت عواطفه في وجهه، فلا يقوى على الكظم، ولا يصبر على الضيم. وهذا الفرق راجع إلى طبيعة الأمزجة. فمن الناس من هو حاد المزاج، سريع الغضب، ومنهم من هو طويل الأناة، واسع الصدر، وما بين ذلك درجات كثيرة. أما جعفر فلم تكن تخفى انفعالاته على المتأمل خلافا للفضل بن الربيع.
الفصل الثامن عشر
المقابلة
وكانت العباسة واقفة في غرفتها وركبتاها ترتعدان من شدة التأثر تتنازعها عوامل الحب والخوف والعتاب والرجاء، وكانت تلك الغرفة على سعتها وبما فيها من وسائل الزينة من المنائر المنصوبة، والصور المعلقة، والطنافس المفروشة؛ أضيق في عينيها من صندوق صغير. ورأت الانتظار تلك اللحظة أطول من انتظارها معظم ذلك النهار، ثم ما لبثت أن سمعت خفق نعاله بالباب، وسمعت حركة خلع النعال. وكانت عتبة تساعده على ذلك، فلما خلعها وضعتها على رف معد لمثلها هناك وعادت.
أما العباسة فتقدمت نحوه وهي في ثوب بسيط تعودت أن تلبسه عند مقابلته، وكان شعرها محلولا وقد ضفرته ضفيرة واحدة جمعتها في أعلى رأسها بدبوس مرصع، والتفت فوق الرداء بمطرف من الحرير مزركش بأشعار طرزت على حواشيه بالقصب. وقد رسم القلق في أسرتها عبوسا زادها هيبة وجمالا. ولم تتمالك عندما وقع نظرها على جعفر عن الابتسام، وقد نسيت ما أعدته من عبارات الشكوى، وذهب من مخيلتها ما تزاحم فيها من أسباب المخاوف، وأحست بارتياح تعودته في ساعة اللقاء، شأن الحب الصادق، فإنه غالب على أسباب الشقاء في كل حال؛ فالمحب مهما انتابه من المشاق أو اعترضه من العقبات إذا رأى حبيبه نسي كل شيء، واشتغل به عن كل شيء. والحب سعادة حقيقية لا يزيدها الشقاء إلا تمكنا؛ كالذهب لا تزيده النار إلا صفاء ورونقا.
وكان جعفر مع ما يراه من تفاني العباسة في حبه، وتفانيها في راحته، لا ينسى أنها من دم أجمع أهل ذلك الزمان على أنه أشرف من دمه؛ لأنها عربية هاشمية بنت خليفة وأخت خليفة، وهو فارسي أعجمي لا يسوءه مع ما بلغ إليه من السيادة ونفوذ الكلمة أن يعد في جملة الموالي - على جاري اصطلاحهم في ذلك العهد - ولم يجرؤ على الطمع في مثل ما ناله جعفر أحد من العجم، مهما بلغ من سطوتهم وعلو مرتبتهم، حتى الملوك والسلاطين من ظهور الإسلام إلى أواسط القرن الخامس للهجرة. وأول من أقدم على ذلك السلطان طغرلبيك السلجوقي، فأراد أن يتزوج ابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، فانزعج الخليفة لطلبه، ولم يعقد له عليها إلا مضطرا عام 454ه، والخلفاء العباسيون يومئذ في دور الضعف. فكيف في أيام الرشيد وهو عصرهم الذهبي؟ فإذا عرف المرء ذلك، أدرك لماذا تخوف جعفر من انكشاف أمره واطلاع الرشيد على حقيقة زواجه بالعباسة زيجة حقيقية، وهو إنما عقد له عليها لتحل له رؤيتها، وقد حسب ذلك منة كبرى على وزيره وصديقه والقائم بدولته؛ فجعفر لم يقدم على ذلك الأمر الخطير، ولا أقدمت العباسة عليه إلا لتغلب سلطان الحب عليهما.
فلما التقى الحبيبان نسي كل منهما الغرض من ذلك الاجتماع لحظة على حد قول الشاعر المجنون:
فيا ليلى، كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم في الليل لا أدري ما هيا
ثم انتبهت العباسة لما يهددها من الخطر، فافتتحت الحديث وغلب عليها الدلال، فبدأت بالعتاب وهو فاتحة حديث المحبين، أو هو حجة يتطرقون بها إلى التشاكي، وما التشاكي إلا جلاء القلوب بالاحتكاك، فيزداد تجاذبها وتذكو نيران الغرام فيها، فقالت: «لم يرق لجعفر أن يجيب طلب العباسة إلا الآن!»
فأجابها وهو ينظر إليها نظرة المحب الولهان: «إن طلب العباسة أمر لا مرد له، ولكن الظروف قضت بإبطائي خوفا من أعين الرقباء، وقد جئتك بقارب على دجلة وبعثت غلامي بالجواد لأعود عليه.»
فأدركت السبب في عدم رؤيتها إياه من الشرفة ساعة مجيئه، فجلست على وسادة من الحرير المطرز، وهي ممسكة يده تدعوه إلى الجلوس بجانبها، فأحس ببرودة تلك اليد وارتعاشها، وجلس على وسادة أخرى بجانبها وهو يحاذر أن يتحول نظره عن نظرها، ولبث ينتظر ما يبدو منها، فإذا هي تقول وصوتها يرتجف: «إلى متى هذا الحذر يا جعفر؟ قد آن لنا أن نعيش أو نموت.»
فظنها تعرض بما يخشيانه من أمر الرشيد، فتنهد وقال: «إن الأقدار حكمت علينا بهذه المخاوف لأنها جعلت بيني وبينك حجابا من شرف النسب، فجعلتك من سادة بني هاشم وجعلتني من الموالي.»
فقالت وهي تنظر إليه عاتبة: «إنه حجاب من الوهم الباطل؛ فأنت أسمى نفسا من السادة، وأرفع في عيني من كل بني هاشم، ولكن.» وسكتت.
فقال: «لقد دعوتني على عجل فجئت، فهل حدث شيء جديد؟»
قالت وقد ذهبت دهشة اللقاء وعادت إليها مخاوفها، وأسرعت الدموع إلى مآقيها: «نعم. فينبغي أن نموت أو نعيش؛ إذ لا طاقة لي بما نقاسيه من الخوف.»
فأجفل وقال: «ما الذي حدث مما نخافه إلى هذا الحد؟ أما الموت فإني أرحب به في سبيل راحتك.»
قالت وصوتها يرتجف: «لقد انكشف أمرنا، ولا يلبث أن يطلع أخي على سرنا.» واختنق صوتها.
قال وقد بغت: «وأي سر؟ ومن اطلع عليه؟ وكيف؟ ومتى؟»
قالت: «قد انكشف سرنا بالأمس وأنا في دار فنحاس مع ولدينا أقبلهما وأشبع شوقي لرؤيتهما.»
قال: «ومن اطلع عليه؟ من تجرأ على ذلك؟»
قالت: «أبو العتاهية اللعين.»
فأجفل وصاح: «أبو العتاهية؟ يجب أن يقتل حالا.»
قالت: «وقد أردت قتله، فبعثت شرذمة من الجند للقبض عليه في صباح هذا اليوم، وهو لا يزال في تلك الدار، فتمكن من الفرار.»
قال: «وكيف يفر من أيدي الجند؟ تبا لهم.»
قالت: «إنما نجاه عدوك الخبيث.»
قال: «وأي أعدائي تعنين؟ فإنهم كثيرون.»
قالت: «صدقت. إنهم كثيرون، ولكنني أعني أشدهم حسدا لك، وأكثرهم سعيا في أذاك، ووشاية بك. ألم تعلم من هو؟»
قال: «أظنك تعنين الفضل بن الربيع؟»
قالت: «إياه أعني.» وأجهشت بالبكاء.
فحمي غضب جعفر لبكائها، وكاد يمزق ثوبه غضبا وكيدا، وقال: «الفضل بن الربيع! قبحه الله من وغد زنيم. ألم يخف من سطوتي؟ ألم يرهب حد سيفي؟ ما الذي جرأه على هذه الوقاحة؟»
قالت: «جرأه أنه مقرب من محمد بن زبيدة، وأنت تعلم نفوذ كلمتها عند أخي، واتفق وجوده في دار الرقيق لابتياع بعض الجواري المغنيات لذلك الغلام الخليع، وبينما هو خارج رأى جندنا يهمون بالقبض على أبي العتاهية فاستنجد به، وقد رأته جاريتي عتبة يشير إليه بعينيه كأنه يعده بكشف سر يهمه، فأنقذه واستعان على ذلك برجاله وهدد رجالنا، فتركوا أبا العتاهية وعادوا فقصوا علي الخبر فكدت أتقد بثيابي، ولم أعد أدري ماذا أعمل، فأشارت علي تلك الجارية الأمينة أن أطلعك على الواقع، وذهبت هي إليك بتلك البطاقة وأنت تلعب بالكرة والصولجان، فعهدت بها إلى غلامك حمدان الذي تعودت إنفاذه إلي، وهو أوصلها إليك. وقد قضيت في انتظارك ساعات هي أطول علي من الدهر حتى جئت الآن، وهذا هو ما أردت أن أخبرك به، فما رأيك؟ لقد أصبحت لا آمن البقاء هنا ساعة، ويخيل إلي أن أحجار بغداد ومياه دجلة تعلم بسري، وكأن خدمي وجواري جند يهمون بالقبض علي. ولو كان الخطر علي وحدي لهان مصابي، لكنني أخاف عليك من غضب أخي وشدة بطشه.» قالت ذلك وأخرجت منديلها تمسح به عينيها وقد استغرقت في البكاء.
وكان جعفر يسمع حديثها، وعيناه شاخصتان إليها، وقلبه يخفق بشدة، ولحيته ترقص غضبا، فلما فرغت من كلامها هاجت عواطفه، وحمي غضبه، فلم يتمالك أن وقف بغتة وقال: «لا تخافي يا حبيبتي، إنهم لن ينالوا منك شعرة قبل أن تزهق أرواحهم جميعا.»
فأمسكت بطرف ردائه وأجلسته وهي تقول له: «لا تجعل للغضب عليك سلطانا؛ فإن الأمر يحتاج إلى التأني والتبصر؛ لأن عدوك الخليفة أمير المؤمنين، وبنو هاشم وسائر العرب وأحزابهم وأجنادهم، ولك حساد يتوقعون منك كبوة يجعلونها حجة؛ لذلك أخشى إذا أخذت الأمر عنوة أن تعرض نفسك للخطر.»
الفصل التاسع عشر
الرأي الصواب
فابتسم جعفر والغضب ظاهر على شفتيه وفي عينيه وقال: «لا تظني أن محبك يرسل الكلام جزافا، فإني قد أعددت العدة لكل احتمال. إن من أشرت إليهم من سادة بنو هاشم وسائر رجال الدولة ليس منهم مع الرشيد أحد؛ لأني غمرتهم بالعطايا وملكتهم بالإحسان، وأنا لم أكثر الجوائز عبثا، ولا بالغت في الكرم والسخاء اعتباطا، ولكنني جعلت ذلك ثمنا لما أرجوه في مثل هذا المشكل وأعظم منه. وأما الجند فالقواد الفرس كلهم ناقمون على أخيك لمبالغته في مطاردة العلويين، وعندي في خراسان ألوف من صناديد الرجال يأتمرون بأمري، وكلهم ناقمون على بني العباس منذ فتك جدك أبو جعفر المنصور بقائده ومؤسس دولته أبي مسلم الخراساني. اعذريني إذا صرحت لك بذلك، وإن كنت لم أصرح به لأحد سواك بعد، ولا يغضبك أن تسمعي ما سمعته عن جدك وأخيك، وإنما دفعني إلى التصريح بذلك ما رأيته من تخوفك.»
فلما سمعت مشروعه أعظمت الإقدام عليه، وأطرقت ولم تجب، فابتدرها قائلا: «كأني بك تتخوفين مما سمعته، فإذا كنت تنكرين علي مناهضة الخليفة وهو أخوك فأخبريني؟»
فرفعت العباسة نظرها إليه وقد بدا الاهتمام وإعمال الفكرة في عينيها وقالت: «إني لا أستحي أن أصرح لك بما في خاطري بعدما سمعته من تصريحك، فاعلم أنه لا يهمني في هذه الدنيا أحد سواك، وكل عدو لك فهو عدو لي، لا أستثني أحدا، ولكنني أخشى إقدامك على أمر يمكننا الابتعاد عنه إلى أمر آخر أقل منه خطرا. اعلم يا حبيبي أني لا مطمع لي في هذه الدنيا إلا أن أكون بجانبك هنا، ومعنا ولدانا وثمرة قلبينا - وبلعت ريقها تجنبا للبكاء - ولا يهمني أن يكون ذلك الاجتماع في قصر أو كوخ؛ فقد سئمت نفسي القصور وما يحف بها من أسباب المخاوف؛ فابحث عن سبيل تنجو به من هذه المدينة إلى مكان لا نخشى فيه بأسا، ودعنا من الوزارة والخلافة والسلطة؛ فإنها محفوفة بالمكاره، والمرء مهما طال عمره أو اتسع سلطانه لا يبقى له مما يملكه إلا قيد باع يوارونه فيه.» وأخذت في البكاء ويداها بالمنديل على عينيها.
فلما سمع كلامها ورآها تبكي على هذه الصورة كاد يبكي معها، ثم تجلد، ولكنه تأثر مما ذكرته عن ولديهما، فأطرق وهو يزيح القلنسوة عن جبينه، ثم تشاغل بالقبض على لحيته، وأعمل فكرته فيما قد يجره إليه تسرعه بإظهار العدوان، ورجع إلى صوابه، ورأى قولها أقرب إلى السلامة، فقال لها وهو يرد يديها عن عينيها: «لا تبكي يا حبيبتي، إني فاعل ما تريدين. صدقت؛ إن التؤدة أولى بأهل الحزم، وها أنا ذا أعرض عليك رأيا أظن أنك ستوافقينني عليه.»
فابتسمت والدمع لا يزال في مآقيها، وقد ذبلت عيناها من البكاء وتكسرت أهدابها، ونظرت إليه ولسان حالها يستفهم عما يريد، فابتسم هو وقال: «إن خوفك من بلوغ الخبر إلى أخيك بعيد؛ إذ ليس بين رجال الدولة - لا الفضل ولا غيره - من يجرؤ على ذكر اسمك بين يديه، أو التعريض بما تخافينه، وأنا أعلم الناس بذلك؛ فلا خوف علينا من هذا الأمر إلا بعد زمن طويل ندبر في أثنائه وسيلة نبتعد بها عن بغداد ونكون في مأمن.»
فتطاولت نحوه وقالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «قلت لك إن خراسان معي، وأهلها طوع إرادتي، فإذا كنت فيها لا يستطيع أخوك ولا غيره أن يناوئني. ناهيك بأحزاب الشيعة العلوية، فإنهم يحاربون إلى جانبي حتى آخر نسمة من حياتهم. أليس كذلك؟»
قالت: «بلى.»
قال: «وأنا ساع من زمن بعيد في التخلص من الوزارة وإبدالها بولاية خراسان، وقد وعدني أخوك بها. ولو أردت الحصول عليها في الغد لأجابني.»
قالت العباسة: «أحقا ما تقول؟ أخشى أن ينطوي وعده على خداع؛ فإنه لا يمكن الاطمئنان على وعد مثل هذا من جانبه.»
قال جعفر: «لقد وعدني وأكد الوعد، والوشاة من حسادي يساعدونني على ذلك ليبعدوني عن بلاط الخليفة، ويتمتعوا بالنفوذ دوني، ولا أحتاج في تحقيق هذه الأمنية إلى أكثر من كلمة واحدة.»
فأبرقت أسرتها وظهر البشر في وجهها وقالت: «بالله ألا أسرعت في تحقيقها؛ فإني لا أرى لنا خيرا منها، فإذا كنت أنت في خراسان سرت أنا إليك على عجل، واستقدمنا ولدينا وعشنا معا في رغد وهناء، وأنا واثقة من أن الرشيد لا يطمع فينا هناك؛ لأنه يخشى على ملكه.»
قال: «إذن كوني مطمئنة؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى صبر طويل.»
فقالت: «قد شعرت منذ الآن بذهاب القلق؛ لأني أعتقد - كما قلت - أنهم لا يجرءون على ذكر خبر الطفلين بين يدي أخي لما يعلمونه من غيرته على العرض، وأنا على يقين أنه يقتل كل من عرف أنه اطلع على هذا السر.»
قال: «إذن فأنت مطمئنة لهذا الرأي؟»
قالت: «نعم، ونعم الرأي هو. آه! هل تتحقق هذه الأمنية وولدانا معنا، وتكون أنت زوجي على رءوس الأشهاد، كما إني أعتقد أنك كذلك ولو كره الحاسدون أو أنكره أخي علينا؟» قالت ذلك وصرت أسنانها.
فقال وهو يتحفز للقيام: «كم أحب أن أبقى هنا ولا أفارقك يا حبيبتي! ولكن لا بد من ذهابي على عجل؛ لأني جئت خلسة، وإذ قد صممنا على التستر؛ فينبغي لي أن أمضي سريعا حتى لا ندع سبيلا إلى الوشاية.»
فأمسكت بيده وأجلسته وهي تقول: «لا، لا تذهب فإني ...» وغصت بريقها.
فقال: «أراك قد عدت إلى المخاوف! لا تخافي؛ فإننا سنجتمع قريبا، بإذن الله.»
فقالت: «لا بد من ذلك؛ لأننا لم نرتكب ذنبا، وزواجنا شرعي، وإنما أراد أخي أن يستبد برأيه فمنعنا مما أحله الله. ألم يكن هو الذي عقد لك علي؟»
قال وهو يهز رأسه استخفافا: «بلى، ولكنه لا يرى لغيره حقا في أن يتمتع بذلك.»
ونهض فنهضت هي معه، فأمسك بيدها للوداع ونفسه لا تطاوعه عليه، فوقف هنيهة وهو ينظر إليها وهي تنظر إليه - والعيون تتفاهم بما تعجز الألسنة عن مثله - ثم أصلح قلنسوته بيده الأخرى ومشى وهي تسير معه حتى وصل إلى الباب، فلبس نعاله وودعها وهو يضغط على يدها ويقول: «امكثي مطمئنة حتى يأتيك مني رسول الخير.»
فأجابته ونفسها لا تطاوعها على إطلاق يده: «سر يا سيدي في حراسة الله. وفقك الله إلى ما تريد.»
فتراجع وهو ينظر إليها نظرة عتاب وقال: «لا تقولي يا سيدي؛ فإنما أنا مولاك، وأنت سيدتي بمقتضى شرعهم وعرفهم. أين أنا من أخت أمير المؤمنين؟»
فلما قال ذلك جذبت يدها من يده، ونظرت إليه شزرا وقالت بلحن الدلال والعتاب: «دعنا من شرعهم وعرفهم؛ فإنك سيدي بشرع الله وعرف المنصفين.»
فضحك وأسرع إلى يدها فأمسكها وهو يقول: «أستودعك الله حتى نلتقي، وأرجو أن يكون لقاؤنا أبديا لا فراق بعده. والأفضل على ما أرى أن أكف عن زيارتك في هذه الأيام ريثما أدبر الحيلة للاجتماع معا في مكان أمين.»
فقالت: «يشق علي بعدك عني، ولكنني أتحمله طمعا فيما ذكرت.»
ثم صفقت تصفيقا تعودت أن تعني به عتبة، فجاءت مسرعة، فقالت لها: «امشي بين يدي مولاك حتى يخرج من القصر ولا يشعر به أحد.»
فأشارت إشارة الطاعة ومشت بين يديه في الدهليز وقد أطفئت شموعه، وسار هو في أثرها حتى خرج من القصر ووصل إلى مكان ترك فيه جواده مع غلامه حمدان، فركب وسار إلى منزله.
أما العباسة فلما خلت إلى نفسها مكثت حينا وهي واقفة تسمع وقع خطوات جعفر حتى توارى وانقطع صوت وقعها، فعادت إلى هواجسها وأحست باحتياجها إلى عتبة، فلما عادت قصت عليها بعض ما دار بينها وبين جعفر، وأسرت إليها بما يرمي إليه، فوافقتها على ذلك الرأي. ثم ذهبت العباسة إلى فراشها.
الفصل العشرون
قصر الأمين
أما الفضل بن الربيع فقد تركناه عائدا بحاشيته من دار الرقيق ومعه أبو العتاهية، وكان أبو العتاهية قد امتلأ غيظا من عتبة وسيدتها. ولو لم تتعمد أذاه على هذه الصورة، فلربما قام في نفسه ما يوبخه على إفشاء ذلك السر برغم ما يطمع فيه من الكسب المالي بإفشائه؛ إذ قد تأخذه الشفقة على الغلامين، أو الحياء من العباسة، أو الخوف من جعفر أو الرشيد، أو ربما توقف عن الإفشاء حينا من الزمن ريثما يجد سبيلا يتقدم به إلى الفضل أو غيره بإعلان ذلك السر إليه، ولكن تلك الإساءة كانت مسوغا له على الإفشاء، وقد مهد السبيل إليه وجود ابن الربيع واطلاعه على تلك المعاملة. فلما ركب الفضل ورجاله أمر لأبي العتاهية بدابة يركبها، وقد تاقت نفسه لاستطلاع السر فيما حدث، فركب أبو العتاهية وهو أكثر ميلا منه إلى اطلاعه عليه.
سار الركب على خيولهم إلى قصر الأمين مباشرة، فلم يكن لهم بد من المرور على جسر بغداد، فبعد أن تجاوزوا شارع دار الرقيق مروا بالميدان من شماله، ورأوا أهل الدولة يتوافدون لحضور لعب الكرة والصولجان، فتحولوا من وراء الإصطبل في الشارع المؤدي إلى الجسر. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وتزاحمت الأقدام على ذلك الجسر، وهو مصنوع من السفن متحاذية متلاصقة، وقد شدت جوانبها بعضا إلى بعض بأمراس أو سلاسل من حديد، وألقيت فوقها ألواح الخشب يمر فوقها الناس والدواب. وعلم الفضل أن الجسر لا يخلو من حرس سري يرقب حركات المارين من أهل الدولة، والناس يومئذ يتجسس بعضهم على بعض من كل سبيل؛ فقبل مغادرته دار الرقيق تلثم، وتلثم بعض الخاصة من أتباعه، فمروا على الجسر شمالا إلى الرصافة، ونزلوا من هناك نحو الجنوب الشرقي إلى المخرم، وجعلوا أكثر طريقهم قرب الشاطئ حتى أتوا القصر.
وكان الغرض من تبكير الفضل إلى دار الرقيق في ذلك الصباح التعجيل في تلك المهمة، والرجوع إلى الأمين حوالي الضحى حتى لا يفوته الصبوح. وكان الأمين قد وعد نفسه بسماع غناء الجواري البيض في ذلك اليوم، والفضل وعده بذلك حرصا على رضاه، وتقربا إليه بكل ما يسره؛ لعلمه أنه ولي العهد، وهو لا يرجو لنفسه سبيلا لقهر البرامكة إلا به؛ لأن الأمين يكره الفرس؛ لأنهم من غير العرب، ويكره البرامكة على الخصوص، وجعفرا الوزير على الأخص؛ لأنه ساعد أخاه المأمون على ولاية العهد رغم أن أمه جارية، وأم الأمين هاشمية؛ هي زبيدة الشهيرة.
فالفضل لم يكن يرى في نفسه القدرة على سبق البرامكة في إدارة شئون الدولة، أو سياسة الأعمال، وتسهيل استيفاء الخراج، وإرضاء الرشيد، فسلم الرشيد مقاليد الدولة إلى جعفر، وأطلق يده فيها، فعمد الفضل إلى الحيلة وهو ذو دهاء وصبر، فرأى الأمين يكره الفرس للأسباب التي قدمناها فانحاز إليه، وجعل يتقرب إليه بكل وسيلة يرضاها، وإن لم يكن من شأنه قضاؤها، حتى مسألة الجواري؛ فقد كان الفضل في غنى عن الذهاب بنفسه إلى دار الرقيق، ولكنه أراد أن يبرهن للأمين أنه يحبه ويتفانى في خدمته، على أن انشغاله بمشاهدة أنواع الرقيق، ثم ما عاقه من أمر أبي العتاهية والقبض عليه أخراه عن الوقت المعين، فوصل إلى القصر وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة. ومع ذلك فقد رأى أن يطلع على سر أبي العتاهية قبل الدخول على الأمين، وإن كان مزاجه لا يبعثه على التسرع في الاستطلاع؛ لأنه - كما قدمنا - من أهل المزاج الصفراوي الذين يصبرون على الأمور، ولا يقلقون من موعد، أو يتعجلون في استطلاع سر، بخلاف أهل المزاج العصبي؛ فإنك إذا وعدت أحدهم بسر تطلعه عليه، أو خبر تلقيه إليه، لا يبرح في قلق واضطراب حتى يبلغ ذلك الوعد؛ ولذلك فأهل هذا المزاج لا يصلحون للدهاء السياسي، أو الإقدام على المشروعات الشاقة التي تفتقر إلى سعي وكظم ومطاولة.
فالفضل بن الربيع لم يكن يتعجل في استطلاع السر رغبة في سرعة الاطلاع، ولكنه توسم من وراء ذلك سببا يساعده على تحقيق غرضه، فلما أطل على قصر الأمير أمر رجاله أن يتحولوا بأفراسهم إلى أماكنهم حتى خلا بأبي العتاهية، فترجلا في شارع عريض تظلله الأشجار الملتفة من الجانبين ينتهي بساحة كبيرة في صدرها باب القصر. وما هو باب القصر في الحقيقة، وإنما هو باب الحديقة، والقصر في أحد جوانبها من جهة دجلة له سور خاص به. وكانت عادتهم في بناء هذه القصور أن يجعلوا أسوارها الخارجية متينة عالية أشبه بأسوار الحصون، وربما جعلوا في أعلى السور مرامي للنبال، أو نوافذ لحجارة المجانيق؛ لما كانوا يتوقعونه من تقلب الأحوال، وانتقال السلطة من حزب إلى حزب. وباب الحديقة كبير متين يقفل ويوصد حتى لا يستطاع فتحه إلا بقوة الرجال. وكان الحرس لا يبرحون المكان وقوفا والباب مقفل. فإذا قدم أحد فتحوه له، فإذا كان فارسا ترجل خارجا، وترك دابته وسائسها أو خادمه يرعاها، أو يذهب بها إلى الإصطبل بجانب ذلك السور، وفيه المرابط تشد إليها الدواب. وهي كثيرة، وخاصة بباب ولي العهد. والناس يومئذ يتزلفون إليه ويكثرون من التردد عليه؛ تمهيدا لما يرجونه من نفوذ الكلمة عنده بعد أن تسند أمور الدولة إليه.
فلما ترجل الفضل وأبو العتاهية تنحيا إلى جانب الطريق، وأخذ الفضل يستطلع الخبر وأبو العتاهية يقصه عليه، والفضل مستغرب حتى شك في صدقه، ولكنه ما إن جاء أبو العتاهية على آخر الحديث حتى ترجحت صحته عنده، ولكنه أعظمه، ولبث مطرقا لا يحير جوابا، ثم نظر إلى أبي العتاهية وأراد أن يغالطه فقال: «احذر أن تكون قد اختلقت هذا الخبر؛ فإني لا أصدقه، وربما كنت مخدوعا فيه؛ لأن مولاتنا العباسة من أبعد الناس عن مثل هذه الشبهة؛ فاحذر أن تذكر ذلك لأحد لئلا تقع في شر أعمالك.»
فأدرك أبو العتاهية غرض الفضل من هذه المغالطة، فقال له: «إني أجل مولاتنا عن هذا، ولكنني قصصت ما رأيته، ولم أكن لأبوح به لك لو لم يحدث ما تم من نجاتي على يدك، ولا أدري مع ذلك إذا كانت عيناي قد خدعتاني، فإنهما كثيرا ما تخدعان البصير فيقع في حفرة لا يقع فيها الأعمى.» وهز كتفيه وهو مطرق كأنه يقول: «وماذا يعنيني من ذلك كله؟»
الفصل الحادي والعشرون
جعفر بن الهادي
ولم يكن الفضل يجهل استماتة أبي العتاهية في سبيل المال، ولم يشك مطلقا في أنه لم ينقل ذلك الخبر إلا وهو يتوقع جائزة كبيرة، فأحب استرضاءه لعله يحتاج إليه في مثل هذه المهمة مرة أخرى، فمد يده إلى جيبه وأخرج صرة دفعها إليه وهو يقول: «إنك شاعر، وقد تعود الشعراء ألا
أضعافها من مولانا الأمين؛ فإنه سيأخذه الطرب لنجاحنا في ابتياع الجواري البيض، فلا يبالي من أجاز، وسأخبره بأنك كنت لنا عونا في الحصول عليهن.» قال ذلك وضحك ضحكة لها صوت وليس لها شكل كأنه يتضاحك، وجعل يده على كتف أبي العتاهية وهو يقول: «بارك الله فيك!» ومشى، فأحس أبو العتاهية أنه يريد الذهاب وحده فودعه وقبل يده ثم تحول، فقال له الفضل: «احذر أن تمضي إلى مكان يعرفه ذلك الوزير؛ فإنهم يقبضون عليك ويؤذونك، والأفضل أن تمكث في هذا القصر مع بعض رجالي، أو اذهب إلى منزلي أقم هناك وأنت في مأمن. وعلى كل حال لا تبعد عني كثيرا.» فطأطأ رأسه وتحول.
أما الفضل فإنه مشى وقد أزاح اللثام عن وجهه؛ لأنه أصبح في أمان حتى أقبل على الساحة المجاورة للحديقة، فرأى الباب مفتوحا على مصراعيه، والحرس مشغولون في حديث مع جماعة من الغرباء، عرف الفضل من مجمل حالهم أنهم من أهل البصرة، وأكثرهم من الخدم أو السياس؛ بعضهم يتحدثون، والبعض الآخر يقومون برعاية الخيول؛ يربطونها، أو يعلفونها، أو يصلحون شئونها، فما لبث أن أرسل نظره إلى داخل الحديقة حتى علم أنهم رجال جعفر بن موسى الهادي؛ لأنه شاهده يتمشى مع الأمين في أحد جوانب البستان. أما الفضل فلم يكد يقترب من الباب حتى عرفه الحراس فتسابقوا إلى خدمته.
وجعفر بن موسى هو ابن الخليفة موسى الهادي أخي الرشيد. وكان الهادي قد تولى الخلافة قبل أخيه الرشيد، ولم تطل مدته في الخلافة لأسباب سيأتي بيانها. وكان أبوهما المهدي قد أوصى بولاية العهد لولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، على أن يتولى الهادي أولا وبعده الرشيد، فلما توفي المهدي عام 169ه خلفه الهادي، فحدثته نفسه أن يخلع أخاه الرشيد، ويبايع لابنه جعفر هذا؛ ليبقى الحكم في أعقابه، فأعلن رأيه لخاصته، فوافقوه وخلعوا الرشيد وبايعوا لجعفر . ولم يسع الرشيد إلا القبول لعجزه عن المقاومة ورجال الدولة كلهم مع الخليفة، وقد سايروه جميعا إلا يحيى بن خالد البرمكي؛ فإنه جاء إلى الرشيد وشدد قلبه وضمن له الخلافة، وعرض حياته للخطر رغبة في استبقاء ولاية العهد للرشيد، وخلع جعفر بن الهادي منها، فغضب عليه الهادي وحبسه وهدده بالقتل، ولكن البرمكي استطاع بدهائه وقوة حجته من إقناعه أن يقر أخاه الرشيد في الولاية ريثما يكبر جعفر فيخلع الرشيد ويبايع لجعفر، ولم تمض مدة على هذا القرار حتى مرض الهادي، ومات بغتة ولم يحكم إلا سنة وثلاثة أشهر. وشاع يومئذ أن أمه الخيزران عجلت بموته انتقاما منه؛ لأنه أحب أن يغل يديها عن التصرف في شئون الدولة، وغيرة على أخيه الرشيد. وذهب يحيى البرمكي في الليل إلى الرشيد وبشره بالخلافة وأقره عليها؛ ولذلك حفظ الرشيد له هذا الجميل فأطلق يديه في أمور الدولة، ولم يكن يقدم على أمر عظيم إلا بمشورته، وجعل ولده جعفرا وزيرا أباح له التصرف في كل شيء، كما قد علمت.
وكان جعفر بن الهادي عند وفاة أبيه صغير السن، فلم يعمل شيئا، ولم يسعه إلا السكوت، وفي نفسه من يحيى وأولاده حزازات، وهو يعتقد أن الرشيد اغتصب الخلافة اغتصابا، وأنه تواطأ هو ويحيى والخيزران على قتل أبيه، وكتم ذلك في نفسه أعواما، وكان يقيم في البصرة. وقد أقطعه الرشيد أرضا واسعة، وخصص له الرواتب الكبيرة مثل سائر بني هاشم؛ فقد كانت السياسة تقضي في ذلك العصر بالاعتماد على الكرم في توقي الشرور، فالخليفة إذا تسنم ذروة الخلافة علم أن الأبصار موجهة إليه، وأن أكثر الناس حسدا له وغيرة منه هم أهله، فإذا كان حكيما وسع لهم أسباب الرزق، وأكثر من إكرامهم، وسهل عليهم وسائل الترف والقصف؛ لعلمه أنها تشغلهم عن الاهتمام بالخلافة، وتضعف من عزائمهم عن النهوض إذا دعوا إليها؛ ولذلك كان بنو هاشم منذ عهد الرشيد وما يليه من أكثر الناس انغماسا في الترف والقصف، لا شاغل لهم إلا انتقاء المغنين، والتمتع بالمأكل والمشرب في الحدائق والبساتين، واقتناء الجواري على اختلاف الطبقات للغناء والتسلية والخدمة. وأكثر ما يكون مقامهم في قصورهم بالبصرة، ولا يأتون إلى بغداد إلا لقبض مرتباتهم، أو لابتياع الجواري، أو بعض الآنية ونحوها، لكن الغالب أن يرسل الرشيد رواتبهم إليهم وهم قعود في قصورهم.
وكان جعفر بن الهادي أحد الهاشميين أصحاب الرواتب الكبيرة، وكان مقيما في البصرة، ولكن الترف والقصف لم يشغلاه عما في قلبه من النقمة على عمه الرشيد، أو على يحيى البرمكي وأولاده، وقد زاده نفوذ جعفر البرمكي في مصالح الدولة حسدا ونقمة. وكان مع ذلك يعلل نفسه برجوع الخلافة إليه بعد وفاة الرشيد، فلما رآه بايع لابنيه الأمين والمأمون بعده تحقق من فشله، وعزم على الانتقام ولا سبيل له إليه وليس من يناصره عليه، حتى إذا ظفر بالفضل بن الربيع تكاشفا وهما متفقان على كراهية جعفر البرمكي، وعدم الرضا عن الهيئة الحاكمة، فجعلا يعملان على قلب تلك الحكومة، ويتواعدان على التعاون. وكان هم ابن الهادي في الدرجة الأولى أن يسقط جعفر البرمكي من الوزارة، فإذا سقط سقطت ولاية العهد عن المأمون؛ لأنه هو الذي دبرها له؛ فلا يبقى بينه وبين الخلافة إلا الأمين، وهو يعلم مدى ضعفه وتهتكه، فتقرب منه وعول على تحقيق بغيته عن طريق السياسة التي اتخذها الرشيد في استبقاء الخلافة له، وذلك بتهيئة أسباب البذخ والترف لبني هاشم، وانشغالهم بالجواري والغناء عن طلبها.
فلما رأى ابن الهادي ميل محمد الأمين إلى الترف والقصف، لم يحاول أن ينصحه بالعدول عنهما، وإنما جعل يسهل له أسبابهما، ويساعده في طلبهما، ولو اضطره ذلك إلى إظهار الخلاعة أو التهتك في بعض الأحيان، والأمين غافل عن ذلك لاه عمن يحدق به من أهل الدسائس وأرباب المطامع. وكان ابن الهادي قد جاء إلى بغداد منذ بضعة أيام وهو يتظاهر أنه جاء ليتسلم راتبه، ونزل على الأمين فأخلى له قصرا خاصا بجانب قصره يقيم فيه بحاشيته وأعوانه، ويقضيان معظم النهار معا في اللهو والقصف من الصباح إلى المساء. وكان هو الذي نبه الأمين إلى اقتناء الجواري البيض المغنيات، وحرض الفضل بن الربيع على المبادرة إلى ابتياعهن منذ الفجر، على أن يعود بهن قبل انقضاء وقت الصبوح، فيتمتعون بالراح على رخيم أصواتهن.
الفصل الثاني والعشرون
محمد الأمين
فلما أبطأ الفضل قلق الأمين، فانصرف إلى شرفة في قصره تطل على دجلة، وجلس وعيناه شائعتان لعله يرى الفضل عائدا في الزورق. فلما انقضى وقت الظهيرة ولم يعد مل الأمين الانتظار، فخرج إلى الحديقة ومعه ابن عمه جعفر بن الهادي يتفرجان على ما فيها من الأقفاص الكبيرة كأنها البيوت، وفيها أصناف الطير الملون المستورد من بلاد الهند وأواسط أفريقيا، والأقفاص المتينة المصنوعة من شبك الحديد الغليظ، في بعضها أسود، وفي البعض الآخر فيلة أو نمور. ولما فرغا من التفرج والفضل لم يأت، أمر الأمين صاحب كباش المناطحة أن يأتي بها للمناطحة بين يديه، ومضى إلى مجلس في وسط الحديقة يظلله عريش عال. وبينما هو يهم بالدخول إليه مع ابن عمه إذ جاءه أحد الخدم وأخبره أن الفضل قادم، فأمر باستقدامه إلى العريش وهو يظن أن الجواري معه.
أما الفضل فإنه دخل البستان ماشيا، وقد شاهد الأمين وابن عمه يتحولان إلى العريش وهما بملابس المنادمة. والبستان ينقسم إلى مغارس بينها طرقات مفروشة بالحصباء الملونة، يتخللها أغراس من الأشجار المتنوعة ذات المناظر الجميلة، ومنها المولد في بغداد، والمستورد من بلاد الهند وخراسان وتركستان، وما بين ذلك من أصناف الرياحين وأزهارها البديعة الألوان، وكلها في مغارسها على أحسن نظام يتعهدها البستاني بالمقراض يقلد بها أشكال الحيوانات، فيجعل بعضها بشكل الطاووس أو غيره من الطيور الجميلة، والبعض الآخر بشكل الحيتان، أو بعض الوحوش الكاسرة كالأسد والنمر، فيمر الرجل وحوله الأشجار والأزهار والأعشاب من كل صنف ولون ورائحة، وهو يحسب بعضها أسودا رابضة، أو طيورا دارجة مما يسحر الألباب. وبين تلك المغارس أحواض يصل إليها الماء من قنوات مستترة، وفيها من الأسماك أجملها لونا، وألطفها شكلا، يتعهدها البستاني بفتات الخبز أو بقايا الطعام مما يكثر في مطابخ الأمراء في أيام الرغد والرخاء . ناهيك بما رسموه في طرق الحديقة من أشكال الكائنات الحية وغير الحية بترصيف الحصى على اختلاف ألوانها، فيصورون بذلك زهورا بألوانها، وأسودا أو فيلة بأشكالها على نحو ما يفعلون بالفسيفساء. وكانوا يحضرون لكل من هذه الفنون صناعا من الفرس أو الروم أو الهند ممن أتقنوا طرق الزراعة، وتفننوا في أساليب التنسيق.
على أن روائح الأزهار العطرية في ذلك البستان لم تكن شيئا يذكر إزاء ما تضوع من ملابس ولي العهد من رائحة الطيب، ولا سيما المسك. وكانت عادتهم إذا عزموا على مجلس شراب أو غناء أن يخلعوا ثوبهم الرسمي، ويلبسوا ثوبا ملونا باللون الأحمر أو الأصفر أو الأخضر يسمونه ثوب المنادمة. وهو في الغالب غلالة رقيقة وملاءة مصقولة. وكان الأمين يومئذ لابسا غلالة حمراء فوقها ملاءة صفراء مصقولة صقلا شديدا حتى تكاد تقوم قياما من شدة الصقل، وجعل على رأسه بدل العمامة أو القلنسوة إكليلا من ريحان وأزهار، ضفره له البستاني بصورة جميلة حتى أصبح يشبه القلنسوة، وزين قدميه بخفين سنديين. وكان رفيقه ابن الهادي في مثل ذلك، ولكن ملاءته كانت خضراء، وعلى رأسه طاقية حولها عمامة صغيرة من الوشي الثمين. وقد سوى شعره على عادة شبان بغداد في ذلك العصر؛ أي إنه حدقه على جبينه، وقصره دون جبهته، وسواه مع حاجبيه، ودوره إلى أذنيه، وأسدله إلى صدغيه.
1
وكان الأمين ورفيقه قد جلسا في العريش ينتظران مجيء صاحب الكباش، والأمين أكثر رغبة في مقابلة الفضل إذا كانت الجواري معه، وإذا هو يسمع وقع خطواته على الحصى بقرب العريش، فصاح فيه: «ما وراؤك يا فضل؟»
فأجاب وهو داخل: «ما ورائي إلا الخير يا مولاي.»
قال: «وأين الجارية أو الجواري المغنيات؟»
قال: «هن آتيات عن قريب.» ولما أطل الفضل على الأمين ورأى ملابسه وحاله ابتسم رغم إرادته، فابتدره الأمين قائلا: «كيف تراني بهذا الإكليل وهذه الثياب؟»
قال: «أرى أنك ملاك في صورة إنسان.» وكان الأمين يومئذ في السابعة عشرة من عمره، وقد نبت عارضاه وظهر عذاره، وتجلى ماء الشبيبة في محياه، وهو جميل الصورة، طويل القامة، أبيض اللون، صغير العينين، أقنى الأنف، سبط الشعر، وقد انحسر شعره عن جانبي جبهته.
2
وكان قوي العضل حتى يلقى الأسد فلا يبالي به،
3
وفيه بطش وشجاعة وفصاحة وأدب وبلاغة، فإذا لقيه الرجل تهيب من منظره وأحبه، ولكنه كان سيئ الرأي، كثير التبذير، أرعن،
4
جعل همه اللهو والقصف باقتناء الجواري والغلمان. ولعله سيق إلى الإفراط في ذلك بما أراده أهل الأغراض من تضييع الملك على يده، أو رغبة منهم في استرضائه التماسا لسخائه. أما ابن الهادي فكان رقيق البدن، جميل الصورة، قصير القامة، خفيف العارضين، حاد العينين، وكان أكبر من الأمين سنا، وأحسن منه رأيا، وإنما سايره في قصفه ولهوه لغرض في نفسه.
ولما دخل الفضل صاح فيه الأمين: «عليك بثياب المنادمة، واخلع هذا الثوب؛ فإن إبطاءك إلى هذه الساعة لا ينبغي أن يفسد علينا ما دبرناه من وسائل السرور، وإن كان الصبوح قد انقضى، فنقضي بقية النهار في الطرب والأنس.» ثم صفق فأتاه غلام تركي جميل الصورة لم يبد عذاره بعد، وعليه دراعة حمراء اللون تمنطق فوقها بمنطقة عريضة من حرير موشاة بالقصب، وأرسل شعره ضفيرة طويلة وراء ظهره، وعلى رأسه شبه طاقية هرمية الشكل، مزركشة بالقصب، منحرفة إلى جانب واحد، في قمتها هلال من فضة أثقل رأسها فتدلى، فأصبح الغلام أشبه بالبنات منه بالفتيان لفرط جماله. ولو سمعته يتكلم لثبت عندك أنه فتاة لبعده عن خشونة أصوات الرجال؛ لأنه خصي. وكان في قصر الأمين كثير من أمثاله، عني بإحضارهم من أقصى بلاد الترك والجركس، وجعلهم طوائف لخدمته ولمجالس أنسه.
فلما جاء الغلام وقف متأدبا، فقال له الأمين: «من ترى في بابنا من الشعراء؟»
فقال الغلام: «الحسن بن هانئ «أبو نواس» وأبو العتاهية و...»
فقطع الأمين خطابه قائلا: «ما لنا ولأبي العتاهية وهو من أهل الزهد؟! فلا ينفعنا زهده في مجلسنا هذا. وأما الحسن بن هانئ؛ فإنه شاعر ظريف.» قال ذلك وضحك، ثم التفت إلى الغلام وقال: «اصرف الشعراء إلا ابن هانئ، وقل لصاحب الشراب أن يعد لنا مجلسا كاملا.»
فقال الفضل: «وأبو العتاهية لا بأس به يا مولاي؛ فإنه شاعر ظريف، ولا يهمك ما يقولون عن زهده.»
فصاح بالغلام: «وأبو العتاهية أيضا.» فمضى الخصي لإعداد ما يلزم.
الفصل الثالث والعشرون
مناطحة الكباش
أما الأمين فاستبطأ صاحب الكباش، فصفق فجاءه غلام آخر، فصاح به: «وأين صاحب الكباش؟ فإني أحب أن يرى ابن عمي كبشين يتناطحان، ليس في بغداد كلها ولا في البصرة ولا في سائر العراق مثلهما.»
فقال: «إنهما معدان للنطاح منذ ساعة، ولم يأت بهما إلى هنا ضنا بما في أرض هذا العريش من الفسيفساء، فإن الكباش تقتلعها بأظلافها في أثناء النطاح، وهي لا تملك قوتها فوق الحصى؛ فإذا شاء مولاي أن ينتقل إلى موقفها وراء هذا العريش رآها.»
قال: «حسنا.» ونهض فمشى، ومشى ابن الهادي والفضل في أثره وهما يتغامزان على ما يتشاغل به ولي عهد المسلمين من الألعاب الصبيانية، وقد قال كل منهما في نفسه: «كيف يثبت ملك هذا ولي عهده؟ أيستطيع من كان في حاله أن يحكم مملكة أولها بحر الهند، وآخرها على شواطئ بحر الظلمات، وفيها من أجناس البشر الكثيرة، وضروب الطبائع المتباينة، والعادات المختلفة، والعناصر المتضادة ما لم يجتمع في مملكة واحدة؟ ناهيك بالأحزاب السياسية ومطامع أهل النفوذ.» على أنهما سارا وهو يتقدمهما بملابسه الملونة المصقولة، وقلنسوته المصنوعة من الأزهار والرياحين حتى وصلوا إلى بقعة من البستان مستديرة، وجدوا في وسطها رجلا كبير اللحية عريضها عليه قلنسوة التجار، ويظهر من ملامحه أنه هندي الجنس، وبين يديه كبشان كبيران أبيضان، وقد نقش عليهما بالألوان صورا وأشكالا، وعلق في عنق كل منهما عقدا من العقيق، وصبغ قرني أحدهما باللون الأخضر، وقرني الآخر باللون الأحمر، فلما أقبل الأمين عليه وقف الرجل وتقدم لتقبيل يده، فمنعه وقال: «أيهما كبشي؟»
فأشار الرجل إلى صاحب القرنين الأحمرين وقال: «هذا هو يا مولاي.»
فقال وهو ينظر إلى الفضل: «فالآخر إذن كبشك. فليتناطحا ومن غلب صاحبه علقنا في عنقه عقدا آخر يشتريه له صاحب الكبش المغلوب.»
فلم يسع الفضل إلا إظهار الامتنان من هذا الإنعام وقال: «أرجو أن يغلب كبش مولاي، وإذا غلب كبشي فإنه يخجلني.»
فضحك الأمين حتى كاد يستلقي على ظهره وقال: «وأنا أطلب إلى الله ألا يغلب كبشك. ليس لأنه لك، ولكن.» وضحك.
فلم يفهم الفضل قصده، والتفت إلى ابن الهادي فرآه يبتسم، فاستفهم منه بعينيه فقال وهو يخفض صوته: «لأن اسمه برمك.» فأدرك الفضل أن الأمين يتفاءل بذلك، فإذا غلب الكبش «برمك» فكأنه غلب جعفر البرمكي، ولم يسم كبشه «جعفرا» توقيرا لابن عمه جعفر بن الهادي. وأخذ الكبشان يتناطحان وراعيهما يعلم رغبة الأمين في أن يغلب كبشه، فكان يبذل جهده في هذا السبيل حتى تم ما أراده الأمين، وكان كبشه الغالب، فضحك وسر وأمر لصاحب الكباش بجائزة، ثم جاءه الغلام وهو يقول: «إن صاحب الأدياك قادم يا مولاي، فهل تأذن في أن تشاهد مهارشتها؟»
قال: «أرجعه؛ فقد كفانا الآن ما شهدناه من مناطحة الكباش، وآن لنا الدخول للمنادمة.» قال ذلك ومشى نحو القصر على الحصباء في طرق الحديقة. وكان قصر الأمين قائما على شاطئ دجلة الأيسر، وله نوافذ ورواشن وشرفات يطل بعضها على النهر، وفي جملتها بهو كبير أشبه بمصطبة واسعة مرصفة بالرخام الملون، يظللها سقف عليه نقوش ملونة مذهبة من صنع مصوري الفرس، أو هي صناعة تجمع بين فنون الفرس والروم، والسقف قائم على أساطين من الرخام محلاة بالذهب. ولولا سور القصر الخارجي الكبير لكان الجالس على المصطبة يرى السفن في دجلة مقبلة مدبرة، على أنهم جعلوا في السور بابا يمكن النزول منه إلى الشاطئ على مسناة ترسو عندها الحراقات والزلالات. وكان للأمين ولع باقتناء السفن، والتفنن في أشكالها وصورها، فاصطنعوا له حراقات على هيئة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس أرسلها في مياه دجلة، وقد أنفق في صنعها مالا
1
وأما من جهة البستان، فللقصر باب كبير هو بابه الأصلي يدخل منه الزوار، قائم في جدار على شكل قوس مقعرة نحو نصف دائرة، والباب في منتصف القوس يصعد إليه ببضع درجات، وإلى جانبي الباب من الخارج مقاعد من الرخام موازية للحائط في استدارته، وقد نقش على أعلى الباب بالخط الكوفي الجميل «محمد الأمين بن هارون الرشيد». والقصر بجملته محاط بسور كبير عال، على عادتهم في تعلية الأسوار.
وكان الأمين وهو ماش في الحديقة يتناثر الخدم والخصيان بين يديه، ويتسارعون في نقل خبر مجيئه، فلما أقبل على القصر وقف الحجاب احتراما له وهو لا يبالي، فصعد الدرجات ودخل الباب والفضل وجعفر في أثره، فمروا في دهليز ينتهي إلى باحة مستديرة في صدرها باب يؤدي إلى دهليز آخر ينتهي إلى دار النساء؛ وهي قصر قائم بنفسه يؤدي من بعض قاعاته إلى المصطبة التي تقدم وصفها. وفي يمين الباحة المستديرة التي ذكرناها باب يؤدي إلى دهليز ينتهي ببيوت كثيرة يقيم فيها الخدم والأعوان والعبيد ونحوهم، وإلى يسار الباحة باب آخر يؤدي إلى دار الضيوف؛ وهي غرف كثيرة ومطابخ وموائد كأنها بلد صغير.
الفصل الرابع والعشرون
دار النساء
فلما وصل الأمين إلى تلك الباحة، تقدم كبير الخصيان السود بين يديه فوسع له ستارة من الديباج الموشى معلقة على الباب المؤدي إلى دار النساء، فدخل ومشى في الدهليز، ودعا الفضل وجعفرا فتبعاه وخطواتهم لا يسمع لها وقع؛ لأنهم سائرون على طنافس كثيفة الوبر من صنع طبرستان، فلما انتهوا من الدهليز الثاني أشرفوا على حديقة فيها الأزهار والرياحين، ووراءها دار النساء (الحريم)، يصعد إليها بست درجات من الرخام الأحمر، وعلى بابها ستارة ثمينة من الديباج سماوية اللون، عليها كتابة بطراز القصب هذا نصها - وهي من شعر حاتم الطائي:
وما أنا بالساعي بفضل زمامها
لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها
لأبعثها خفا وأترك صاحبي
إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع
رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما
فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وهي تشير إلى رغبة صاحب هذا المنزل في السخاء. وكان الأمين كثير السخاء، وكان رئيس الخصيان ماشيا بين أيديهم، فلما أقبلوا على ذلك الباب تقدم ووسع الستارة بيده، فدخل الأمين ورفيقاه إلى قاعة كبيرة أشبه شيء بقاعة الاستقبال، في كل من جانبيها باب يؤدي أحدهما إلى مساكن النساء، والباب الآخر إلى مجالس خاصة هي قاعات، لكل قاعة منها فرش خاص بلون خاص. ولم يكن غرض الأمين الذهاب إليها، وإنما أراد الخروج إلى المصطبة وراء تلك الدار. وكان الفضل وابن الهادي حالما دخلا تلك القاعة سمعا ضرب العيدان على غير نظام؛ إذ كان أصحابها يسوونها وهم وراء الجدران، ولكنهما لبثا ينتظران ما يفعله الأمين. والقاعة المشار إليها مفروشة بالأرمني من الحرير المزركش، وفي جدرانها صور بعض ملوك الفرس والروم على أفراسهم، وبينها صور بعض حيوانات البر والبحر. وقد صنع كثير من هذه الصور ووشي بالذهب أو بالعاج على ألواح من خشب الأبنوس، وعلق بعضها على الجدران بمسامير من الذهب، وعلى أبواب القاعة من الداخل ستائر معلقة بمسامير ضخمة من الفضة، وفي أرضها بساط واحد، ربما بلغت مساحته عشرين ذراعا في عشرين، وحولها مما يلي الجدران وسائد مستديرة من ريش النعام مغشاة بالإبريسم الموشى، وفي زواياها مناور من الفضة توضع فيها الشموع للإضاءة في الليل.
فلما وصل الأمين إلى هذه القاعة، وسمع طنطنة العيدان وراءها، جلس على سرير من الأبنوس مطعم بالعاج كان قائما هناك، وأشار إلى رفيقيه فجلسا، ثم أومأ إلى قيم الخصيان بإشارة فهمها، فأحنى رأسه وخرج، والفضل في قلق ليعلم هل وصلت قرنفلة ورفيقتاها، وابن الهادي ينظر إلى الأمين ويبتسم، وفي نفسه أمور عظام لو أطلقها وخرجت زفيرا لأحرقت تلك القاعة بما فيها، ولكنه كان كاظم الغيظ صبورا، ثم ما لبث أن سمعوا ضرب العيدان ضربا كثيرا على توقيع واحد، ونغم واحد، وإذا بباب من أبواب القاعة قد فتح وخرج سرب من الجواري في أيديهن العيدان، فمررن في القاعة عشرات عشرات يضربن على العيدان ضربا رخيما، ويغنين بصوت واحد، فإذا فرغ العشر انصرفن من الباب الآخر، وجاءت عشر أخر وفي أيديهن عيدان أخر، وهن يغنين غناء آخر على نغم آخر، فلما انصرفن جاء عشر أخر، وهكذا حتى تمت عشرة أفواج. ولم يكن شيء من ذلك ليدهش الفضل ولا جعفرا؛ لأنهما شاهدا مثله في دور البرامكة ودار الرشيد، وإنما أدهشهما ما جاء بعد الجواري من أسراب الغلمان والخصيان وغيرهم، وعليهم الملابس الثمينة الباهرة مما لم يسبقه إلى مثله أحد في الإسلام على هذه الصورة؛ فإنه كان يغالي في اقتناء الخصيان، ويطلبهم من أقاصي البلاد مهما كلفه ذلك من الأموال، وأسرف في ذلك بعد خلافته، فحملهم لخلوته ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وسماهم الجرادية، وفرض لهم فرضا خاصا، واصطنع أجواقا أخر من الغلمان الحبشان سماهم الغرابية، وفرض لهم الأموال. وقد أخذ عليه الناس ذلك، ونظموا فيه الأشعار.
1
أما في أثناء ولاية العهد فكان لا يزال في أول رغبته في هذا الطرب الدخيل.
فكان الغلمان يدخلون أفواجا وشعورهم مسترسلة جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيديهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويغنون، والأمين يطرب لكل صوت ويقهقه ولا يطلب شرابا؛ لأنه ينوي الشرب في المصطبة.
الفصل الخامس والعشرون
مجلس طرب
فلما مر الجميع أشاروا إلى القيم إشارة أخرى، وأشار إلى رفيقيه فنهضا وسارا بين أيديهم، وقد فتح لهم القيم بابا في صدر القاعة خرجوا منه ونزلوا بضع درجات إلى دهليز في جانبيه أبواب مقفلة تؤدي إلى غرف وقاعات عديدة، وفي نهاية الدهليز وصلوا إلى المصطبة، وكأنهم خرجوا من الخباء إلى الخلاء، فوجدوا المكان على سعته قد فرش بالنمارق والطنافس، وفي صدره فرش عالية فوق سرير من الأبنوس المطعم بالذهب لا يرتقى إليه إلا بكرسي، وحوله عدة مقاعد ووسائد فوق الطنافس وبجوار الأساطين أو الجدران. وقد نصبوا في وسط المصطبة سماطا هو بساط من جلد جميل الصنع فوقه ملاءة من الحرير، وفوق البساط مائدة كبيرة الحجم، مستديرة الشكل، قصيرة، طولها شبر، وجاءوا بالأباريق البلور أو الفضة وفيها الأشربة والأنبذة، وبينها الأقداح على اختلاف أشكالها وألوانها. ويتخلل ذلك أطباق الفاكهة واللحوم الباردة ومزاهر الأزهار ونحوها، وقد فاحت رائحة المكان بالطيب العطر، فصعد الأمين إلى سريره، وأشار إلى ابن عمه فجلس، ثم التفت إلى الفضل وقال: «أراك لا تزال بثيابك؛ فاخلعها والبس ثياب المنادمة.» فأشار مطيعا، فصاح: «يا غلام، أحضر ثياب المنادمة.»
فجاءوا بثوب معصفر، وأصر الأمين إلا أن يجعل على رأسه إكليلا من الزهر مثله، فأطاع، ثم صفق الأمين فدخل القيم، فقال: «إلينا بالمغنيات. هل أتانا من الجواري أحد جديد؟»
فقال: «كلا يا مولاي، ولكن عندنا من المغنيات غير واحدة ممن ليس في بغداد أحسن منهن، حتى ولا في دار أمير المؤمنين. فهل آتي بهن؟»
قال: «أحضر الوصيفات بالمراوح أولا، ثم اختر لنا أحسن المغنيات نستمع لهن ريثما يأتي أولئك.»
فخرج، وبعد برهة أقبلت جارية تفتن الناظرين، يظهر من ملامحها أنها كرجية الأصل، دخلت المصطبة نافرة كأنها الغزال انفلت من شبكة الصياد، عليها قميص إسكندراني شفاف يشف عن أثوابها جميعا، وفوقه قرطق مفروج، أو هو القباء المفرد، وقد أشرق بياضها إشراقا باهرا، وجعلت شعرها طرة أسبلتها على جبينها، وتعصبت بعصابة قد نقش عليها بصفائح الذهب هذا البيت:
ما لي رميت فلم تصبك سهامي
ورميتني فأصبتني يا رامي
وقد أدارت صدغيها وتقوس حاجباها، ولها عينان قد ملئتا سحرا، وأنف كأنه قصبة در، وفم كأنه جرح يقطر دما، وبيدها مروحة عريضة من ريش النعام مغشاة بالحرير المزركش وقد طرز عليها بالذهب هذه الأبيات:
بي طاب العش في الصي
ف وبي طاب السرور
ممسكي ينفي أذى الح
ر إذا اشتد الحرور
الندى والجود في وج
ه أمين الله نور
ملك أسلمه الشب
ه وأخلاه النظير
1
وقد قبضت على المروحة بأنامل منقوشة بالحناء، فيها خواتم، وفي معصمها الأساور والدمالج؛ إذا حركت يدها للترويح سمع لها شخشخة، وفي صدرها هلال من ذهب مرصع بالجوهر، وقد نقش عليه هذا البيت:
أفلت من حور الجنان
وخلقت فتنة من يراني «وبعد برهة أقبلت جارية تفتن الناظرين، يظهر من ملامحها أنها كرجية الأصل، دخلت المصطبة نافرة كأنها الغزال انفلت من شبكة الصياد ...»
فلما دخلت افتتن جعفر والفضل برؤيتها، ولكنهما تهيبا لعلمهما أنها وصيفة الأمين الخاصة جاءت لتروح له. فمشت وهي تنتقل على رءوس أصابعها وتتمايل حتى دنت من الأمين ، فوسع لها الفضل، فصعدت على مقعد بجانب سرير الأمين وأخذت تروح بالمروحة، وفي يدها الأخرى منديل إذا تندى جبينه بالعرق مسحته له.
ثم دخلت جارية أخرى يظهر من مجمل منظرها أنها رومية الجنس، عليها دراعة مصبوغة بلون الورد الأحمر، وقد وضعت على رأسها ضفائر شعر مسدلة كأنها العناقيد تتدلى إلى أسفل ظهرها. وفوق الشعر تاج مرصع، وفي عنقها عقد ثمين قد تعلق فيه صليب من الذهب المرصع، وعلى التاج بيتان من نظم الحسن بن هانئ (أبو نواس)؛ وهما:
يا راميا ليس يدري ما الذي فعلا
عليك عقلي فإن السهم قد قتلا
أجريته في مجاري الروح من بدني
فالنفس في تعب والقلب قد شغلا
وتمنطقت بمنطقة شدت بزنار، وعلقت المروحة بها، وعلى المروحة هذا البيت:
أتهوون الحياة بلا جنون
فكفوا عن ملاحظة العيون
فلما دخلت هذه الوصيفة أشار الأمين إليها فوقفت بجانب ابن عمه جعفر وأخذت تروح له، ثم دخلت جارية ثالثة تختلف في شكل هندامها عن صاحبتيها، وقد جعلت شعرها على شكل الطرة السكينية، التي تنسب إلى سكينة بنت الحسين؛ لأنها أول من صنعها في المدينة منذ قرن وبعض قرن، ولم تشد فوقها عصابة، ولكنها كتبت فوق جبينها بالغالية هذين البيتين:
يا هلالا من القصور تجلى
صام طرفي لمقلتيك وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا
كيف يدري بذاك من يتقلى؟!
وقد لبست درعا من القطيفة أبيض اللون كتب على جانبه الأيمن بالتطريز:
كتب الطرف في فؤادي كتابا
هو بالشوق والهوى مختوم
وعلى الجانب الأيسر:
كان طرفي على فؤادي بلاء
إن طرفي على فؤادي مشوم
فلما دخلت علم الفضل أنها ستقف بجانبه تروح له، فمشت وهي تلاحظ ما يبدو من الأمين، فإذا هو يشير إليها أن تذهب إلى الفضل، فوقفت إلى جانبه وأخذت تروح له.
الفصل السادس والعشرون
المغنيات وأبو نواس
ثم دخل عدد من الغلمان يحملون آنية الشراب، وهم في ثياب مصبوغة بألوان قوس قزح، على أحدهم ثوب أحمر، وعلى الآخر ثوب أصفر، والآخر أخضر، وعلى الآخر أحمر وأصفر معا، أو من عدة ألوان مما يبهر النظر، وكلهم في عنفوان الصبا وغاية الجمال، مع صفاء البشرة، وأكثرهم لا يعرفون اللغة العربية، وإذا تكلموها ظهر للسامع أنها ليست لغتهم؛ لأن بعضهم من الصقالبة، والبعض الآخر من الكرج أو الترك أو الروم، ومعظمهم حديثو الإقامة في بغداد، وأكثرهم خصيان. وقد تفنن قيم الغلمان في تزيينهم، كما تفننت قيمة الجواري في تزيين الوصيفات اللواتي ذكرناهن؛ فكان على بعضهن قباء كتب على عاتقه الأيمن هذا البيت:
بدر على غصن نضير
شرق الترائب بالعبير
وعلى عاتقه الأيسر:
خطت صحيفة خده
من صفحة القمر المنير
ووقف بعض الغلمان بأباريق الشراب، الإبريق في يد أحدهم والكأس بيده الأخرى، والكئوس من البلور؛ بعضها أحمر اللون أو أزرق أو أخضر، وبعضها من الذهب الخالص، وعليه نقوش كتابية أكثرها أشعار في مدح الخمر ووصفها؛ من أمثلتها:
اشرب على منظر أنيق
وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقا
واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لام في التصابي
إليك خل عن الطريق
وجلس الأمين وصاحباه في انتظار المغنيات، فإذا هم يسمعون ضرب العود على نغم مطرب وصوت رخيم، ثم ظهرت مغنية صفراء ليست من الجمال في شيء؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون الجواري البيض الغناء بعد، ومشت وهي تضرب ضربا مسكرا وتغني بصوت رخيم، حتى أقبلت وفي أثرها أربع جوار يحملن العيدان يرقصن على توقيعها. فما سمع الأمين الغناء حتى صاح: «إلى بصاحب الشراب.» فجاء رجل هو رئيس السقاة فأخذ يدير أمر الساقين، وأرسل بعض الغلمان إلى الأمين بقدح دفعه إليه فشربه، وأمر للفضل وجعفر فسقاهما، فتناولا القدحين ولم يشربا، وإنما تظاهرا بالشرب مسايرة للأمين. أما الجواري فجلسن على مقعد من الوسائد معد لهن في أحد جوانب المصطبة، وبعد أن دارت الكئوس وطرب الأمين قال: «أين الحسن بن هانئ؟ أين أبو نواس؟»
فقال رئيس الخصيان: «إنه في دار الضيافة يا مولاي.»
فقال: «إلي به الآن.»
فذهب لاستدعائه فأرجعه الأمين قائلا: «احذر أن يدخل علي بغير ثياب المنادمة.»
فأشار مطيعا بانحناء الرأس وخرج، وما لبث أن عاد وهو يقول: «إن أبا نواس بالباب.»
فقال وقد أخذته هزة الطرب: «يدخل.»
فدخل أبو نواس، وكان جميل الصورة. وبالرغم من أنه جاوز الأربعين من عمره، فقد كان الجمال لا يزال ظاهرا في محياه، وغلبت عليه ملامح الأهوازيين؛ لأن أمه منهم، وأرخى لحيته. وكانت خفيفة وقد وخطها الشيب قليلا، وكان أزرق العينين تتجلى فيهما الدعابة والذكاء معا. وعلى رأسه بدل القلنسوة أو العمامة قبعة (طاقية) حمراء اللون، وقد تزمل بثوب من ثياب المنادمة شديد الصفرة يتضوع الزعفران منه. فلما أقبل صاح الأمين به: «أهلا بشاعرنا. إن هذا المجلس لا يحلو بلا شاعر، والشعراء زينة مجالس الغناء.»
فانحنى أبو نواس ووقف، فأشار إليه أن يجلس بجانب الجواري المغنيات، وأشار إلى أحد الغلمان فقدم له وسادة جلس عليها. فتذكر الفضل أبا العتاهية، وأن هذا وقته - وكان قد أسر إليه أمرا حينما فارقه وخشي أن يكون قد نسيه - فأخذ يفكر فيه وهو يتشاغل بما يراه ويسمعه من أسباب اللهو، ويظهر التهيب في مجلس ولي العهد وفي نفسه أمور دفعه إليها جاره جعفر بن الهادي. واغتنم جعفر فرصة انشغال الأمين بسماع الغناء وسأل الفضل عن الجواري اللواتي ابتاعهن ومتى يصلن، فأجابه بضم أنامله جميعا - وهي شارة الانتظار - كأنه يقول: «إنهن يصلن قريبا.» ثم التفت إلى أبي نواس وقال له: «ألا تلقي من أقوالك شيئا يغنينه فيطرب ولي العهد؟»
فلما سمع الأمين قوله قال وقد لعبت الخمر برأسه: «لا، لا يقول شيئا قبل أن يشرب رطلا.» وأشار إلى الساقي فملأ رطلا ودفعه إلى أبي نواس فتناوله وشربه دفعة واحدة، ورده إلى الساقي وأشار برأسه أن: «هات أيضا.»
الفصل السابع والعشرون
الطرب بالطعن
فأعجب الأمين برغبته في الشراب، وضحك حتى استلقى على ظهره وفي يده تفاحة بأكملها، وقال له وفي فمه قطعة منها: «اطربنا يا ابن الأهوازية.»
فأجابه والمجون ظاهر على وجهه: «أيريد مولاي أن أطربه بالمدح أو بالطعن؟»
فابتدره الفضل بن الربيع قائلا: «ألا تكف عن مزاحك؟ كيف يسأل الأمير هذا السؤال؟ وهل يطرب أحد بالطعن؟ وهو إنما سألك أن تلقي على هؤلاء القيان أبياتا يطرب لها مولانا.»
فنظر أبو نواس إلى الفضل شزرا وهو يظهر المجون أيضا وقال: «وما أدراك ماذا يطرب الأمير؟ أتريد أن تحترف صناعة المنادمة فضلا عن الوزارة؟ إني أخاطب سيدي وهو يفهم مرادي.»
فاستغرب الفضل جرأته وأراد أن يجيبه فسمع الأمين يقول: «لقد فهمت مراده.» ثم التفت إلى أبي نواس وقال: «أطربنا بالطعن ليرى الفضل أن الطعن قد يطرب ما لا يطربه المدح. ألق على الجارية بيتا أو بيتين من هذا القبيل.»
فأصغى الحضور وقد ظهر الاستغراب في وجوههم، وحامت أبصارهم حول أبي نواس فإذا هو قد أدنى رأسه من الجارية التي بيدها العود وأسر إليها أبياتا، فسوت العود والكل سكوت حتى الأمين، ثم أخذت تغني:
عجبت لهارون الإمام وما الذي
يود ويرجو فيك يا خلقة السلق
1
رأى جعفرا يزداد بخلا ودقة
إذا زاده الرحمن في سعة الرزق
ولو جاء غير البخل من عند جعفر
لما وضعوه الناس إلا على حمق
2
وكانت الجارية تغني وتجيد في غنائها، والأمين يهتف طربا عند كل مقطع، وفطن الفضل لسر ذلك منذ بدأت الجارية في غناء البيت الأول، فأدرك أن أبا نواس يعرض بجعفر بن يحيى البرمكي عدوه، فكان طربه أكثر من طرب الأمين. وكان أكثرهم طربا جعفر بن الهادي، فلم يتمالك أن صاح في أبي نواس: «لله درك! ولا فض فوك!» وكان في يده عقد من الجوهر يلاعبه بين أنامله هم أن يرميه إليه، فتذكر أنه في حضرة ولي العهد ولا يستحسن أن يسبقه إلى إجازة الشاعر، فالتفت إلى الأمين واستأذنه بالإشارة، فأذن له، فرمى بالعقد إلى أبي نواس فوقع في حجره، فتناوله ونظر إلى الأمين كأنه يستشيره في أمره، فضحك الأمين وقال: «أراك تبحث عن مكان تضع فيه هذا العقد. ضعه هنا.» وأشار إلى الجارية الواقفة على رأس الفضل وقال: «وهي لك أيضا، ولكن بعد انقضاء هذا المجلس، وإذا زدتنا زدناك.»
فوقف أبو نواس ليشكره لذلك الصنيع، فأومأ إليه الأمين أن يجلس ويعود إلى ما كان فيه، وأشار إلى الساقي فأدار الأقداح وهو يبدل ألوان الأنبذة من نبيذ التفاح إلى نبيذ التمر فنبيذ العنب، وهي تتلألأ في الأقداح بين الصفرة والحمرة والشهبة والصهبة. وأشار الأمين إلى صاحب الشراب إشارة فهم مراده منها، فأمر أحد الخصيان أن يقدم القدح إلى أبي نواس بيده، وكان الغلام جميلا عبلا، جعد الشعر، وقد صففه على جبينه بشكل بديع، فأخذت أبا نواس نشوة الخمر، فنظر إلى الغلام ثم إلى الأمين، فابتدره الأمين قائلا: «صفه وهو لك.» فتناول أبو نواس القدح من يده وقال:
يسعى بها خنث في خلقه دمث
يستأثر العين في مستدرج الرائي
قد كسر الشعر واوات ونضده
فوق الجبين ورد الصدغ بالفاء
عيناه تنفث داء في محاجره
وربما نفعت في صولة الداء
إني لأشرب من عينيه صافية
صرفا وأشرب أخرى مع ندمائي
فلما سمع الأمين شعره صاح فيه: «ويلك! كفى. هو لك.»
أما الفضل فلما رأى الخمر قد دارت برأس الأمين أراد أن يغتنم الفرصة فقال له: «هل نسي مولاي القيان البيض؟»
فقال: «ويحك! كيف أنساهن؟! هل أتين؟» ونظر إلى قيم الدار مستفهما، فقال: «نعم يا مولاي، قد جئن منذ ساعة.»
فقال: «إلي بهن الساعة!»
فخرج وما لبث أن عاد مهرولا مذعورا، وفي أثره رجل قصير قد اكتسى جلد قرد، وعلى رأسه قبعة هرمية الشكل في أعلاها جلاجل وهو يقهقه قهقهة القردة، ووثب حتى توسط المصطبة وأخذ في الرقص، فقهقه الأمين وأغرق في الضحك حتى استلقى على ظهره، ولم يبق أحد لم يضحك. وعلا الضجيج فقال الأمين: «أليس هذا أبا الحسين الخليع؟»
فانتبه القيم وقال: «بلى يا مولاي هو بعينه - قبحه الله - إنه ذهب بعقلي.» فقال الأمين: «دعه وامض إلى الجواري.»
فعاد وتشاغل الحضور بالضحك ريثما يعود الرجل بالمغنية قرنفلة وبيدها العود تضرب عليه ضربا رخيما، وقد تكحلت وتبرجت وأرخت شعرها على كتفيها. ودخلت الجاريتان الأخريان في أثرها وبيد كل منهما عود، فوقفت قرنفلة بين يدي الأمين وهي تضرب على عودها نغما لم يسمع مثله من قبل، فأومأ إليها الأمين فجلست وأخذت تغني هذين البيتين:
لم تلده أمة تع
رف في السوق اتجارا
لا ولا حد ولا خا
ن ولا في الخزي جارا
وكان الفضل في أثناء ذلك يراقب حركات الأمين، فإذا هو يرفس الأرض برجليه طربا ويصيح: «صدقت، صدقت. قبحك الله.»
ولم يستغرب الفضل ذلك، بل كان يتوقعه منه؛ لأنه هو الذي أوعز إلى أبي العتاهية أن يعلمها هذين البيتين لإثارة حقد الأمين على أخيه المأمون؛ لما فيهما من التعريض به، إشارة إلى أن الرشيد حده في جارية وجده معها.
3
الفصل الثامن والعشرون
إسماعيل بن يحيى
وعلا ضجيج الضحك وتعالت الضوضاء، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، فقطع
كان الأمين قد جعلها على شاطئ دجلة وراء تلك المصطبة، حتى إذا رأت غريبا نبحت نباحا شديدا، فلما سمعوا نباحها أمر الأمين أحد غلمانه أن يستطلع السبب، فخرج من باب سري يؤدي إلى الشاطئ، ثم عاد مسرعا وهو يقول: «أرى سفينة تدنو من الشاطئ، أظنها حراقة إسماعيل بن يحيى الهاشمي.»
فلما سمعوا ذلك الاسم أسقط في أيديهم، واقشعرت أبدانهم كأنك صببت عليهم ماء ساخنا، ولا سيما جعفر بن الهادي؛ إذ امتقع لونه وظهرت البغتة على وجهه، وأشار الأمين إلى المغنيات فسكتن، وتحولت تلك الضوضاء إلى دهشة، واستولى السكوت على ذلك الجمع برهة سمعوا في أثنائها ربان السفينة ينادي بحارته أن يحلوا الشراع ويتقدموا نحو الشاطئ، فوجم الأمين وتجلد وقد ذهب أثر الخمر، وتذكر حاله فنزع الإكليل عن رأسه كأنه يريد أن يخفي مجونه وتهتكه، واقتدى به غيره، ولكن أنى لهم أن يخفوا مجونهم والأقداح متناثرة بين أيديهم، والأباريق مملوءة، والمائدة منصوبة وعليهم ثياب المنادمة وما يتبعها من وسائل الخلاعة واللهو.
على أن الأمين تجلد ونهض من مجلسه، وصاح بغلامه أن يسأل أهل الحراقة عن صاحبها، فعاد وهو يقول: «إن إسماعيل بن يحيى يستأذن في الدخول.»
فقال: «يدخل. أهلا به ومرحبا.»
ولاحظ الحضور رغبة الأمين في إخفاء تهتكهم، فأخرجوا الخليع وأمروا الجواري بالسكوت، وجلسوا ينتظرون وصول إسماعيل وكأن على رءوسهم الطير. وما لبث أن رجع الغلام وفي أثره شيخ جليل المنظر، وسيم الطلعة، طويل القامة، عليه جبة سوداء، وعلى رأسه قلنسوة طويلة حولها عمامة من خز؛ وهي ملابس العباسيين الرسمية.
وكان إسماعيل بن يحيى من كبار بني هاشم رهط الخليفة، وكان من أهل التعقل والحزم، وقد زادته الشيخوخة وقارا. وهو عالي الجبين، عريض المنكبين، مسترسل اللحية، وقد اشتعل رأسه شيبا، ولم يستعمل الخضاب ترفعا عن بهرج الدنيا؛ لأنه كان حكيما نير البصيرة، يرى الأمور كما هي، ويقدر الناس بحسب مناقبهم ومواهبهم، لا بحسب أنسابهم ومظاهرهم؛ فرغم أنه هاشمي من أعمام الخليفة، فإنه لم يكن يرى في النسب الهاشمي فضلا على سواه إلا إذا اقترن بالتقوى والصلاح. وكان مطلعا على أمور الدولة، عالما بما تنطوي عليه شئون أهلها. ولم يكن يحب الرشيد لأنه هاشمي، ولا يكره جعفر البرمكي لأنه فارسي، وإنما كان ينظر إلى الأمور من حيث هي، وغرضه الأول سلامة الدولة العباسية من العلل، وخلاصها من أسباب الفشل، ولا يهمه على يد من تكون سلامتها.
فكان ينظر إلى ما يجري من الدسائس بين الرشيد ووزيره، أو بين الأمين وأخيه، أو بين غيرهما من الأحزاب المتناقضة، نظر الحكيم الناقد يشرف على أهواء الناس من سماء عقله وفلسفته، ويسعى جهده في تلافي ما يخشى وقوعه من مفاسد ذوي المطامع الدنيوية وأرباب الأهواء النفسانية. فلم يكن يهمه أن تفضي الخلافة إليه بقدر ما يهمه صلاحها، وتوطد دعائمها، وطول بقائها. وكان أعلم الناس بنواحي الضعف عند الرشيد ووزيره، ونواحي القوة عندهما، وله الدالة على كليهما، والكلمة النافذة عندهما، ولا سيما الرشيد؛ فقد كان يجله ويحترمه ويعظم شأنه؛ لما تحققه من كبر نفسه ونزاهته وسلامة نيته، فضلا عن ذكائه وسداد رأيه. وطبيعي فيمن كان هذا شأنه أن يهابه الناس ويحترموه حتى الملوك، فإنهم مهما بلغ من صلفهم وكبريائهم لا يحتقرون رجلا لا يجتمعون به إلا لنصيحة، يتحققون بالاختبار أنها صادرة عن إخلاص تام، ولا يتباحثون معه إلا آنسوا منه حكمة فوق مستوى تفكيرهم. فكيف إذا أضيف إلى ذلك شرف النسب وعلو الهمة والشيخوخة؟! فلا غرو إذا نال إسماعيل هذه المنزلة عند الرشيد أو رجال دولته؛ لما عرف به من الغيرة على سلامة الدولة والتفاني في سبيل مصلحتها، على أنه لم يكن يقدم على نصيحة أو مشورة إلا إذا رأى النصح نافذا، ولا يقول إلا كلاما صريحا، فإذا أحس أنه في حاجة إلى تلون أو رياء تباعد وتحاشى؛ ولذلك لم يكن يعجبه الأمين، ولا يرى نصحه نافعا، فكان يبتعد عنه ويحاذر أن يحضر مجلسه.
الفصل التاسع والعشرون
الدهشة
أما مجيئه في ذلك اليوم فسببه أنه كان رقيبا على ابن الهادي من عند نفسه؛ لعلمه بما يكتمه من الحقد على الرشيد والبرامكة، وبلغه أنه يجالس الأمين ويعاشره فلم يعجبه ذلك منه. وكان إسماعيل وجعفر يقيمان في البصرة مثل أكثر بني هاشم المتقاعدين الذين يعيشون برواتب الخليفة وهباته من الأموال والضياع، فينغمسون في الترف والقصف، ويقضون أيامهم بين مجالس الأنس والغناء، والخلفاء يسهلون لهم هذه الأسباب ليضعفوا عزائمهم عن النهوض لمنازعتهم على الخلافة، ويشغلوهم عن الدسائس السياسية بالجواري والقيان، ومعاطاة الكأس والطاس.
أما إسماعيل بن يحيى فقد كان عفيفا حازما يكره ما يراه من ترف هؤلاء وقصفهم، وعلم أن النصح لا ينفعهم فكف عن نصحهم إلا جعفر بن الهادي؛ فإنه كفله من صغره منذ مات أبوه، فشب جعفر لا يشرب الخمر ولا يميل إلى اللهو، وإنما كان يعاشر الأمين ويغريه على زيادة الترف واللهو لغرض في نفسه لم يكن يخفى على إسماعيل. وكان يخشى بقاءه على عزمه؛ لأنه لا يرى فيه صلاحا للدولة، بل هو يخاف عليها منه. وكثيرا ما نصحه بالرجوع عن ذلك وهو يعده ويخلف. وعلم منذ أيام وهما في البصرة أن جعفرا أتى بغداد، فظنه جاءها لترويح النفس، أو لقضاء بعض المصالح، أو ليقبض عطاءه، فلما أبطأ خشي عاقبة إبطائه فلحق به وهو يظهر أنه آت لغرض له. فلما وصل إلى بغداد واستطلع أخباره علم أنه نازل في قصر الأمين لا يخرج منه، فلم ير بدا من مقابلته هناك، وكانت له سفينة في دجلة إذا جاء بغداد ركب فيها، فاستقلها في ذلك اليوم وقصد قصر الأمين فوجده على تلك الحال.
فلما دخل إسماعيل على مجلس الأمين تهيب كل من كان فيه، حتى الأمين رغم شربه الخمر وتهتكه، فتجلد ووقف لملاقاة ذلك الشيخ الجليل، ولم يكن يحلم أن يراه على هذه الصورة، وأما جعفر فوقف منزويا وقد ارتج عليه. ولم يبق ثابت الجأش متجلدا إلا الفضل بن الربيع؛ لما ذكرناه من طبيعة مزاجه، فضلا عن دهائه، فإنه تقدم إلى إسماعيل، وتبسم له، ورحب به، وأظهر رغبته في تقبيل يده وهو يقول: «مرحبا بمولاي.» وقدم له مقعدا وكان الأمين قد نزل عن سريره ورحب به أيضا.
فنظر الشيخ إلى ما حوله من الجواري والغلمان والعيدان والأباريق والأقداح، وغير ذلك من أسباب الأنس والطرب، فعلم أنه إذا جلس معهم نغص عليهم نهارهم، فتظاهر أنه لم يكن يقصد الزيارة في تلك الساعة، ولكنه توهم أنه سمع صوت جعفر هناك. قال ذلك وهو يتجاهل أنه رآه.
فظهر الوجل على وجه جعفر، وأقبل متأدبا وهو يتجلد، وعلم أن إسماعيل لا يروق له الجلوس هناك فقال: «قد كنت عازما على الخروج من الصباح، فأبقاني ولي العهد في هذا المجلس ليسمعني غناء الجواري البيض، وألبسني ثياب المنادمة، فإذا أحب سيدي أن أنطلق في خدمته فعلت.»
فأظهر إسماعيل أنه مسرور بلقياه وقال: «لا بأس يا ولدي فإني مشتاق إلى رؤيتك، فإذا أردت الانصراف فانزل معي إلى السفينة، ودع القوم في مجلسهم؛ فإن مقامي لا ينفعهم.» قال ذلك وتحول ومشى، فاستأذن جعفر في تبديل ثيابه ثم يلحق به إلى السفينة.
خرج إسماعيل وأهل المجلس سكوت تهيبا، وقد سر الأمين بذهابه. أما جعفر فأسرع إلى غرفته فلبس قلنسوته وسواده ونزل إلى السفينة، فوجد إسماعيل يتمشى على ظهرها وقد أرسل قلنسوته إلى الوراء، وظهر الاهتمام على جبينه وعينيه. فلما أقبل عليه ترامي على يديه ليقبلهما فجذبهما منه وقال: «ما هذا المجلس يا جعفر؟ أمثلك يفعل ذلك؟»
فتراجع وأطرق ولم يجب، وأمر إسماعيل ربان السفينة أن يمضي بهم إلى مرسى بعيد عن القصر، وأمسك جعفر بيده وسار به إلى مقعد في مؤخر السفينة يشرف على الماء، وأجلسه إلى جانبه، ولما جلسا قال إسماعيل: «لم يكن عهدي بك مجالسة هذا الغلام في مثل هذا المجلس، فهل طاب لك اللهو والتهتك؟»
قال: «هل ترى في أثر الشرب؟ إني والله لم أذق الخمر.»
قال: «لا أقول أنك تشرب الخمر، ولكنني أعهد فيك التعقل والرزانة، وكنت أحسبك إذا لقيت الأمين في مثل هذه الحال أنبته ووبخته، لا أن تجلس معه وتسايره.»
الفصل الثلاثون
مقتل الهادي
فتنهد جعفر وحول بصره إلى مقدم السفينة يتشاغل بما يراه من سبر النوتية قاع النهر بالعمد ليسيروا بالسفينة إلى مأمن، فلما رأى إسماعيل سكوته وتشاغله، أدرك ما يضمره وقال: «يخيل إلي أنك لا تزال على سوء نيتك في هؤلاء، وكأنك لا تزال طامعا؟»
فلم يتمالك جعفر عن قطع الحديث قائلا: «لا تقل طامعا يا سيدي، فإني غير طامع وإنما أنا أطلب حقي.»
قال: «وأي حق تعني؟»
قال: «أعني.» وخفض صوته وهو يلتفت حوله مخافة أن يسمعه أحد ثم قال: «أعني أن هؤلاء الموالي سلبوني حقي بعد أن قتلوا والدي وأخرجوا الخلافة من يدي، وأنت أعلم أني أولى الناس بها.»
فتظاهر إسماعيل بالاستخفاف وقال: «لا أجادلك فيما تدعيه من الحق، ولكنني لا أرى علاقة بين ما تطلبه وما تفعله. ما هي العلاقة بين طلبك الخلافة وجلوسك هذا المجلس؟ وقد طالما دافعتني بمثل هذا القول. فأخبرني ما هو حقك وممن تطلبه؟»
فقال جعفر وقد تجلى الغضب بين حاجبيه: «أتسمح لي أن أصرح بما في نفسي. إني أتهيب ذلك بين يديك.»
قال إسماعيل: «قل. لا تخف؛ فإني إذا رأيت طلبك صوابا أعنتك عليه، وإلا فإني أنصحك وأكتم أمرك.»
قال: «أنت تعرف والدي الهادي - رحمه الله - وتعلم أنه تولى الخلافة بوصية جدي المهدي، وأن والدي أوصى لي بالخلافة من بعده.»
قال إسماعيل: «أظنك تطمع في تنفيذ وصيته، وأنت تعلم أنه ارتكب بهذه الوصية شططا؛ لأن المهدي - رحمه الله - إنما أوصى بالخلافة لأبيك، ثم لعمك الرشيد بعده، فلما تم له الأمر أراد إخراج الخلافة من الرشيد ومبايعتك بها، فهل تعد هذا حقا؟»
قال: «لا أنكر عليك أنه خرج بذلك عن وصية المهدي، ولكنهم راجعوه فرجع وأعاد البيعة إلى الرشيد على أن تكون لي الخلافة بعده. ألا تذكر ذلك؟»
قال: «بلى، أذكره.»
قال: «فما بالهم فتكوا على أثر ذلك بوالدي وقتلوه ولم يجلس على عرش الخلافة إلا سنة وبعض السنة؟»
فقال وهو يظهر الدهشة: «قتلوه؟ ومن قتله؟ لا أعلم أنه مات مقتولا، وإنما توفي من مرض. ولو زعمت أن أمه الخيزران ساعدت على قتله لرأيت مسوغا لهذا الزعم، وأما غيره فلا.»
فتضاحك جعفر وقال: «لا يبعد أن تكون الخيزران قد ارتكبت هذا الجرم، كما يقولون؛ لأن والدي أغضبها حين كف يدها عن التدخل في شئون الدولة، ولكنها فعلت ذلك مدفوعة بإغراء ذلك الفارسي.» قال ذلك وصر على أسنانه.
فقال إسماعيل: «أظنك تعني يحيى بن خالد؟»
قال: «إياه أعني، نعم إياه أعني. والدليل على ذلك أنه هو الذي وقف في سبيل والدي وعارضه في أمر البيعة. وكان الرشيد قد أذعن للخلع ورضي بتحويل البيعة إلي، ولكن يحيى هذا حرض الرشيد على رفض هذه البيعة، ولم يستقر حتى وافقه والدي على أن يرجع البيعة إليه، على أن أكون أنا الخليفة بعده. فلما وافقه على ذلك أسرع إلى الغدر به، ولم تمض ليال قليلة حتى قيل إن الهادي مات، وزعموا أن جدتي الخيزران قتلته، ولكنني أعتقد أنها إذا كانت قد فعلت ذلك فإنما فعلته بإغرائه. ألا تذكر أنه كان أول من عرف بالوفاة فهرول ليلا إلى الرشيد وبشره بذلك؟ وقد عرف الرشيد فضله وألقى مقاليد الحكومة إليه، كما تعلم، ثم أفضت الأمور إلى ابنه جعفر؛ الوزير الحالي، وهو فيما تعلمه من نفوذ الكلمة حتى يصح أن يقال إنه هو الخليفة وليس الرشيد.»
الفصل الحادي والثلاثون
البرامكة والدولة
وكان جعفر يتكلم والعرق يتصبب من جبينه وإسماعيل يصغي إلى قوله، وربما كان رأيه في هذا الأمر مثل رأيه، ولكنه لم يكن يرى أن يشجعه عليه؛ لاعتقاده أن ذلك ليس في صالح الدولة؛ إذ قد يئول الانقسام إلى فسادها، فعمد إلى الاعتراض قائلا: «أراك سيئ الظن بالبرامكة كأنك
ظلمتم هؤلاء الموالي، ونسيتم آثارهم في تنظيم هذه الدولة من عهد جدهم خالد. ألم يكن خالد من أكبر أعوان أبي مسلم في نقل هذه الدولة من الأمويين إلينا، فلما قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم وثار الفرس والأكراد عليه كادت تخرج الدولة من يديه لو لم ينجده خالد، ويضمن له التغلب عليهم بالرأي دون الجنود؟ ناهيك بما كان من تدبير شئون الحكومة، وتنظيم دواوينها على يده ويد ابنه يحيى، وحفيديه الفضل وجعفر.
إن البرامكة - يا ولدي - هم عماد هذه الدولة وقوام أبهتها. وهذه بغداد كيفما تلفت رأيت آثار تدبيرهم في معاهدها؛ فقد أقاموا فيها المكتبات، والحلقات، ومنازل الجند، ومآوي المرضى، ومجالس القضاة، وغرف الشرطة. وإن ما تراه من رواج العلم والفلسفة وتهافت أهل الذمة وغيرهم على ترجمة كتب اليونان والفرس إنما أصله ترغيب البرامكة فيه بالبذل والعطاء. أليس يحيى بن خالد أول من عني بنقل المجسطي من اليونانية إلى العربية؟ وهل تنكر أنه هو الذي سعى في جمع الكتب من الهند وغيرها؟ أليس البرامكة هم الذين استقدموا أطباء الهند لترويج صناعة الطب. إن هؤلاء الأطباء بين ظهرانينا الآن، وخاصة منكة الهندي الذي أشار يحيى على الرشيد باستقدامه لما اشتدت وطأة المرض عليه، حتى كدنا نيأس من حياته فعالجه وشفي.
أليس هم الذين رغبوا الرشيد في إنشاء المارستان، وولوا عليه طبيبا هنديا من هؤلاء، وأنشئوا مارستانا لأنفسهم وأسندوا إدارته للطبيب الهندي ابن دهن؟ وهل خفي عليك ما للفضل بن يحيى من الأثر الجميل في استخدام الكاغد؛ فإني لن أنسى ضيق أصحاب الدواوين من استعمال الجلود والرقوق للدفاتر والأروج والسجلات، حتى أشار الفضل المذكور بالكاغد، فأنشأنا له المعامل في بغداد كما ترى. وأراني لو أردت تعداد مآثر هؤلاء البرامكة لتعبت قبل الإتيان على آخرها، وأنت تعلم عصبيتي في بني هاشم، وغيرتي على هذه الدولة، ورغبتي في سلامتها (قال ذلك وتنهد) فلا يعقل أن أقول ذلك عن تهوس أو غرض، وإنما أقول الحق الصراح، فلا يغرنك ما تراه من نقمة ابن الربيع وأمثاله عليهم، وطعنهم فيهم؛ فإنهم يفعلون ذلك حسدا لعجزهم عن مجاراتهم.»
وكان جعفر في أثناء تلك الخطبة مطرقا ينظر في حركة الماء الملامس لجدران السفينة وهي سائرة الهوينى، وكأنه استغرق في هواجسه فلم يفهم كل ما سمعه، فلما فرغ إسماعيل من كلامه انتبه جعفر وقد ضاقت نفسه من سماع مدح البرامكة وهو يكرههم كرها شديدا، ولا يرى سبيلا لدفع أدلة إسماعيل، فلم ير خيرا من استئناف الكلام عنهم فقال: «هب أنهم ملائكة نزلوا من السماء، ألم يقتلوا والدي ويخرجوا الحكم من يدي؟»
قال: «إن دعواك منقوضة أو هي غير ثابتة على الأقل؛ إذ لم يقل أحد إن يحيى بن خالد قتل والدك، أو سعى في قتله لإخراج الأمر من يدك.»
قال: «أما أنه قتله فلا ريب عندي فيه، وإن خفي على الكثيرين، وأما أنه فعل ذلك لإخراج الحكم من يدي، فيدلك عليه أنه بعد أن وافقه والدي على أن يبايع الرشيد قبلي عجل فقتله قبل أن يتمكن من البيعة لي، ولما تم الأمر للرشيد، بدلا من أن يبايع لي بايع لابنه هذا المتهتك، وأظنه كان عازما على أن يجعل الخلافة لي بعد الأمين، فأغراه وزيره البرمكي على مبايعة ابنه الآخر المأمون، فأصبحت صفر اليدين، ووالله لو ...» وتململ.
فابتسم إسماعيل وقطع كلامه قائلا: «إني لأعجب من تباين أعمالك وتناقض أقوالك؛ كيف تكون ناقما على هذا الغلام وتجالسه في مجلس المدام، وتعاشره في أحوال الغرام؟ ثم إني لا أفهم معنى لهذه النقمة، ولا كيف يمكن لك أن تنال بغيتك وهذا الرشيد على كرسي الخلافة وحوله الجند والأعوان، وبنو هاشم ينصرونه ويؤيدونه، وقد بايع بالخلافة لولديه الواحد بعد الآخر، وهم سيتولون الخلافة بعده؛ فلا أرى لنقمتك محلا، ولا إلى غرضك سبيلا؛ فأقلع عما يجول في خاطرك من الأفكار الصبيانية وأنت تعلم غضب الرشيد إذا اطلع على شيء مما في نفسك؛ فإن لحمك يتناثر نتفا بين السماء والأرض، ولكني كتمت أمرك وأكتمه لأني أرجو صلاحك ورجوعك، وأما إذا تحققت من بقائك على عزمك؛ فحرصي على سلامة الدولة يبعثني على التفريط فيك، إلا إذا رأيت في أعمالك سدادا؛ فأخبرني كيف ترجو الوصول إلى الخلافة؟»
وكان لتهديد إسماعيل وقع شديد على جعفر وهو يحترمه ويخافه، فضاقت نفسه، وانحبست عواطفه، وكاد يختنق لو لم تفرج عنه دمعتان تعلقتا بين المآقي، وأطرق خجلا من ظهورهما وظهرت الحيرة في وجهه، لكنه لم يصبر عن الجواب فقال: «أراك مستخفا بي وبأعمالي، وتحسب أني أخبط في أقوالي. فاعلم يا عماه أني لا أجهل عجزي عن مناوأة الرشيد وهو بين جنده وأعوانه، ولست طامعا في ذلك، وإنما أطمع في الظفر بالخلافة بعده. وهذا سهل إذا سقط وزيره البرمكي. اسمع كلامي إلى آخره: إن الرشيد متى مات فالخلافة تفضي أولا إلى الأمين هذا، وهو لا يصلح لها ولا أراه يزداد إلا انغماسا في القصف والترف واللهو، ولا أظن أهل الدولة إلا خالعيه، فيبقى أخوه المأمون؛ وهو - والحق يقال - ذو عقل وحزم، ولكنني لا أرى أحدا من الهاشميين يحبه؛ لأنه ينتمي إلى أخواله الفرس. ولا أظنك تجهل أن جعفر البرمكي هذا هو الذي سعى إلى مبايعته بالخلافة لغرض في نفسه لا يقل عن إخراج الدولة من أيدينا. أرجو الإصغاء إلى آخر كلامي. فالعقبة الوحيدة في سبيل إرجاع حقي في الخلافة هي وجود هذا الفارسي، وهو يستحق القتل إذا لم يكن انتقاما من فعل أبيه بأبي؛ فلأنه استأثر بأموال المملكة لنفسه ولأهله. وأنت ترى أن دخلهم من ضياعهم ربما ضارع دخل بيت المال؛ فقد أخبرني سهل بن هارون - وهو أعلم الناس
1
في السنة من ضياعهم ومرافقهم.
ولا يخفى عليك أن جباية المملكة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا يزيد على هذا القدر كثيرا؛ فقد علمت من صاحب بيت المال أن مجموع جباية الدولة نحو 400000000 درهم،
2
أو 27000000 دينار، ونحن - الهاشميين - نستقطر رواتبنا بالألف والعشرة آلاف كأننا نستجدي. ناهيك بأسباب الأبهة التي استأثروا بها حتى لقد ترى الخيول الواقفة بباب جعفر هذا أضعاف ما يقف بباب الرشيد. فما أدرانا ماذا يكون من عاقبة هذا الاستئثار إذا مات الرشيد وتولى الأمين؛ وهو لاه كما تراه. ألا تذهب الدولة من أيدينا؟ أما المأمون فإني أعترف بحزمه، ولكنني لا أراه غيورا على استبقاء الخلافة في أهل بيته. ولعل ذلك بسبب اتصال نسبه بالفرس من
الفصل الثاني والثلاثون
العالية بنت الرشيد
فأعجب إسماعيل بتفكير جعفر، ولعله رأى في قوله صوابا، ولكنه لم يكن يؤمن بفائدة مثل هذا التدبير للدولة، فأخذ يعارضه قائلا: «أما ثروة البرامكة فلا أنكر عليك ضخامتها، ولكن ما يدخل من ريعها إنما ينفقه البرامكة على الناس بسخاء في الإحسان أو الرواتب. فمن منا لا يستولي على راتب أو هدية من جعفر أو غيره؟ وقد علمت عن ثقة من صاحب بيت مالهم
صاحبها من أهل الدولة أو غيرهم على سبيل الهدية؛ فالمال راجع إلى الدولة وأهلها، ولا أظن الخليفة يفعل أكثر من ذلك، ثم إن مقتل هذا الرجل خطر على الخلافة، حتى الرشيد نفسه لو أراد قتله لم يستطع إليه سبيلا؛ لأن أكثر رجال الدولة من مريديه، وقد غمرهم بالعطاء والمعروف، فأقلع عن هذا وذاك، وأصغ لنصحي؛ فإني ضنين بشبابك، حريص على حياتك. والرأي عندي أن تتقرب إلى الرشيد؛ فذلك خير لك وأبقى، وأنا أضمن ما تبتغيه من القربى،
فلما رأى إصراره على مقاومته، تظاهر بالقبول مخافة أن يفشي أمره إذا أغضبه فقال: «وما هي وسائل القربى؟»
فآنس إسماعيل قرب رضائه، فسر لزوال تلك العقبة من طريق الدولة فقال: «ما هو أقصى ما يطمع فيه الناس للتقرب من الخلفاء أكثر من أن يتزوجوا بناتهم؟ إنني أعدك أن الرشيد يزوجك ابنته العالية؛ فما قولك؟»
فرأى جعفر أن ذلك الزواج إذا تم لا يقف في سبيل بغيته، بل هو قد يساعده على تنفيذها، فأظهر الاستحسان ولكنه قال: «إنها قربى عزيزة، ولكن الرشيد قد يشاور وزيره فلا يقبل!» وضحك.
فقال: «لا تكن سيئ الظن بالرشيد إلى هذا الحد؛ فإنه أقوى عزيمة وأشد بأسا مما تظن، وأنا أضمن لك ذلك في كل حال. إنما أرغب أن ترجع إلى البصرة ريثما أوافيك بالخبر.»
قال جعفر: «سأذهب حسب أمرك، ولكنني لا أرى ضررا من بقائي هنا حتى تنقضي هذه المهمة.»
قال: «حسنا. اذهب أنت الآن إلى قصري، وأنا أمضي غدا إلى الرشيد في هذا الشأن.»
فقال: «ولكن ألا تأذن لي أن أعود إلى الأمين فأودعه وآتي ببعض الأمتعة التي تركتها عنده، فأبيت الليلة هناك؟»
قال إسماعيل: «اذهب في حراسة الله.»
وكانت الشمس قد دنت من المغيب، فطلب جعفر إلى إسماعيل أن يأذن بإنزاله من السفينة ليركب زورقا يعود به إلى قصر الأمين.
فأمر إسماعيل بإيقاف الحراقة بجانب الشاطئ، ورأى جعفر هناك زورقا ركب فيه حتى عاد إلى قصر الأمين وقد أقبل العشاء وأظلم الليل، فوقف عند المصطبة، فنبحت الكلاب - وكانت كبيرة هائلة - فخاف أذاها ولبث واقفا عن بعد يتردد بين النزول من هناك أو الدخول من الباب الآخر وراء البستان، ولاحظ في أثناء وقوفه أن المصطبة خالية من الناس؛ إذ لم يسمع فيها غناء ولا رأى نورا، فعزم على المسير في الزورق إلى الباب الآخر، والطريق إليه بعيد.
وبينما هو يفكر في ذلك إذ رأى نورا يظهر في المصطبة ويدنو من السور، ثم سمع لغطا خفيفا، وإذا بيد امتدت فوق الحائط والمصباح في قبضتها، فلما رأت الكلاب المصباح سكتت، ثم أطل رجل عرف جعفر من مظهره أنه قيم الغلمان فناداه، فقال الرجل: «سيدي جعفر؟»
قال: «نعم. هل أدخل من هنا؟»
فقال بصوت ضعيف: «تمهل قليلا ريثما أعود إليك!» وتركه وعاد بمصباحه وجعفر واقف في الزورق ينتظر رجوعه، ويفكر في سبب هذا التستر. وبعد قليل ظهر النور وسمع صوت القيم يقول: «تفضل على مهل.»
فاستغرب جعفر هذا التخوف وصعد من الزورق ومشى حتى دنا من الباب السري، فقابله الرجل بالمصباح وقال: «تفضل يا مولاي أدخل.»
فدخل والرجل يمشي بين يديه بالمصباح، فمرا بالمصطبة فرأى آثار الشراب والطعام لا تزال فيها كأن الجلوس غادروها من عهد غير بعيد، فتحير في أمره وحدثته نفسه أن يستفهم عن سبب ذلك التغيير، ولكنه عدل عن ذلك. وظل الرجل يسير أمامه حتى بلغ القاعة الوسطى في دار النساء، فرأى المنائر في زواياها وجدرانها قد أضيئت شموعها، وليس هناك أحد، فلم يتمالك أن سأل الرجل: «أين هو مولانا ولي العهد؟»
قال: «إننا ذاهبان إليه يا سيدي، تعال معي ولا تضجر.»
الفصل الثالث والثلاثون
خبر جديد
فمشى جعفر في أثر القيم وهو يدخل من قاعة إلى قاعة، وكلها مضيئة بالشموع على المنائر، وفيها الرياش الفاخر يختلف في كل قاعة لونا وشكلا عما هو في القاعات الأخر، حتى وصل إلى باب مقفل وقف عنده القيم ونقر عليه نقرا خفيفا، فسمع جعفر حركة ثم فتح الباب وأطل منه الفضل بن الربيع وهو لا يزال بثوب المنادمة كما فارقه، وأمسك بيده وأدخله وهو صامت، فدخل جعفر إلى غرفة لم يجد فيها إلا الأمين جالسا على طنفسة، وهو أيضا بملابس المنادمة، وبجانبه امرأة قد تزملت بعباءة ووجهها مكشوف، فعرف أنها جارية، ورأى على وجهها آثار الاهتمام، فحياهم ووقف، فأمره الأمين بالجلوس قائلا: «اجلس واسمع هذا الحديث الغريب.»
فجلس وجلس الفضل إلى جانبه، فقال الأمين: «قد جاءتنا هذه الجارية بخبر يهمك ويهمنا. إنها من جوارينا وقد كلفناها بالتجسس لنا على ذلك الوزير، فاسمع ما جاءتنا به عن خيانته.»
فاستبشر جعفر بما سمعه، وتطاول بعنقه نحو الجارية، ولبث صامتا، فإذا هي توجه كلامها للأمين وتقول: «أنت تعلم يا مولاي أن يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي كان قد خرج على الدولة في الديلم، واجتمع حوله جماعة الشيعة، وكلهم ناقم على بني العباس، يريدون إخراج الخلافة من أيديهم على ما يزعمون. وبعث أمير المؤمنين الرشيد لحربهم غير واحد، وهم يزدادون تمردا حتى أنفذ إليهم الفضل بن يحيى؛ أخا الوزير جعفر، فلما وصل بجنده إلى الطالقان وعلم أن الرجل متحصن في جبال الديلم، احتال في إنزاله واستقدامه ووعده خيرا، فوثق يحيى بمواعيده؛ لأنه من الشيعة مثله، فجاءه فتلطف في معاملته وطلب إليه أن يصحبه إلى بغداد ويسلم نفسه لأمير المؤمنين فأبى، فاستحثه على الذهاب على أن يشترط ما أراده، ويكتب له الرشيد ذلك بخطه. فتم الوفاق بينهما على عهد أمان كتبه الفضل وبعثه إلى مولانا الرشيد، فوقعه للرجل - كما تعلمون - حتى أتى إلى بغداد فاستقبله أمير المؤمنين أحسن استقبال، وأجرى
سنية، ثم بلغ مولانا الرشيد من بعض العارفين أن الرجل لا يزال عازما على الخروج.»
فقطع الأمين كلامها وقال وهو يهز رأسه: «نعم، إنه ما يزال على سوء قصده، وهل تصفو قلوب أولئك العلويين لنا بعد أن بلغ العداء بيننا وبينهم إلى هذا الحد؟ ولا قلوبنا تصفو لهم.»
فقال جعفر: «ومن أدرانا أن الفضل لم يتواطأ مع صاحبه يحيى العلوي سرا على أمور تقضي بالتريث حينا إلى أن يخرجوا علينا جميعا؟»
فقال الفضل: «وهذا الذي فكر فيه أمير المؤمنين على ما يظهر؛ لأنه بعد أن أعطاه العهد عاد فأفسده كما ستسمعون.»
فأتمت الجارية كلامها وهي تنظر إلى الأمين: «نعم. إن مولانا الرشيد أفسد ذلك العهد - لا أدري لأي سبب - ولكنني علمت أن آل الزبير وشوا بذلك العلوي، فأمر أمير المؤمنين بالقبض عليه وحبسه. وأنتم تعتقدون الآن أنه في الحبس.»
فاستغرب الأمين قولها وقال: «لا بد من أن يكون هناك.»
قالت وهي تبتسم: «كلا يا مولاي. إنه الآن في طريقه إلى أهله.»
فصاح الأمين: «ماذا تقولين؟ ومن أطلقه؟»
قالت: «أطلقه الوزير جعفر.»
فقال: «وكيف ذلك؟ ما هذه الجرأة؟»
قالت: «دعني أقص عليك ما رأيته رأي العين في غروب هذا النهار.»
فتطاول لسماع حديثها فقالت: «كان الوزير جالسا عصر هذا النهار في غرفته الخاصة من قصره، والخدم والجواري يشتغلون بشئونهم إلا أنا؛ فقد كنت حريصة على مراقبة من يدخل أو يخرج، فرأيت يحيى بن عبد الله العلوي المذكور داخلا وحده دخول المتلصصين، وليس معه أحد من الحاشية، فعلمت أنه جاء خلسة، فراقبت طريقه فرأيته قد دخل على الوزير، وجلسا في الغرفة وليس معهما ثالث، فعلمت أنهما لأمر ما اختليا هناك، فدرت من ناحية أخرى إلى غرفة، بينها وبين هذه باب مقفل، يمكن مشاهدة الذين بداخلها من بعض ثقوبه، فوقفت هناك فرأيت العلوي لما دخل وقف له الوزير، ورحب به، وأجلسه إلى جانبه، وبش له، وأمر الخادم أن يقفل الباب عليهما. فلما استقر بهما الجلوس سأله الوزير عن حاله في الحبس، فبكى وشكا إلى أن قال: «اتق الله يا جعفر في أمري، ودبر طريقة لإطلاق سراحي، فوالله ما أحدثت حدثا يوجب الحبس.» فما فرغ العلوي من قوله حتى رأيت الوزير يلاطفه ويخفف عنه بكلام لم أفهمه، ولكنني فهمت أخيرا قوله: «اذهب حيث شئت من البلاد.»
فلما قالت الجارية ذلك بدت الدهشة على وجه الأمين وقال: «قبحه الله على هذه الجرأة، بل على هذه الخيانة. كيف يطلق أسيرا أمر والدي بحبسه؟ وبعد ذلك ماذا فعل؟»
قالت: «فأجابه الرجل: كيف أذهب وأنا أخاف أن يقبض علي فأرد.»
قال الفضل: «صدق والله.»
فقال ابن الهادي: «وكيف أطلقه إذن؟»
قالت: «إنه طمأنه وبعث معه رجالا من حاشيته ليوصلوه إلى مأمنه. وقد رأيته خارجا وهو يثني على الوزير، والوزير يشجعه ويطمئنه.»
فصاح الأمين: «قد نجا العلوي إذن!»
قالت: «نعم يا مولاي. فعزمت منذ تلك الساعة أن أسرع إليك لأقص هذا الخبر عليك، فلم أستطع الخروج قبل الآن.»
فنظر الأمين إلى ابن الهادي كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأومأ إليه أن يصرف الجارية، فأدرك أنه لا يريد الكلام في حضورها، فأشار إليها أن تمضي إلى قيمة الجواري وهي تقوم بمكافأتها، فنهضت وقبلت ثوب الأمين وخرجت.
فلما خلا جعفر بالأمين والفضل، أخذ في التهويل فيما سمعوه ليغريهما على الفتك بالبرمكي، فقال: «إن الصبر على هذا التطاول ضعف.» ولبث ينتظر ما يبدو من الأمين، فإذا هو يضحك ويقهقه، فاستغرب ضحكه فقال: «وما الذي يضحك مولاي؟ أظنه يرى أن شر البلية ما يضحك!»
قال: «كلا، ولكنني أضحك لما أتوقعه من استغرابك إذا سمعت ما قصه علي الفضل قبل مجيئك.» والتفت إلى الفضل كأنه يأمره بأن يروي الخبر.
فالتفت جعفر إلى الفضل فرآه يقول للأمين: «أظن مولاي يعني خبر مولاتي العباسة؟»
فأومأ برأسه أن: «نعم.»
فازداد جعفر شوقا لسماع الخبر، فأخذ الفضل يقص عليه ما جرى له في فجر ذلك اليوم في دار الرقيق، وما قصه عليه أبو العتاهية من تلصصه، وما رآه وما سمعه، وجعفر مصغ وقد تولته الدهشة. فلما فرغ الفضل من حديثه لم يتمالك جعفر أن وقف وصاح: «يا للخيانة! كيف تصبرون على ذلك؟ لماذا لا يعلم أمير المؤمنين بهذه الخيانة؟»
فقال الفضل: «أما خبر العباسة فلا يجرؤ أحد على نقله إلى الرشيد ما لم يعرض حياته لخطر؛ لما نتوقعه من غضبه، والعياذ بالله.»
فقال جعفر: «كيف نطلع على هذه الخيانة ونخفيها؟ إن إخفاءها خيانة أخرى.»
قال الفضل: «لا بد من الاحتيال في إبلاغه ذلك على يد مغنية بالإشارة أو التلميح أو التعريض. أما خبر فرار العلوي فيسهل نقله.»
فاقتنع جعفر بذلك لعلمه أن خبر العلوي وحده يكفي للفتك بجعفر. وهذا ما يتمناه ويرضيه. فأخذ يشجعه على الإسراع في نقله، ثم التفت إلى الفضل وكأنه قد فطن لأمر هام وقال: «وأين ذهب الطفلان ابنا العباسة؟ أرجو ألا يكون قد فاتكم إدراكهما، والقبض عليهما، والاحتفاظ بهما لحين الحاجة؛ لأن نقل الخبر إذا لم يكن مؤيدا بوجودهما فيا لشقاء ناقله!»
فقال الفضل: «لست ساذجا إلى هذا الحد. إنني حالما سمعت القصة، أنفذت جماعة من رجالي - وأبا العتاهية معهم - للقبض على الغلامين، ولم يرجعوا إلي بالخبر بعد، على أنني لست أخشى أن يعجزوا عن القبض عليهما.»
وبينما هم فيما تقدم من الحديث إذ سمعوا وقع أقدام في الغرفة المجاورة، ثم قرع الباب قرعا تعود الأمين سماعه من غلامه إذا جاء لمسارته في شأن، فنهض الفضل لفتح الباب، فأطل الغلام وظل واقفا بالباب، ففهم الأمين أنه يريد أن يلقي إليه بسر، وفهم جعفر والفضل ذلك.
فاستأذنا في الخروج فأذن لهما، ودخل الغلام فقال: «إن أحد رجال الشاكرية جاءنا الآن.» فعلم أنه رسول من عند والدته زبيدة؛ لأنها أول من اتخذ الشاكرية من الخدم، يترددون على الدواب إلى جهاتها، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها،
1
فقال: «وماذا يريد؟»
قال الغلام: «جاء ليدعوك إلى مولاتنا السيدة زبيدة؛ لأنها تحب أن تراك في صباح الغد لأمر هام.»
فقال: «قل له إني مصبح إليها باكرا إن شاء الله.»
فخرج الغلام. وكان الليل قد أسدل نقابه، فذهب كل إلى فراشه.
الفصل الرابع والثلاثون
زبيدة بنت جعفر
هي زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وابنة عم الرشيد أخي أبيه. تزوجها سنة 165ه. وهي تفاخر بنسبها الهاشمي سائر نساء الرشيد؛ لأنهن من أمهات الأولاد؛ ولذلك كانت عنده في المنزلة الأولى. وكانت جميلة الصورة، واسمها الأصلي أمة العزيز، فلقبها جدها المنصور زبيدة؛ لبضاضتها ونضارتها.
1
وكانت نافذة الكلمة عند الرشيد وهو يتبرك بمشورتها، ولها في الإسلام مآثر لم يسبقها إليها أحد؛ مثل حفرها للعين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها ومهدت الطريق لمائها في كل منخفض ومرتفع، وسهل وجبل، حتى أخرجتها مسافة اثني عشر ميلا إلى مكة، فبلغ ما أنفقته 1700000 دينار، فضلا عن المصانع والدور والبرك والآبار بالحجاز والثغور مما أنفقت الألوف عليه، غير ما كانت تنفقه على أهل الفاقة. وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن، ولكل واحدة ورد عشر من القرآن، حتى كان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.
وهي أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجواهر، وصنع لها الوشي الرفيع، حتى بلغ ثمن الثوب من الوشي الذي اتخذ لها 50000 دينار. وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري، وأول من اصطنع القباب من الفضة والأبنوس والصندل، وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج، وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
واتخذت الخفاف المرصعة بالجواهر، وأضاءت شمع العنبر على منائر من الذهب. وقد تشبه الناس بها في سائر أحوالهم.
2
وكان لها قصر في بغداد على شاطئ دجلة الغربي يسمى قصر زبيدة، ويلقب «دار القرار»، يقع جنوبي قصر الخلد شرقي مدينة المنصور، وحوله الحدائق والبساتين مما لم يكن له شبيه في تلك الحضارة الزاهرة.
وكانت زبيدة شديدة العصبية لبني هاشم، وفي صدرها حقد على البرامكة، وخاصة جعفر بن يحيى الوزير؛ لأنه كان يحط من قدر ابنها الأمين، ويرفع من شأن أخيه المأمون، مع أن أمه جارية. وآخر ما زاد من نقمتها عليه أنه حمل الرشيد على أن يبايع للمأمون بولاية العهد مع ابنها الأمين، وكانت تحب أن تكون البيعة له وحده. وزد على ذلك أن الرشيد سار سنة 186ه إلى الكعبة حاجا، ومعه أبناؤه ووزراؤه وقواده وقضاته، وفي جملتهم ابناه الأمين والمأمون؛ ليعهد لهما بولاية العهد، وجعفر البرمكي؛ ليشهد العقد، فكتبوا الكتابين وعلقوهما في الكعبة، وحلف كل منهما على الثبات - وكانت زبيدة حاضرة - فلما حلف الأمين وأراد الخروج من الكعبة، رده جعفر وقال له: «فإن غدرت بأخيك خذلك الله.» وطلب منه أن يحلف على ذلك ثلاث مرات، ففعل. فحقدت زبيدة عليه، وما برحت منذ ذلك الحين تترقب الفرص للإيقاع به. وربما كانت أكثر أعداء البرامكة حقدا عليهم، لا تدخر وسعا في استطلاع أخبارهم؛ لعلها تجد فرصة تتمكن بها منهم. وكانت تعلم أن جعفر يتردد على العباسة، ولكنها لم تكن مطلعة على خبر الطفلين، ولو علمت ما أحجمت عن كشف أمرهما لزوجها؛ لأنها لم تكن تتهيب منه لما تعلمه من منزلتها عنده.
فلما كان صباح ذلك اليوم وحدث ما حدث من الغوغاء عند دار الرقيق، اطلع على خبر الطفلين أحد جواسيسها عند العباسة، فنقل الخبر إليها، فرأت أن تغتنم أول فرصة لاطلاع الرشيد عليه، ولكنها أحبت أن تفاوض ابنها الأمين في ذلك، فأرسلت في طلبه، كما تقدم.
وبكر الأمين في صباح اليوم التالي إلى دار القرار إجابة لطلب والدته، فركب جواده والغلمان يسيرون في ركابه يتقدمهم فارس يحمل الحربة بين يديه، على عادتهم في المسير بين يدي ولي العهد في ذلك الحين،
3
فسار الموكب محاذيا الشاطئ الشرقي، وعلى الأمين السواد والقلنسوة حتى وصل الجسر السفلي، فقطعه وسار بعده على الشاطئ الغربي حتى أطل على دار القرار والناس يقفون له في الطرق ويحيونه ويدعون له بطول البقاء، ولا سيما العرب ومن يرى رأيهم في العصبية العربية، فيرد تحيتهم وهو مشرق الوجه بنضارة الشباب وعزة الملك.
وكانت زبيدة تنتظر مجيئه، وقد استبطأته مع علمها بطول المسافة بين قصرها وقصره، ولكن مدة الانتظار تطول على المنتظر وإن قصرت. وكانت قد أعدت له كل أسباب الراحة والأنس والترحاب؛ لشدة تعلقها به؛ لأنه وحيدها، وقد تركزت كل آمالها فيه، فأمرت جواريها ففرشن طرقات الحديقة بالأزهار والرياحين، وأعدت له مجلسا تضوعت فيه رائحة الطيب من المسك والعنبر في غرفة من قصرها سقفها قبة مصنوعة من خشب الصندل، ومكسوة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، وقد أسدلوا من جوانب القبة على جدران المجلس ستائر من الديباج طرزوا عليها بالقصب أبياتا من الشعر، أو حكما مأثورة، وعلقوها في مواضعها بكلاليب من الذهب، وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه رسوم أحد ملوك الفرس يصطاد السباع، توهم الناظر من إتقان صنعها أنه يرى منظرا حقيقيا، وعلى حواشي البساط أبيات من الشعر مطرزة بالذهب. وفي وسطه صورة طاووس ألوانه منسوجة بالحرير، وخيوط الذهب والفضة، وعيناه من ياقوت؛ مما يبهر النظر.
وكان في قصر زبيدة غرف عديدة لكل غرفة فرش خاص بشكل خاص، وفرش هذه الغرفة من الطراز المعروف بالأرمني في ذلك العصر من صنع أرمينية، وهو عشر مصليات بمخادعها ومساندها ومطارحها وبساطها، كما وصفناه . فمثل هذا الفرش لا يقوم بأقل من 5000 دينار،
4
غير البساط وغير ما يكسو القبة والنوافذ والجدران من الستائر والنقوش، وغير ما في جوانبها من المنائر المصنوعة من الذهب، وقد غرس فيها شمع العنبر وهو من أثمن ما يكون، ولم يستخدمه أحد قبلها إلى ذلك العهد.
الفصل الخامس والثلاثون
دار القرار والجواري المقدودات
وحينما وصل الأمين إلى الحديقة استقبله جماعة من الخدم الشاكرية أعانوه على النزول عن جواده، وقد تحول صاحب الحربة قبله ومشى بين يديه بالحربة حتى وصلا إلى موضع الأزهار، وقد فاحت روائحها وامتزجت بروائح الطيب، فتنحى صاحب الحربة ومشى الأمين وحده حتى وصل إلى باب القصر، فرأى والدته واقفة هناك في انتظاره، فلما دنا منها همت به فضمته إلى صدرها، وقبلته قبلة الوالدة المشتاقة، فقبل يدها فأحس ببضاضتها. وكانت زبيدة مشرقة الوجه بيضاءه، عليها وقار الهاشميين مع حلاوة وجمال، وكانت سوداء العينين كبيرتهما مع ذكاء وحدة، وقد استدار خداها وانبسطا من عيش الترف والرغد، وكان فمها صغيرا باسما يعلوه أنف فيه شمم، وذقن قليل البروز ليس بينه وبين الترقوة غور ولا ثنية، وقد استدار عنقها واشتد بياضه، وليس فيه بروز.
وكانت بضة طويلة القامة مع سمن قليل. إذا أسرعت في مشيتها ارتج كتفاها وفخذاها ارتجاج الدلال والرخاء. وقد تزملت برداء من الحرير أرجواني اللون يستر كل أثوابها، وتمنطقت فوقه بمنطقة مذهبة شدت طرفيها بعروة مرصعة بالجواهر. وقد أرسلت شعرها ضفيرة واحدة على كتفيها،
إلى نساء العامة، بل كانت مقصورة على بيت الخلفاء والأمراء، شأن ما يحدث في الأزياء في كل عصر؛ فإن الزي الجديد (المودة) تبدأ به عادة بعض الوجيهات فيقلدها أترابها، ثم يشيع بين العامة. والعصائب استنبطتها علية؛ أخت الرشيد؛ لتستر بها عيبا في جبينها، فاصطنعتها مرصعة بالجواهر، كما تقدم، فاستحسن الناس ذلك فقلدوه. أما زبيدة فكانت لفرط اعتزازها بمنزلتها عند الرشيد حسبا وجمالا وتعقلا تستنكف أن تقلد سواها، فاتخذت عصابة بسيطة لا جواهر بها؛ ترفعا عن التقليد. ولم تضع في عنقها عقدا، ولا في أصابعها خاتما، ولا في معصمها سوارا؛ تنزها عما يستطيع سواها تقليدها به. فلم يتمالك الأمين عند مشاهدة تلك العصابة عن الابتسام وقال: «أراك تقلدين عمتي علية. إن هذه العصائب جميلة يا أماه، لكنني لا أرى على عصابتك شيئا من الجواهر.»
فابتسمت وأشارت بسبابتها إلى قدميها، فنظر إلى قدميها فإذا هي قد رصعت خفيها بالجواهر، فأعجب بترفعها وبذخها. وهي أول من لبس الخفاف المرصعة.
وكان الأمين يمشي بجانب والدته لا يدري إلى أين تسير به، فقطعت الدهليز وبلغت إلى درجات صعدت عليها وهو يتبعها، حتى مرت من دهليز آخر إلى القاعة التي ذكرناها، فلم يبهره ما هنالك من الفراش الثمين، ولكنه دهش لشيء آخر لم يكن قد رآه من قبل. ذلك أنه لما أطل على القاعة تزايدت رائحة المسك، ورأى عند مدخلها صفين من الجواري الحسان على رءوسهن العمائم وقد سوين شعورهن على أشكال الطرر والأصداغ والأقفية، ولبسن الأقبية والقراطق والمناطق من الذهب والفضة؛ فبانت قدودهن وبرزت صدورهن على شكل غريب، وفي أيدي بعضهن جامات المسك،
الآخر قوارير الطيب، فلم يتمالك الأمين عند مشاهدة ذلك المنظر عن الدهشة والإعجاب، وأمه تتماسك عن الضحك، فالتفت إليها فضحكت، فقال: «ما هذه الملابس يا أماه؟ أراك قد جعلت هؤلاء الجواري غلمانا.»
فقالت: «فعلت ذلك تشبها بك يا ولداه؛ رأيتك اتخذت الغلمان وبالغت في تزيينهم كأنهم من الجواري الحسان، فاتخذت هؤلاء الجواري أقلد بهن الغلمان، كما ترى، وقد سميتهن الجواري المقدودات،
1
وسأبعث بهن هدية إليك.»
فسر الأمين بتلك الهدية. وكانا قد وصلا إلى مجلس معد لهما على سرير من الأبنوس في صدر القاعة محلى بالذهب، فجلست زبيدة فوقه على وسادة من الخز المزركش محشوة بريش النعام،
الأمين إلى جانبها وهي تنظر إليه ولا ترتوي من رؤيته، ثم أشارت إلى من كان هناك من الجواري والغلمان فانصرفوا.
الفصل السادس والثلاثون
المشورة والحيلة
فلما خلت به تغير وجهها من الابتسام والأنس إلى الهيبة والجلال، وبدت في عينيها السوداوين اللامعتين ملامح الذكاء وحدة الذهن والجد فقالت: «كيف قضيت نهارك أمس يا محمد؟»
قال: «قضيته كما تحبين يا سيدتي من الأنس والطرب.»
قالت: «وفي الليل؛ لماذا كنت مستترا في خلوة؟»
قال: «ومن قال لك ذلك؟»
قالت: «أخبرني به الشاكري الذي بعثته إليك. فما هي هذه الخلوة؟»
قال: «هي خلوة يحلو لك سماع خبرها، وقد كنت عازما على المجيء إليك لأطلعك على سر
وكانت متكئة على كتفه ويدها على خده تلاعب بأناملها شعرات في عذاره، وتنظر إليه نظر الحنان والعطف، فلما قال لها ذلك ابتسمت وقالت: «وعندي أيضا ما يهمك الاطلاع عليه، وأرجو أن تتخلص به من ذلك الفارسي.»
فعلم أنها تشير إلى جعفر البرمكي فبغت وقال: «وخبري أيضا يتعلق به - قبحه الله -
فأجفلت زبيدة، وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وظهرت الدهشة في عينيها وقالت: «هل علمت بخبر العباسة أيضا؟»
قال: «نعم، علمت به، وكدت أتميز من الغيظ، ولكن لا أظننا ننتفع بذلك عاجلا. أما خبر العلوي فهو أقرب للإفادة منه.»
فقالت: «وأي علوي تعني؟ وما خبره؟ إني لم أسمع بشيء من هذا القبيل.»
فاعتدل في مجلسه، وقص عليها ما سمعه مساء الأمس من الجارية حتى أتى
بسلطة فوضها الله إليه. إن أباك مع تعقله وحزمه قد استسلم لهذا الفارسي حتى أصبحت الخلافة له، ولم يبق لأبيك إلا اسمها، ولكن سوف يلقى الباغي عاقبة بغيه.»
فقال: «لا أنكر عليك أن والدي أطلق يد هذا الوزير في أمور الدولة، ولكن ألا تظنين ذلك لازما ليضمن سير الأعمال؟ وهل يستطيع أمير المؤمنين أن يتولى كل الأعمال بنفسه؟»
فقالت والجد ظاهر في عينيها: «إن إطلاق يده في شئون الدولة قد يكون له فيه عذر، ولكن ما عذره في إدخاله على حريمه بلا إذن ولا حرج؟ إن جدك المهدي - رحمه الله - مع استخدامه البرامكة وثقته بهم، لم يبلغ هذا الحد من إطلاق أيديهم، ولا عمك الهادي فعل شيئا من ذلك، ولا أظن أن أحدا يفعل ما فعله أبوك.» قالت ذلك وقد ظهر الغضب على وجهها فزادها هيبة.
قال: «وماذا تعنين يا أماه بدخوله على الحريم؟»
قالت: «أعني أن أباك - حفظه الله - أمن أن يدخل جعفر على دور النساء في السفر والحضر، وأبرز إليه جواريه وإخوته وبناته؛ لزعمه أن بينهما رضاعا يحلل ذلك، فهو يدخل إلى قصور نساء الخليفة وبناته وأخواته بلا حرج، فلا عجب إذا ظهر ما ظهر من جرأته.» وتنهدت وقد أخذ الغضب منها مأخذا عظيما. وكان في يدها جام فيه مسك تتشاغل بتفتيته في أثناء الحديث، فلما غلب عليها الغضب ارتعشت أناملها فوقع الجام من يدها وانتثر فتات المسك على البساط، فهم الأمين بالتقاطه وهو يقول: «وهل بلغ من إطلاق يده في دور النساء أن يدخل إلى قصرك ويراك؟» وقد بانت الغيرة في وجهه.
فصاحت: «كلا، وهل يجسر هذا المولى أن يرفع بصره إلي؟ إنه لم يطأ أرض قصري هذا ولا كلفته بحاجة يقضيها لي ولن أكلفه.»
1
وكان الأمين قد فرغ من التقاط المسك، فأعاده إلى الجام ودفعه إلى أمه وهو يقول: «وما الرأي الآن؟ إن هذا الرجل لا ينبغي أن نستر فعله وإلا ذهب الأمر من أيدينا، واكتسينا العار الذي لا يمحى لما ارتكبه هذا الخائن بعمتي.»
فقطعت كلامه وقالت: «إن أمر عمتك يا بني أكثر اللوم فيه على أبيك، كما قلت لك؛ لأنه أباح لوزيره الدخول إلى قصرها ومخاطبتها وقضاء حوائجها، وهو شاب حسن الخلقة، نظيف الثوب، طيب الرائحة، وهي لم تر رجلا غيره؛ ذلك جزاء من جمع بين النار والحطب، على أن هذا لا يبرئه من الخيانة.» وعادت إلى التشاغل بفتات المسك وهي تنظر إلى البساط تتفرس في الطاووس المنقوش في وسطه. والأمين قد انقبضت نفسه، وضاق صدره ؛ لأنه مع طول الحديث لم يصل إلى الغرض المطلوب، ولا تجاسر أن يفاتحها بطلب قتله أو الوشاية به، فلما ضاق ذرعا أطرق وبانت الحيرة في وجهه. ولاحظت أمه ذلك فأسرعت إلى تطييب خاطره قائلة: «أظنك تريد أن تعرف رأيي في هذا الرجل؟»
فلم يتمالك محمد أن صاح: «نعم، يا أماه، لقد ضاق صدري.»
فقالت: «وهل ترى أن نبلغ أباك خبر أخته العباسة؟»
قال: «لا أدري. وإنما أريد أن يقتل هذا الرجل والسلام.»
فضحكت وأدارت ذراعها حول عنقه وقبلته ودموع الحنان تكاد تتناثر من عينيها لولا عظم الأمر الذي أدخلت نفسها فيها، وقالت: «قد كنت عازمة على أن أطلعه على خبر أخته، ولكن مباغتة الرشيد بذلك لا تخلو من الخطر على الناقل، فيكفي الآن أن نبلغه خبر العلوي.» ثم خفضت صوتها ومدت يدها إلى جيبها فأخرجت بطاقة دفعتها إليه وهي تقول: «لا تظنني غافلة عن الانتقام لك من هذا المولى. إني لا أنسى تشديده عليك بالقسم على كتاب العهد بالكعبة في العام الماضي؛ فقد بلغ من قحته وسوء أدبه أن يستهين بك أمامي، وقد أعددت أبياتا من الشعر بمعنى ما نحن فيه، على أن أوصلها إلى أبيك سرا من حيث لا يعلم، فنكون قد أبلغناه بالخطر الذي يهدد الدولة من هذا الرجل، فإذا لم يفلح ذلك في تحذيره، عمدنا إلى ما هو أبلغ.»
فتناول الأمين البطاقة وقرأها فإذا فيها:
2
قل لأمين الله في أرضه
ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا
مثلك ما بينكما حد
وقد بنى الدار التي ما بنى ال
فرس لها مثلا ولا الهند
الدر والياقوت حصباؤها
وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث
ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد
فلما فرغ من قراءتها أحس بارتياح وقال: «أظنها تقتله لا محالة. وهل أنت عازمة على إيصالها؟ وكيف؟»
قالت: «لا يهمك ذلك؛ فإني أكلف واحدا من جواسيسنا هناك يلقيها عند مصلى أبيك، فإذا رآها قرأها، وأظنها تفي بالغرض المطلوب وإلا فالدواء الناجع عندي.» قالت ذلك ووقفت، فوقف الأمين وقد علم أنها تنوي الخروج من تلك القاعة، فمشيا معا وهي تقول له: «أظن أنك جائع وقد أعدت المائدة؛ فهلم بنا إليها.»
قال: «صدقت. إني جائع، وهل أعود بعد الطعام إلى قصري؟»
قالت: «إني مشتاقة إليك يا محمد. دعنا نقضي هذا اليوم معا.»
وذهبا إلى غرفة المائدة.
فلنتركهما يتناولان الطعام، ولنعد إلى ما كان من إسماعيل بن يحيى ومهمته إلى الرشيد.
الفصل السابع والثلاثون
قصر الخلد
تركنا إسماعيل بعد مفارقة جعفر في مساء الأمس وهو عازم على زيارة الرشيد في الغد؛ لمخاطبته في شأن ابن الهادي والعالية، فلما أصبح لبس سواده وقلنسوته وركب إلى قصر الخلد، وقضى مسافة الطريق وهو يفكر في الرشيد، ويهيئ الأسلوب الذي ينفذ منه إلى مخاطبته في أمر ابن عمه؛ لعلمه بقسوة الرشيد إذا غضب. وربما سبق إلى ذهنه سوء الظن، فتعود العائدة وبالا عليه، لكنه لم يطل على ذلك القصر حتى رأى الناس يسرعون في الأسواق نحو الشارع الأعظم المؤدي من القصر إلى الجسر، فأمر أحد الغلامين السائرين في ركابه أن يسأل عن سبب ذلك الهرج، فعاد وهو يقول: «إن أمير المؤمنين خارج إلى الشماسية لحضور حلبة السباق.» فتشاءم إسماعيل من هذا الاتفاق، وسبق إلى اعتقاده فشل مهمته؛ لأنه لم يوفق فيما كان يريده في ذلك الصباح، ولا هو يرجو أن يقابل الرشيد في المساء؛ لأن الشماسية في الجانب الشرقي من بغداد، والحلبة تستغرق كل النهار، فترجل وتنحى جانبا بحيث يرى موكب الخليفة ولا يعلم به أحد، فما لبث أن رأى الناس يسعون إلى الفرار. يدفع بعضهم بعضا كأنهم يساقون سوقا، ثم رأى خدما صغارا يركضون وفي أيديهم قسي البندق يرمون بها العامة الذين يعترضون الموكب في الطريق - وهم فرقة من الخدم يسمونهم النمل
1 - ومن ورائهم رجال مشاة على الأقدام عليهم شارة الدولة، وفي أيدي بعضهم السيوف المرهفة، وفي أيدي الآخرين الأعمدة، ووراءهم رجال في أيديهم القسي الموتورة،
2
وهم يمشون بوقار وسكون. ووافى الخليفة بعدهم على جواد مخضب بالحناء عليه سرج مذهب وقد تغطى سائر الجواد بالديباج المخوص بالذهب، والرشيد جالس فوقه وعلى رأسه قلنسوة طويلة ليس حولها عمامة؛ لأن الخلفاء كانوا إذا لبسوا القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رءوسها؛ حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة،
3
فكيف إذا ركب وهم مشاة، ورأى سواده مسترسلا حتى غطى جانبا من ظهر الجواد.
وكان الرشيد يومئذ في الحادية والأربعين من عمره، وقد أشرق وجهه بياضا، وأبرقت عيناه ذكاء، وكانتا كبيرتين، ولحيته خفيفة كستنائية اللون، وشاربه مستطيل دقيق، وفي فمه ابتسامة، وفي يده اليمنى قضيب من الأبنوس طرفه مصنوع من الذهب. وكان الجواد يمشي الهوينى، ويتبختر في مشيته كأنه يعرف من فوقه، ووراء الخليفة صاحب المظلة يحمل مظلة من ريش النعام مجنبة على عصاها لتظلل الخليفة من الشمس، ووراءهما فرسان من الخاصة والقواد وكبار الكتاب، إلا جعفرا الوزير، فإنه لم يكن معهم. ويلي ذلك أفراس الحلبة عليها سروج خفيفة، وسياس يقودونها بالأرسان، وبينها فرس عليه رئيس السياس وهو تركي له مهارة في تربية الخيل. وأخيرا فرقة أخرى من الخدم الصغار يردون الناس عن الموكب من الوراء.
وظل إسماعيل واقفا ينظر إلى ذلك الموكب نظر الفيلسوف المفكر، وهو يعجب لغرور الإنسان واهتمامه بالمظاهر الزائفة أكثر من الحقائق الدامغة. ونظر فيمن يحف بالرشيد من الخاصة والقواد والهاشميين وهو يعلم ما في نفوسهم؛ ومنهم من يكره الرشيد حتى يتمنى له الموت، ومنهم من يحبه ويتفانى في خدمته، والمرجع العام في ذلك كله إلى حب الذات، ثم فكر في نفسه
وأسف لإخفاقه في مهمته في ذلك الصباح، فركب وعاد إلى منزله متألما، على أن يعود في صباح الغد لاستئناف ما كان يسعى إليه.
وبادر في صباح اليوم التالي فركب كالأمس وغلاماه في ركابه وعليه السواد والقلنسوة، وما زال حتى أقبل على قصر الخلد.
وللقصر أربعة أسوار الواحد داخل الآخر، فلا يستطيع أحد الوصول إلى مجلس الخليفة إلا بعد المرور في أربعة أبواب،
4
وعند كل منها حرس من الشاكرية وقفوا بالأسلحة، فدخل الباب الأول وهو راكب، فوقف الحرس إكراما له ولم يعترضوه؛ لعلمهم أنه من كبار بني هاشم، فضلا عن منزلته عند الرشيد، ودخل الباب الثاني فالثالث والحرس يقومون له ويحيونه، حتى إذا وصل إلى الباب الرابع تناول الفرس أحد الغلامين ومشى إسماعيل في طريق واسع يؤدي إلى دار العامة، وغلمان القصر يسيرون بين يديه وهو يمشي الهوينى في جلال ووقار، حتى أقبل على تلك الدار؛ وهي التي يجلس فيها الخليفة للعامة، وبجانبها غرف يقف فيها الشعراء والأدباء والندماء، أو يجلسون ريثما يؤذن لهم، أو يطلب الرشيد أحدهم، فعلم إسماعيل من جلبتهم وغوغائهم وخلو المكان من الحرس (الشاكرية) أن الرشيد ليس هناك، فاستغرب ذلك وأحب أن يسأل عنه، فإذا بمسرور؛ خادم الرشيد، يعدو نحوه مسرعا وسيفه يخبط على جانب فخذه لشدة سرعته، فلما رآه إسماعيل لم ينشرح صدره له؛ لعلمه بفظاظته وقسوته - وهو فرغاني الأصل - وأكب مسرور على يد إسماعيل ليقبلها، فاجتذبها منه
فقال: «هو في دار الخاصة يا مولاي.»
قال: «وكيف ذلك واليوم موعد جلوسه في دار العامة؟»
فقال: «كان عازما على الجلوس فيها، فجاءه وفد من ملك الهند، فأحب أن يجلس لهم في دار الخاصة؛ لأن ذلك أقرب للرهبة والعظمة.»
الفصل الثامن والثلاثون
وفد ملك الهند
فتحول إسماعيل نحو تلك الدار، وقبل الوصول إليها رأى صفين من جند الخليفة الأتراك وقد وقفوا بانتظام، ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم غير حدقات عيونهم، فقال لمسرور: «ما بال هؤلاء؟ وما الذي بعث على وقوفهم بالحديد كأنهم في ساحة الحرب؟»
قال: «لما علم أمير المؤمنين بمجيء الوفد من ملك الهند أحب أن يوقع الرعب في قلوبهم؛ ليبلغوا ملكهم بما شاهدوه من قوة الإسلام، فأمر بوقوف هؤلاء كما ترى.»
1
فانبسطت نفس إسماعيل لما لمسه من رغبة الرشيد في أبهة الدولة، ولكنه ما لبث أن تذكر ما يخشاه عليها من الدسائس فانقبض صدره، على أنه تماسك ومشى نحو الدار بين الصفين، حتى دنا من بابها وكان مرتفعا يصعد إليه على درجات عريضة من الرخام الأبيض يتخللها قطع من البلاط الأخضر، والشاكرية وقوف إلى الجانبين وفي أيديهم السيوف، فدخل مسرور أمامه ليخبر صاحب الإذن (الحاجب) بحضوره؛ ليستأذن له في الدخول.
فصعد إسماعيل في أثره وهو يتباطأ في مشيته ريثما يؤذن له، فما لبث أن جاء يدعوه للدخول، فمشى في دهليز عريض مبلط ببلاط أحمر مشدود بعضه إلى بعض بقضبان الذهب، والآذن يسير بين يديه، فرأى في آخر الدهليز ثلاثة كلاب هائلة المنظر كبيرة الأبدان كأنها أسود، وقد أوثقت من أعناقها بسلاسل من الحديد، وأمسك السلاسل ثلاثة رجال عرف من منظرهم وألوانهم أنهم من أهل الهند، وهم مكشوفو الرءوس، فاشتغل خاطره بتلك الكلاب، وتهيب من توقد أبصارها وضخامة أبدانها.
ولكنه تجلد وهو يمر بالأروقة والدهاليز، والخدم يقفون له حتى انتهى إلى دار قوراء مفروشة بالبسط الثمينة، فوقها جلود النمور والسباع، وفي جوانبها قضب المناور عليها الشموع الملونة، فوقف إسماعيل هناك وهو يتشاغل بقراءة ما نقش على الجدران من أبيات الشعر أو الحكم؛ لعله يحتاج إلى إذن ثان على جاري العادة في الداخلين على الخليفة، فرأى الآذن قد عاد وهو يشير إليه أن يتقدم؛ لأن مثله لا يحتاج إلى إذن ثان.
فتقدم نحو باب عليه ستارة من الديباج المخوص بالذهب فتحه الآذن بيده اليسرى، وأشار إلى إسماعيل باليمنى أن يدخل، فدخل إلى إيوان كبير طوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين، قائم على أساطين من الرخام، وعلى جدرانه صور مما في البر والبحر نقشت بالذهب والفضة، تتخللها أبيات من الشعر، وحكم مكتوبة بماء الذهب، وفي أرضه بساط من الديباج الأصفر كأن صانعه قلد به القطيف بساط كسرى، عليه نقوش بألوان زاهية بينها خيوط القصب تمثل أشجارا وأنهارا وطيورا وأسماكا، توهم الناظر أنه في حديقة يانعة الثمار جرت فيها الجداول، وتغنت فيها الأطيار. وعلى حواشي البساط وشي جميل. وسقف الإيوان قبة عظيمة الاتساع، مبنية على ثلاثة عقود،
ورأى إسماعيل الكراسي المنصوبة خارج الستارة لجلوس بني هاشم، وليس عليها أحد منهم، ويسمى الهاشميون في اصطلاح تلك الأيام أبناء الملوك أو الأشراف.
2
وأما الوسائد المطروحة أمام الكراسي لجلوس الخاصة من الأمراء والقواد، فرأى على بعضها أناسا من الهنود عليهم القبعات المزركشة، وملابسهم من نسيج الهند، عليها صور ملونة تمثل بعض الحيوانات الكبرى، ولا سيما الفيل، وفي أعناقهم عقود من الجواهر الثمينة بينها تعاويذ من الذهب تمثل بعض أصنامهم، وقد جلسوا خاشعين متهيبين ينتظرون أمر الخليفة، وبين أيديهم على البساط سيوف من صنع بلادهم يقال لها السيوف القلعية، فعلم أنهم الوفد القادم من ملك الهند، وأن أصحاب الكلاب في الدهليز تابعون لهم.
فأشار صاحب الستارة إلى إسماعيل أن يدخل إذا شاء، أو يجلس على أحد الكراسي، ريثما يفرغ الرشيد من هؤلاء الهنود. وكان إسماعيل قد سمع الرشيد يتنحنح، فعلم أنه جالس هناك على سريره وراء الستارة، ففضل الجلوس هناك حتى يفرغ من هؤلاء، وهو يخشى أن يحولوا بينه وبين ما يريد من مخاطبة الرشيد، ثم سمع الرشيد يخاطبهم من وراء الستار بواسطة الترجمان، وهو صاحب الستارة؛ لأنهم كانوا يختارون أصحاب الستارة من الناطقين باللغات في مثل هذه الأحوال، فقال الرشيد لرئيس الوفد: «ما الذي أتيتمونا به؟»
قالوا: «هذه سيوف قلعية لا نظير لها عندنا.»
فدعا الرشيد بالصمصامة؛ وهي سيف عمرو بن معدي كرب، وأمر أحد رجاله الأتراك فقطع بها تلك السيوف واحدا واحدا، وأمر أن يريهم ذلك السيف فرأوه، فإذا هو لا فل فيه، فأسقط في أيديهم ونكسوا رءوسهم، ثم قال: «وما عندكم غير هذا؟»
قالوا: «أتينا بكلاب لا يلقاها سبع إلا عقرته.»
فلما سمع إسماعيل قولهم زاد تهيبا من رؤيتها، ثم سمع الرشيد وهو يقول: «إن عندنا سبعا، فإن عقرته كلابكم فهي كما ذكرتم. أخرجوها إلى السباع في أقفاصها، وأمروا السباع أن يخرج السبع عليها ونحن ننظر إلى ما يدور بينها من الروشن.»
فخرج صاحب الستارة وأشار إلى الهنود، فنهضوا ومشوا حتى مروا بالكلاب في الدهليز فساقوها معهم، وسار بعض الغلمان بهم إلى خارج الدار وقد سبق أحدهم إلى السباع فأمره بإخراج أسد عظيم فأخرجه، وجاءوا به إلى ساحة أطلق فيها الكلاب القلعية، ورأى إسماعيل الأسد يخطر ويزأر، مما يؤكد أنه سيمزق الكلاب إربا إربا، فإذا هي قد مزقته، ورأى الرشيد ذلك من الروشن فأرسل إلى الوفد أن يعودوا إلى الإيوان كما كانوا، فعادوا وعاد إسماعيل وهو يستغرب مما رآه من الكلاب، فلما عادوا قال الرشيد للوفد: «من أين لكم هذه الكلاب؟ ومن أي جنس هي؟»
قالوا: «هي كلاب سيورية تعيش في بلادنا لا شبيه لها في العالم.»
فقال: «هذه أحب أن أحفظها. فتمنوا مقابل هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا.»
قالوا: «لا نتمنى سوى السيف الذي قطعت به سيوفنا.»
فقال لهم: «لا يجوز في ديننا أن نهدي إليكم السلاح، ولولا ذلك ما بخلنا به عليكم، ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم.»
قالوا: «لا نتمنى سواه.»
فقال: «لا سبيل إليه.» ثم أمر لهم بتحف كثيرة، وأحسن جائزتهم، وانصرفوا
3
وفي نفوسهم رهبة من هيبة الخلافة.
الفصل التاسع والثلاثون
مجلس الرشيد
أما إسماعيل، فإنه انتظر حتى فرغ الخليفة من ذلك الوفد فعاد إلى التفكير فيما جاء من أجله، وأحب أن يخاطبه على انفراد قبل أن يأتي أحد من بني هاشم أو سواهم فيحول بينه وبين ما يريد. وهو يرى الإسراع في مهمته قبل ذهاب الفرصة، فلما ذهب الوفد عاد صاحب الستارة ودعاه للدخول على الرشيد؛ إذ لا حجاب عليه، وقال: «لما علم مولانا أمير المؤمنين بمجيئك أمرني أن أدخلك عليه.»
قال: «وأحب ألا تدخل علينا أحدا ريثما أفرغ من حديثي معه.»
فوسع له الستارة ما بين شطريها، فأطل إسماعيل على الرشيد، فرآه جالسا على سرير من الذهب الإبريز مرصع بالجواهر
1
فوق سدة في صدر المجلس منصوبة بين أسطوانتين من أساطين الإيوان ، مجللتين بالوشي المنسوج بالذهب، وقد وقف عند كل منهما وصفاء في أيديهم المذبات أو المناديل، ووراء السدة من الجانبين شاكريان بيد كل منهما سيف مسلول. والسدة عبارة عن مظلة قائمة على عمد من الأبنوس المطعم بالعاج، سقفها من الديباج الأسود المزركش بالذهب برسوم جميلة، وفي حاشيته من الأمام والجانبين أهلة من الذهب مدلاة في كل هلال منها أترجة ذهب مسبك، يتدلى من كل أترجة درر كبار بينها الياقوت الأحمر والأصفر والأزرق على نظام بديع يبهر النظر. والرشيد جالس على السرير في السدة تحت المظلة، وعليه ثياب يلبسها عند استقبال قادم من كبار الملوك أو نوابهم، إذا أراد إرهابهم بعز الإسلام، وجلال الدولة، وأبهة الخلافة. وقد لبسها في ذلك اليوم لاستقبال الوفد الهندي، فكان على رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة سوداء من الخز الموشى، وبين ثناياها عقود من الجوهر بشكل مسبحات تملأ الأخلية بين تعاريج العمامة، وفي مقدمتها فوق الجبهة شبه طرة من الذهب المرصع بالجوهر والياقوت والزمرد يبرز منها كعرف الطاووس من أسلاك الذهب، وقد نظمت بها لآلئ بينها ثلاث كبيض الحمام عند قاعدة العرف. وكان على الرشيد جبة سوداء فوقها بردة النبي
صلى الله عليه وسلم . فهل يسع المقبل على تلك السدة غير التهيب؟ أما إسماعيل فكان قد تعود ذلك، وهو عاقل حكيم لا تأخذه المظاهر المبهرجة، وكان مع ذلك في شاغل من إعمال الفكرة في حال الخلافة وما يخشاه عليها من التدهور، وهو يعلم شدة انفعال الرشيد وتسرعه إذا غضب.
فلما أطل من بين شطري الستارة قال بأعلى صوته: «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
فتحرك الرشيد كأنه يتحفز للقيام إجلالا لإسماعيل، وابتسم له وهو يقول: «وعليك السلام يا عماه. مرحبا بك.»
فدخل وأسرع في خطواته ليمنع الخليفة من الوقوف له. أما الرشيد فنهض من مقعده قليلا، ومد يده وصافح إسماعيل وقال: «لقد أتيت أهلا يا عماه. أمثلك يستأذن في الدخول؟!»
ثم أومأ إلى الوصفاء فقدموا له مقعدا وضعوه بجانب السرير، وأشار الرشيد إليه بالجلوس وهو يبتسم ترحابا واستئناسا. فجلس وأثنى على ما قوبل به من الرعاية والحفاوة، ودعا للرشيد. ولبث ساكتا على عادة من يجالس الخلفاء، فإنهم لا يبدءون الخليفة بكلام، فاستحسن الرشيد تأدبه مع علمه بكبر نفسه ودالته، فقال: «لقد أتيتنا لخبر إن شاء الله؛ فإنك منقطع عنا منذ أيام، ولا تأتينا إلا لنصيحة أو مهمة، ونحن كل يوم نرجو لقاءك.»
قال: «إني يا أمير المؤمنين أقيم في البصرة، وقلما آتي بغداد، ولو علمت لدخولي على الخليفة نفعا لقضيت سحابة عمري بين يديه. وأما الآن فقد أتيت ألتمس منه فضلا، بالإضافة إلى عطاياه المتوالية، ونعمه السابغة.»
قال: «قل ما شئت فإنك صاحب الأمر معنا.»
فأكبر إسماعيل تلك المجاملة وأحنى رأسه امتنانا ويداه ملمومتان في حجره، وقال: «إن الأمر لمولاي، جعله الله له وحده لا ينازعه فيه أحد، وهو ينعم بما يشاء من فضله، فإذا سمح مولاي بكلمة؛ فإني أستأذنه في الخلوة.»
فأومأ الرشيد فخرج الوصفاء والشاكريان، وأقبل هو بكليته على إسماعيل، وقد أبرقت عيناه اهتماما وتفرسا؛ لعلمه أن إسماعيل لا يطلب الخلوة إلا لأمر ذي بال.
فنظر إسماعيل إلى الرشيد وقال: «هل أتكلم؟»
قال: «تكلم. اطلب ما تشاء.»
فقال: «لا يخفى على مولاي أن جعفر ابن أخي الهادي من خيرة بني أعمامنا.»
فلما سمع الرشيد اسم جعفر أوجس خيفة مما قد يتلوه من اقتراحات لا يروق له تنفيذها، ولكنه أظهر اللطف وقال: «نعم، إنه ابن أخي، فهل هو في حاجة إلى عطاء؟»
فقال: «كلا يا مولاي؛ لأن نعم أمير المؤمنين تتوالى عليه كما تتوالى على سائر بني هاشم، ولكنه يود الزيادة في شرفه.»
فأدرك الرشيد بفراسته أن إسماعيل إنما جاء خاطبا، فتجاهل وقال: «إن قرابة الرسول أعظم أسباب الشرف له ولنا.»
فقال: «نعم، هو كذلك، ولكنه يحب التقرب من عمه أمير المؤمنين وخليفة سيد المرسلين.»
فلم يبق عند الرشيد شك في أنه جاء يخطب ابنته لجعفر، فابتدره قائلا: «كل ما تقترحه يا عماه ينفذ إلا خطبة العالية.»
فاستغرب إسماعيل تلك المفاجأة وقال: «وأنا لم آت لأطلب سواها، فإذا كان ذلك ممتنعا، فالأمر لأمير المؤمنين، ونحن مطيعون لإرادته ندعو له بطول البقاء، على أن ما خولتنيه من الدالة يشجعني على سؤال أرجو ألا يثقل على مولاي.»
فقال: «قل؛ فإن لك رعاية وحقا.»
قال: «لعل أمير المؤمنين لا يرى ابن أخيه كفؤا لمولاتنا العالية! فمن يا ترى أكثر كفاءة لها من ابن عمها أخي أبيها، حفيد الملك النبيل والشيخ الجليل - يقصد المنصور؟»
فقال الرشيد وهو يعبث بقضيب الخلافة بين أنامله: «أما الكفاءة فلا ينازعه أحد فيها، كما ذكرت، ولكن سبق السيف العزل؛ فإن العالية مخطوبة.»
فاستبعد إسماعيل أن تخطب بنت الخليفة ولا يعلم هو بخطبتها، وظن أن الرشيد يقول ذلك ليبرر رفضه، فقال: «العالية مخطوبة؟ إني لا أعلم بذلك، ولو علمت به ما أقدمت على طلبها، ولم أكن أظن أن أحدا يمكن أن يظفر بذلك غير ابن عمها!»
فتحرك الرشيد في مجلسه ونظر إلى البساط وقال وهو يحاول إخفاء ما كاد يظهر على وجهه من الانفعال: «نعم، لكن وزيرنا جعفرا طلبها لإبراهيم بن عبد الملك بن صالح؛ ابن عمنا، فلم نرد طلبه.»
فلما سمع إسماعيل قوله أطرق وتشاغل ببلع ريقه وقد عظم عليه فشله، ولكن غضبه من
إلى هذا الحد كان أعظم عليه من ذلك الفشل، على أنه تماسك مخافة أن يظهر غضبه فيؤدي إلى النقمة عليه، وظل مطرقا والرشيد ينظر إليه ويراقب ما يبدو منه وهو يود الاكتفاء بما تقدم. فلما طال سكوت إسماعيل قال الرشيد: «إنه يؤسفني أن أرد طلبك لولا ما قلت لك من إتمام الخطبة، وأنت تعلم أن الرجوع عن ذلك لا يليق؛ فاطلب لابن أخينا منة أخرى.»
الفصل الأربعون
الفشل
فرفع إسماعيل بصره واغتنم رغبة الرشيد في التعويض عن رفضه لطلبه وقال: «صدق مولاي، إن الرجوع عن الوعد لا يليق بمقامه، وأنا أعلم ذلك؛ لثقل ما أقاسيه من رجوعي بخفي حنين بعد أن وعدت ابن أخي بهذا الشرف، وقد تسرعت في وعدي، ولكنني لم أفعل ذلك إلا رغبة في صيانة الدولة؛ لما يعلمه مولاي من غيرتي على سلامتها.»
فأدرك الرشيد ما يعرض به من الرغبة في إرضاء ابن أخيه الهادي ليشغله عن طلب الخلافة أو الوقوف في سبيلها. وقد تعود الرشيد أن يسمع من إسماعيل ما هو أكثر صراحة من ذلك مما لا يتجرأ سواه على بعضه، ومع ذلك فإن هذا التعريض أثار غضبه؛ لأن الخلفاء العباسيين لم يكونوا يغضبون لشيء مثل غضبهم لما يشتم من رائحة التعرض للملك ولو تلميحا، ولكنه تمالك وكظم
وأرباب الرأي السديد، وهم قليلون. وأما ابن أخي، فإنه من لحمي ودمي، وأحب له ما يرضيه، فهل من شيء تطلبه له غير خطبة العالية؟»
فقال: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين. إني أراه يبالغ في مجاملتي، ولكن يسرني أن يعلم الغاية التي أقصدها، فأرجو منه أن يسند إلى ابن أخيه عملا يشغله. ونظرا لقرابته من الخليفة، فأطلب له ولاية مصر أو خراسان.»
فوجم الرشيد عند سماعه ذلك، وبدت البغتة في عينيه، وهز رأسه استغرابا لذلك الاتفاق وقال: «وهذا لا سبيل إليه يا عماه؛ فإني وعدت وزيري في صباح الأمس بولاية مصر لإبراهيم المذكور، وأما خراسان فقد وعدته بها لنفسه منذ أيام، وقد كتمت ذلك ولم أخبر به أحدا، ولولا أنك إسماعيل ما صرحت لك به.»
فضاق إسماعيل ذرعا من توالي الفشل على هذه الصورة، وعاد إلى الإطراق وإعمال الفكرة، ولم ير بدا من التصريح بغرضه من تلك الاقتراحات، فعاد إلى ما فطر عليه من حرية القول ونسي موقفه وما يعلمه من سوء العاقبة إذا غضب الرشيد فقال: «فليأذن لي أمير المؤمنين في أن أبوح له بما في ضميري، فأخاطبه باعتبار أنه هارون بن محمد وأنا ابن عمه إسماعيل بن يحيى.» وتنحنح واعتدل في جلسته والرشيد يتجلد لسماع قوله، وهو يكاد يتلقفه بعينيه من شدة التفرس.
فقال: «أنت تعلم غيرتي على سلامة هذه الدولة، وشدة محافظتي على بقاء هذا الخاتم بيد
به، ولكن المصلحة وحسن السياسة يقضيان علينا بتلافي أسباب الفتن؛ لئلا يرى أعداؤنا ضعفا فينا فيغتالوننا، وهم كثيرون؛ يكفي منهم الروم في القسطنطينية، والأمويون في الأندلس. وأنا أؤمن بعجزهم عن الفوز، ولكن الحكمة تستدعي التكاتف وجمع الكلمة. وهذا سهل على الرشيد إذا استخدم ذكاءه ودهاءه، فيشغل أهل المطامع من أهله بخدمة دولته بدلا من أن يتفرغوا لإقلاق راحته.»
فبادر الرشيد إلى قطع كلامه خوفا من استرساله في الحديث حتى يصرح بأكثر من ذلك، فيغلب الغضب عليه ولا يقوى على التماسك فقال: «قد كان بودنا أن نولي ابن أخينا مصر، لولا ما قدمته من الوعد بها لإبراهيم. فهل ترى لي حيلة أخرى؟»
فأسرع إسماعيل بالجواب قائلا وقد غلبت عليه الأنفة والاستقلال بالرأي: «لي حيلة واحدة.»
قال: «وما هي؟»
فقال وكفاه على ركبتيه كأنه يتحفز للقيام: «تبايع له بالخلافة بعد محمد وعبد الله (الأمين والمأمون). افعل ذلك ولو على سبيل الرضاء.»
فلما سمع الرشيد قوله ألقى القضيب من يده على السرير ونهض بغتة، ونزل إلى البساط
انحرفت البردة عن كتفيه وكادت تسقط، وقد نسي موقفه ومنزلة إسماعيل عنده، ثم أصلح البردة وجعل يخطر في الإيوان. فنهض إسماعيل وقد أدرك أن بقاءه هناك أصبح خطرا ولا فائدة منه، وأجل التصريح بما في نفسه لفرصة أخرى، فتراجع من موقفه وقد رأى بنهوض الخليفة مسوغا لخروجه من حضرته؛ لأن ذلك من علامات الإذن بالانصراف عند الخلفاء، ولكنه لم يشأ الخروج على تلك الصورة لئلا يسيء الرشيد الظن به فقال: «أظن أن أمير المؤمنين قد ندم على ما سمح لي من إطلاق لساني بين يديه، وأظنني قد تطاولت في الدالة عليه إلى أبعد مما ينبغي فتدخلت فيما لا يعنيني، فأعتذر له عن جسارتي.»
وكان الرشيد قد وقف وتشاغل بقراءة بيتين من الشعر منقوشين على حائط الإيوان، فلما سمع قوله تحول إليه وتكلف ابتسامة لم تخف غضبه وقال: «إن إسماعيل عندنا في المقام الذي تعلمه، وله فضل النصح والمشورة على الدولة، فلا يزعجك ما رأيته من وقوفي فجأة. وإذا غضبت فإن غضبي لك لا منك، وكيف أغضب من شيخ بني هاشم وحكيم بني العباس؟ ولكن ساءني
فأدرك إسماعيل من خلال قوله ما كان يحاول إخفاءه من الغضب، وما يتكلفه من التلطف في الجواب، فقال: «أشكر لمولاي تفضله وحسن قصده، والظاهر أن سوء طالع ذلك الرجل قد أوجب هذا الاتفاق؛ إذ لكل وقت طالع، وكأن طالع هذه الساعة لا يوافق حظه. فهل يأذن مولاي بانصرافي الآن، ونؤجل ذلك إلى ساعة خير من هذه؟»
فسر الرشيد لطلبه الانصراف في تلك الحال وقال: «لا بأس من انصرافك يا عماه.»
فرجع إسماعيل وهو منحن يمشي القهقرى بين يديه على جاري العادة في الخروج من
حتى وصل إلى الستارة، وخرج والرشيد واقف ينظر إليه، وقد احتدم في نفسه من الغضب ما أقلقه وحبب إليه الخلوة بنفسه.
الفصل الحادي والأربعون
عبد الملك بن صالح
أما إسماعيل فخرج توا إلى جواده، وقد ندم على مجيئه، فركب ومشى الغلامان في ركابه، وهما غافلان عما يتقد في قلبه من الغضب، وما يتردد في ذهنه من الأسف على حال تلك الدولة بما يعلمه من تضارب الأحزاب، واختلاف الأغراض، فوصل إلى قصره والشمس قد تكبدت السماء، فوجد ابن الهادي في انتظاره، واستفهم منه عما جرى، فقص عليه بعض الخبر وأبلغه عذر الرشيد في امتناعه عن زواجه بالعالية، وبالغ في الاعتذار عنه لئلا يثير غضبه، ولم يخبره بطلب ولاية مصر، ولا ولاية العهد إلى أن قال: «وإني آسف لما اتفق لي من الفشل، والرشيد أكثر أسفا مني على ذلك، ولكن لا حيلة لنا في الواقع، فاصبر وكن عاقلا، وسنغتنم وقتا غير هذا للتحدث في هذا الأمر، فإن الرشيد حسن الظن بك.»
فلم يخف على جعفر غرض إسماعيل من تلطيف الخبر، ولكنه سايره وقال : «إني مذعن لأمرك، ولكن هل تعلم السبب الذي بعث على خطبة العالية لإبراهيم؟»
قال: «كلا، ولكن للوزير دالة على الخليفة، ولعبد الملك دالة على الوزير، فيبدو أنه طلب منه أن يتوسط له بخطبتها عند أمير المؤمنين، وهو ابن عمها وكفء لها، فأجاب طلبه.»
قال: «لو كان الأمر كذلك لهان، ولكنني أقص عليك السبب ليثبت لديك ما قلته عن استخفاف هؤلاء الموالي بالخليفة وأهله. أخبرني جاسوس لي عند جعفر في صباح هذا اليوم أن هذا الوزير كان في مجلس أنس خلا فيه بندمائه، فلبس الحرير وتضمخ بالطيب، وكذلك فعل سائر جلسائه، وأمر حاجبه أن يحجب عنه الجميع إلا عبد الملك بن بحران؛ قهرمانه، فسمع الحاجب لفظ عبد الملك ولم يسمع لفظ ابن بحران. وكان عبد الملك بن صالح ابن عمنا يترقب فرصة يخاطب فيها الوزير في بعض حاجاته، فلما سمع بذلك المجلس قدم إلى داره، فجاء الحاجب وقال لجعفر: إن عبد الملك بالباب، فظنه ابن بحران، فأمر بإدخاله، فدخل وهو في سواده وقلنسوته فرأى القوم في ملابس المنادمة. ولما رآه جعفر اربد وجهه، وأنت تعلم أن عبد الملك لا يشرب النبيذ، فلما رأى تلك الحال خلع السواد والقلنسوة وطلب ثياب المنادمة، ودخل وسلم وقال: «أشركونا في أمركم، وافعلوا بنا مثلما تفعلون بأنفسكم.» فجاء الخادم وألبسه ثياب المنادمة، وأحضر الطعام فأكل، وبنبيذ فأتوه برطل فشربه، ثم قال لجعفر: «والله ما شربته قبل اليوم.» فزاده جعفر من النبيذ، وأتوه بالطيب فتضمخ، ونادم القوم أحسن منادمة فذهب عن جعفر خجله. فلما أراد عبد الملك الانصراف قال له جعفر: «أذكر حاجاتك؛ فإني لا أستطيع أن أكافئك على ما كان منك.» فقال: «إن في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه، وتعيد إلي جميل رأيه في.» فقال: «قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك.» فقال: «وعلي أربعة آلاف درهم دينا.» قال: «تقضي عنك، وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك، وأدل على أحسن ما عنده لك .» قال: «وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بنسب ينتمي إلى الخلافة.» قال: «قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته.» قال: «وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه.» قال: «وقد ولاه أمير المؤمنين مصر.»
1
فانظر إلى هذه الجرأة التي ليس أغرب منها إلا رضاء الرشيد بها! وقد فعل جعفر ذلك مكافأة على شرب النبيذ، ونحن نلوم ابن عمنا الأمين مع صغر سنه على شربه، ونعده خليعا. وهذه هي الخلاعة، ولا يخفى عليك إضرارها بالملك. ومع ذلك، فإن الرشيد أطاع جعفرا ولم يفكر فيما يترتب على ذلك من ضعف الملك.»
وكان إسماعيل يسمع كلام ابن الهادي وهو يكاد يتميز غيظا، ولكنه اختصر في الجواب وأظهر الاستخفاف بالقصة وقال: «هكذا أبلغك الجاسوس، ولا يخلو قوله من مغالاة، ومع ذلك فليس هذا بالأمر الهام، وإنني أرجو أن تكتم ما دار بيننا وتصبر لنرى ماذا يكون.»
فسكت جعفر عن احترام لا عن اقتناع، فقال إسماعيل: «فاذهب إلى البصرة وسألحق بك بعد يومين.»
فقال: «سمعا وطاعة.» فودعه وأظهر أنه يتأهب للسفر، وانشغل إسماعيل عنه، فاختفى يوما ثم أتى إلى الفضل بن الربيع في منزله. وكان الفضل لا يزال يفكر في أسلوب يبلغ الرشيد به خبر العلوي. وقد عاد محمد الأمين وأخبره بحديث والدته أم جعفر، وما دار بينها وبينه من خبر العلوي، وما في نفسها على البرامكة. ولم يكن الفضل يجهل ذلك، فلما جاءه ابن الهادي رحب به فأخبره بما سمعه عن أمر عبد الملك بن صالح وزواج العالية، وما يدل عليه ذلك من ضعف الخليفة واستبداد البرامكة، وحرضه على إبلاغ خبر العلوي إلى الرشيد.
فقال له الفضل: «قد أعددت كل شيء.»
قال: «وهل اخترت من يقوم بذلك؟»
فقال: «ليس لنا إلا أبو العتاهية، فإنك تشتريه بالمال وله دالة على الخليفة.»
قال وقد تذكر أمرا قد نسيه: «وهل عاد من اقتصاص أثر الطفلين؟»
فقال: «عاد وقد قبض عليهما وحبسهما في مكان أمين لوقت الحاجة.»
فأبرقت أسارير جعفر وقال: «لقد قتل البرمكي لا محالة. والآن دبر ما تراه لإبلاغ الخبر إلى الرشيد ، فإني منصرف من بغداد؛ لأن عمي إسماعيل ألح علي في الانصراف، وأنا واثق أنك كفء لإنجاز العمل.»
قال: «كن مطمئنا.»
فودعه ورجع وهو يتوهم أنه أغرى الفضل واستخدمه في مصلحته، والفضل يعتقد أنه استخدم ابن الهادي لغرضه؛ لأنه إذا سقط البرامكة عادت الوزارة إليه، ولم يخف عليه ما في نفس ابن الهادي على الرشيد، وأنه إنما يسعى في مصلحة نفسه لإرجاع الخلافة إليه؛ ولذلك كان يوهمه أنه يسعى في مساعدته على نيل الخلافة، على حين أنه كان يعمل على إرجاع الوزارة له، ولا يهمه أكانت وزارته للرشيد أو لسواه، فكانت النيات مختلفة، والدسائس متنوعة، والمساعي متضاربة، ولكن الغرض متفق فيها كلها؛ وهو إسقاط البرامكة بأية وسيلة كانت. وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه.
الفصل الثاني والأربعون
المناجاة
فلندع الفضل في مساعيه، ولنعد إلى الرشيد، فقد تركناه في الإيوان وحده، فلما خلا بنفسه ساءه خروج إسماعيل على تلك الصورة مع رفعة مقامه، وجلال قدره، فأخذ يفكر فيما دار بينهما، ويردد ما قاله له، فلم يجد في إمكانه أن يفعل غير ما فعله، فجعل يخطر في الإيوان جيئة وذهابا، وقد ذهب عنه الغضب وتراكمت عليه الهواجس، فتذكر حاله مع وزيره، وما بلغ إليه من نفوذ الكلمة عنده، حتى أصبح أكثر وجاهة ونفوذا من أبناء عمه، ثم عاد إلى صوابه، فرأى أنه مضطر لذلك ببواعث كثيرة؛ لأن الوزير قابض على مصالح الدولة يدير شئونها، ويتصرف في أعمالها بحكمة ودراية، وقد أراحه من مشاغلها، وخفف عنه أثقالها، فضلا عما بينهما من روابط الولاء والمحبة، وما لأبيه يحيى من الفضل عليه، وهو الذي أقامه على منصة الخلافة بحسن تدبيره. ثم اعترض حسن ظنه به ما يعلمه من ميله إلى الشيعة العلوية، وما يراه من كثرة الطاعنين عليه، ولكنه كان يحمل طعنهم عليه محمل الحسد منه.
وبينما هو يمشي في الغرفة ويفكر على هذه الصورة إذ لاحت منه التفاتة إلى السرير، فرأى القضيب الذي كان قد وضعه هناك، فتقدم ليتناوله ويتشاغل به في أثناء هواجسه ، فوقع نظره على بطاقة وراء الوسادة فالتقطها وفضها وقرأها، فإذا فيها الأبيات التي قرأتها أم جعفر زوجته على ابنها محمد، وقد تقدم ذكرها. فلما بلغ إلى قوله:
ونحن نخشى أنه وارث
ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد
توارد الدم إلى رأسه وحمي غضبه، فأعاد النظر إلى البطاقة فقرأها ثانية وهو يعمل الفكرة، وقد نسي البحث عن سبب وضعها هناك لعظم ما كان من تأثيرها على ذهنه، فعاد إلى التفكير في جعفر، وما بلغ إليه من الثروة والاستبداد حتى يزوج بنات الخليفة، ويولي الأمصار لمن يشاء، ويهب الأموال بلا مشورة؛ لا يخشى بأسا، ولا يخاف اعتراضا، فقال في نفسه: «لقد آن لك يا هارون أن تستيقظ من نومك، وتنظر في أمر هذا المولى وما بلغ من تطاوله، فإنه لا يلبث أن يمد يده إلى أعظم من ذلك، والعياذ بالله!» ثم وثب من موقفه والقضيب مشهر بيده كأنه يهاجم عدوا وهو يقول:
إن سهامنا إذا وقعت
بقدر ما تعلو بها رتبه
وإذا بدت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه
1
ثم تراجع ونظر حوله، فرأى ما هو فيه من النعيم والأبهة، وتصور أنه إذا مات أفضى الأمر إلى جعفر؛ لأنه لا يجهل ضعف ابنه الأمين، ويعرف قوة المأمون؛ وهو ابنه أيضا، ولكن يميل إلى الفرس؛ لأنه ربي في حجر جعفر، وشب على حب الشيعة، فإذا أفضى إليه الأمر وجعفر حي خرجت الخلافة من بني العباس، فندم على تسليم المأمون إلى جعفر، وإهمال الأمر الذي كان ينبغي أن ينظر فيه قبل كل شيء؛ وهو بقاء الدولة لبني العباس، ثم تذكر كيف حرضه جعفر على المبايعة للمأمون، ولم يكف عنه حتى أطاعه، فتوهم أن ذلك إنما فعله لينقل الخلافة إلى الشيعة بعد ذهابها من يد الأمين، فصر على أسنانه ندما، ثم عض أنملته وهز رأسه وقال:
لقد بان وجه الرأي لي غير أنني
عدلت عن الأمر الذي كان أحزما
فكيف يرد الدر في الضرع بعدما
توزع حتى صار نهبا مقسما؟
أخاف التواء الأمر بعد استوائه
وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما
وعاد فرجع إلى رشده وأعمل فكرته في حقيقة الواقع، فغلب عليه الخوف من جعفر لما يعلمه من كثرة مريديه وأنصاره، وفيهم جماعة كبيرة من خيرة رجال الدولة، حتى بني هاشم ممن غمرهم بعطاياه، وأسرهم بأفضاله، فكانت هذه الهواجس تتردد في مخيلته وهو يمشي في الإيوان، ويداه وراء ظهره. واتفق وهو في ذلك أن وقف أمام الستار، فقرأ عليه بيتين مطرزين بالقصب هذا نصهما:
وإياك والأمر الذي إن توسعت
موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه
وليس له من سائر الناس عاذر
فلما قرأهما أمسك نفسه وعاد إلى صوابه، ونظر إلى البطاقة التي في يده وقال: «لعل الذي كتب هذه الأبيات من حساد جعفر، وهم كثيرون، وإني على أي حال صابر له أترقب الفرصة للاطلاع على الحقيقة.»
الفصل الثالث والأربعون
باب الرشيد
قضى في تلك الخواطر وأمثالها حينا وهو يقف تارة، ويمشي أخرى، وعليه تلك الملابس الفخمة، وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «إن الشعراء والندماء بباب العامة منذ الصباح؛ لأنه يوم الجلوس لهم. فهل يأمر أمير المؤمنين ببقائهم أو بصرفهم؟»
فلما سمع الرشيد قوله انتبه لنفسه كأنه هب من النوم، وتحير في أمره؛ لأنه في حال لا يروق له معها مجالسة الندماء والشعراء، وإنما يفضل الخلوة، ولكنه استنكف أن يشعر أحد بقلقه إذا صرف الشعراء فقال: «من بالباب من هؤلاء؟»
قال: «هم كثيرون، وفيهم المقيمون في بغداد من أهل الرواتب المعينة والأرزاق الجارية، وفيهم الوافدون للاستجداء من أطراف البلاد.»
فقال: «أما الوافدون فنأذن لهم في وقت آخر. اصرفهم الآن، وقل لصاحب بيت المال أن يسخو لهم في العطاء ويطيب خواطرهم. ومن بالباب من أهل الرواتب؟»
فقال: «فيهم من العلماء: الأصمعي، والكسائي، وأبو عبيدة.» فقطع كلامه وأشار إليه بيده ولسان حاله يقول: «دعني من العلماء واذكر غيرهم.»
فقال: «أما الشعراء فمنهم الحسن بن هانئ (أبو نواس)، وأبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة، وأما ...»
فأشرق وجه الرشيد عند سماع اسم مروان؛ لأنه كان يستطيب شعره؛ لما فيه من الطعن على العلويين، ولكنه لم يجد في نفسه ميلا لسماع الشعر أو الأدب، وأدرك أنه لا يجلو ما في خاطره غير الغناء، فقال: «دع هؤلاء الشعراء الثلاثة فقط يدخلون إلى قاعة الشراب في هذا القصر، وأخبرني هل ببابنا أحد من الندماء والمغنين؟»
فقال: «أما المغنون فرأيت منهم بعض أصحاب مولانا إبراهيم بن المهدي؛ أخي أمير المؤمنين، الذين هم على طريقته في الغناء؛ كابن جامع، وابن نابه، وابن أبي العوراء، ويحيى الملكي، ورأيت بعض أصحاب إسحاق الموصلي المعجبين بطريقتها، وسمعتهم يتقارعون في أي الطريقتين أفضل.»
فقطع الرشيد كلامه وقال: «دعنا من هذه الطبقات؛ فإني لا أرى الاجتماع للمناظرة في طرق الغناء اليوم؛ فادع برصوما الزامر، وأبا زكار الربابائي الأعمى، وحسينا الخليع. وأما الغناء فأحب سماعه من قيان القصر.» ثم أطرق وقال: «ولكن ذلك لا يحلو إلا بوجود إبراهيم الموصلي. ادع لي مسرورا الخادم.»
فأشار مطيعا وخرج، ثم أتى مسرور بسيفه وفظاظته وحيا، فقال له الرشيد: «إلي بإبراهيم المغني على عجل.»
فظل مسرور واقفا، فعلم الرشيد أنه يريد أن يتكلم، فقال: «ما بالك لا تذهب؟»
قال: «لا أدري أين أجد إبراهيم الآن، وأمير المؤمنين قد أذن له أن يختلي بأهله يوما في الأسبوع لا يطلبه فيه. وهذا هو اليوم.»
فقال: «أحضره حيثما كان ولا تراجعني.»
فلم يسعه إلا الطاعة فخرج. وصفق الرشيد فجاءه أحد الغلمان فقال: «إلي بصاحب الملبس.» وهو الذي يلبس الخليفة ثيابه، فأتى، فقال له: «إني عازم على مجلس منادمة فألبسني ثيابها.» فخرج ثم عاد ومعه عدة وصفاء يحملون تلك الثياب؛ وهي غلالة وشي منسوجة بالذهب، وعمامة صغيرة موشاة، وإزار رشيدي عريض العلم مضرج. تلك كانت ملابسه الصيفية في مثل هذا المجلس. وجاء غلمان آخرون في أيديهم المباخر فيها العود والند، وفي أيدي آخرين جامات الطيب. فبدأ صاحب الملابس بنزع ما على العمامة من الحلي حتى حل العمامة وأخذ البردة والجبة، ثم ألبسه الغلالة وعممه وناوله الإزار فاتشح به. فلما فرغ من لبسه خرج من باب في الإيوان يؤدي إلى دار النساء، وما زال ينتقل من رواق إلى آخر، ومن دار إلى أخرى حتى دخل دارا مفروشة الصحن بالرخام، والحيطان موشاة بالوشي المنسوج بالذهب، ومنها إلى قاعة أرضها وحيطانها مرصعة بالوشي المذكور. وقد نصبوا له هناك سريرا من الصندل، وأرخوا في منتصف الغرفة ستارة من ذلك الوشي المطرز، عليها نقوش جميلة. وحول أرض الغرفة الوسائد من الوشي المطرز وليس عليها أحد؛ لأن الشعراء يجلسون في القسم الآخر من الغرفة وبينه وبينهم الستار.
فلما جلس هناك ووقف الغلمان بين يديه تذكر أنه جائع، ولم يتناول الطعام منذ الصباح، فأمر صاحب الطعام بأن يأتيه ببعض الأطعمة المستعجلة، فنصبوا له سماطا وأتوه أولا بالمرق من السكباج تنشيطا لجسمه، ثم جاءوا بالبقول المطبوخ، ثم الدجاج فالشواء من الحمام أو الدراج، فأنواع السمك وبعض ما يطبخ بالتوابل من اللحم والبقول، ثم قدموا له رقاقا من السنبوسج المحشية باللحم والدهن، عليها التوابل من الفلفل والزنجبيل، ثم الحلوى من الفالوذج واللوزينج. وأخيرا النقل للتعلل بعد الطعام. وكان يأكل وخاطره قلق حتى إذا فرغ من الطعام سمع عودا يضرب ضربا مطربا على نغم لم يسمعه من قبل.
فأصاخ بسمعه فأطربه ذلك الصوت، وعلم أنه آت من الرواق وبينه وبين ذلك المكان ستارا، فشعر بذهاب الانقباض عن صدره شيئا فشيئا، وهو يعجب لذلك النغم الغريب. وقد أدرك من نعومته أنه صوت جارية فصاح: «من يغنينا في الرواق؟ جزاه الله خيرا»
فسمع الجواب من وراء الستار: «هي قرنفلة وصوتها مثل رائحتها.» فعلم الرشيد أن الذي يخاطبه حسين الخليع، فصاح فيه: «قبحك الله. وأي قرنفلة؟»
فقال: «هي جارية أرسلها مولانا ولي العهد هدية لأمير المؤمنين في هذا الصباح. غني يا قرنفلة. إن الخليفة طرب لصوتك، فيا لسعادتك! ويا ليتني كنت مكانك فيغنيني ذلك عن اللطم والصفع على الأقل!»
فلما سمع الخليفة مجونه ضحك، وضحك سائر السامعين إلا حسينا المذكور، فإنه استأنف الكلام قائلا: «هذا هو حظي بقربي من الخلفاء ؛ أنا أبكي وهم يضحكون، فعسى أن يسعدني الحظ وأصير قرنفلة أو وردة يشمني الناس ويسمعون صوتي، أو يرفقون بجلدي، ولكنني أخاف - لإدبار سعدي -
بي، وأصير أنا إلى ظلمة الأحشاء، وبئس الظلمة. غني يا قرنفلة غني. أطلب من الله أن يبقيني على ما أنا عليه، وقد قيل: نحس تعرفه ولا سعد تتعرف به.»
فأغرق الرشيد في الضحك، ولم يبق أحد هناك إلا قهقه، ثم سكتوا جميعا ينتظرون ما يبدو من الرشيد. ولم يكن عنده أحد من الندماء أو الخاصة الذين يجالسونه بلا حجاب، فلم يكن يرى وجهه في ذلك المجلس إلا الغلمان والوصيفات الواقفات في خدمته أو الترويح له. وسكت الرشيد لحظة وهو يغالب هاجسا مما كان فيه ذلك الصباح، ثم قال: «قد علمت أن هذه القينة جديدة عندنا منذ سمعت ضربها وغناءها مع كثرة من في هذا القصر من القيان. قبح الله إبراهيم الموصلي. أين هو؟»
فقال الحاجب: «قد ذهب مسرور في أثره ولم يأت بعد.»
فقال: «انصبوا الستارة لهذه المغنية، وضموا إليها أحسن من في قصرنا من القيان ممن أتقن الصناعة على يد إبراهيم، وأحضروا الشراب.»
الفصل الرابع والأربعون
مجلس المنادمة
فسر السامعون بتلك الأوامر لما سيشنف آذانهم من معجزات الطرب. وكان في قصر الرشيد ثلاثمائة قينة، فيهن العوادة والجنكية والمزهرية والطنبورية وغيرها
1
من المتقنات للضرب على آلات الطرب، وإن تفاوتن في المنزلة لديه بتفاوت الجمال ودقة الصنعة، غير ألفي جارية لا يحسن الغناء؛ وهن السراري. فأسرع الغلمان لتدبير ذلك. وكان المنوط بالسراري والقيان مسرور الخادم، وهو غائب، فناب عنه قيم الجواري. ثم جاء صاحب الشراب بمائدة الشراب وما تحتاج إليه من الأباريق والأقداح من البلور والذهب والفضة، وعليها النقوش على نحو ما وصفناه في مصطبة الأمين. وأما الأشربة التي تعاطوها في ذلك المجلس فأنواع: الأنبذة المصنوعة من عصير العنب ومنقوع التمر أو التفاح أو المشمش، أو غيرها من الفاكهة اللذيذة، وأشربة من محلول العسل أو الدبس أو غيرهما. فلما انتظمت القيان للغناء دار الساقي بأباريق الشراب على الرشيد، فشرب قليلا وهو محجوب عن القيان بستارة، وعن الشعراء بستارة أخرى، ومع القيان برصوما وأبو زكار. وكان كلما غنت إحداهن صوتا عرفها وطرب لها وناداها باسمها، ثم صاح بالحاجب فأتى، فقال له: «قل للحسن بن هانئ أن ينشد ما عنده.»
فبلغه أمر الرشيد فقال أبياتا كان قد هيأها فأنشدها إنشادا على عادة الشعراء في مجالس الخلفاء، فطرب الرشيد وصاح: «وأنت يا ابن أبي حفصة؟»
فقال: «لبيك يا أمير المؤمنين.» وأخذ ينشد قصيدة نظمها في مدح الرشيد ضمنها التعريض بالعلويين، ذكرته بما كاد ينساه من هواجسه فصاح فيه: «دع عنك هذا الآن. قل لأبي العتاهية هل هو باق على الزهد في الشعر؟»
فأجاب أبو العتاهية: «إن ما نسمعه يا أمير المؤمنين من أسباب الطرب يرمي الزهد بالمنجنيق.»
فاستلطف الرشيد تعبيره وضحك وهو يقول: «هذا هو الشعر بعينه؛ فقل بيتا أو بيتين.»
قال: «سمعا وطاعة، وسأتلو ما يحضرني بعد قليل؛ لأني تركت النظم من زمن طويل.»
وبينما هم في ذلك إذ دخل مسرور، فلما رآه صاح فيه: «ويلك! أين إبراهيم؟»
قال: «هو بالباب يا مولاي. لقد أتيت به من أقاصي الأرض.»
قال: «أدخله إلي ليكون قريبا من هؤلاء القيان يعلمهن أو يساعدهن.»
فدخل إبراهيم وسلم فأمر له الرشيد بالجلوس وقال له: «نظننا قد أزعجناك لدعوتنا إياك على غير انتظار، ولكننا آثرنا لذتنا على راحتك؛ فاعذرنا.»
فخجل إبراهيم لهذه المجاملة وقال: «نحن عبيد أمير المؤمنين، وإذا دعانا إلى خدمته فقد شرفنا ورفع منزلتنا.»
فقطع الرشيد كلامه وقال: «اسمع الغناء الجديد.» والتفت إلى صاحبة ستارة القيان وقال: «إن إبراهيم؛ أستاذ المغنين، يحب سماع ذلك الغناء الجديد.»
فصاحت الجارية: «غني يا قرنفلة.»
فلما سمع الموصلي اسمها ابتسم وقال: «قرنفلة هنا. إن هذه المغنية نادرة في رخامة الصوت وإتقان الصنعة، وطالما كنت أتمنى دخولها في جملة قيان القصر، وهي من جملة الجواري البيض اللواتي تعلمن الغناء على يدي، ومن أكثرهن براعة وإتقانا.»
قال الرشيد: «إن ولدنا محمدا أهداها إلينا في هذا اليوم، ولم أر وجهها بعد.»
قال: «ووجهها جميل يا مولاي!»
فصاح حسين الخليع من وراء الستار: «نحمد الله لأن أستاذها علمها الغناء فقط ولم يعلمها الجمال.»
فضحك الرشيد وأمر الساقي فصب له قدحا، ولإبراهيم قدحا، وقال: «إن حسينا خفيف الروح. اشرب هذا القدح يا إبراهيم.»
فصاح حسين الخليع من الداخل: «جزى الله أمير المؤمنين خيرا؛ لأنه أنصف بيني وبين مغنيه، فأعطاني خفة الروح وأعطاه القدح؛ كأن خفاف الروح لا يشربون لئلا يزدادوا خفة فيطيروا.»
فضحك الرشيد وقال لإبراهيم بصوت منخفض: «قبحه الله. رمى حجرا فأصاب اثنين؛ فقد جعلني من الثقلاء وهو لا يدري.»
فسمع الخليع قوله فاستدرك خطأه وقال: «أستميح عذر أمير المؤمنين؛ فإن منع الشراب عني قد أسكرني فخلطت ورميت القول جزافا، ولكن صاحب الحاجة يعرف حاجته؛ ولذلك فلا أظن كلامي قد تجاوز إبراهيم خطوة واحدة.»
فضحك إبراهيم وقال: «كن مطمئنا يا حسين؛ فإني قد حبسته عندي، فاكفف عني.»
الفصل الخامس والأربعون
تغير الحال
ثم قال الرشيد: «نسمع يا قرنفلة.»
فأخذت تضرب على العود وحدها وتغني، والرشيد يبالغ في استحسان صوتها حتى حسدتها رفيقاتها، وفيهن من كانت لها حظوة كبرى عند الرشيد، فسمع الخليفة لغطا وراء الستار أعقبه ضحك، فقال: «وعلى أي شيء يضحكن؟»
قالت صاحبة الستارة: «ضياء - إحدى القيان - تقول إن أمير المؤمنين معجب بقرنفلة
إلا صوتا أو صوتين تعودتهما، فإذا أمر أحد الشعراء بنظم بيتين تغنيهما ارتجالا اتضحت الحقيقة.»
فصاح الرشيد: «أحسنت، أحسنت. هات يا أبا العتاهية بيتا أو بيتين مما نظمته الآن.»
قال: «لبيك يا أمير المؤمنين. هل أقول وعلي الأمان مما ربما كان؟»
فاستغربوا سؤاله، ولا سيما الرشيد، ولكنه ظن أنه يقول ذلك من قبيل المجون خوفا من القيان، فقال: «عليك الأمان.»
قال: «وتجيزني يا أمير المؤمنين غير إجازة سائر الشعراء؛ لأني لم أقل الشعر من زمن بعيد؟»
فازداد الرشيد استغرابا لهذه الشروط، ولكنه ما زال يحسبه مازحا فقال: «ونجيزك.»
قال: «وتسمح لي أن أرى وجهك على حدة؟»
فضجر الرشيد من كثرة الشروط، ولكنه تحمله وقال: «ولك ذلك أيضا. قل!»
فقال: «لا تعجب يا مولاي من دالتي وجرأتي؛ فقد قيل:
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد»
فلما سمع الحضور هذا البيت ظنوه يشير إلى جرأته في شروطه على الخليفة بما لم يسبق له مثيل، وأما الرشيد فحالما سمع قوله تذكر أنه قرأه منذ ساعة في تلك البطاقة، فانقبضت نفسه، وأدرك أن أبا العتاهية لم يقدم على ذلك إلا وفي نفسه شيء يريد أن يفضي به إليه، وخاصة بعد أن اشترط أن يرى وجهه - كناية عن مقابلته - فتغير الرشيد ونسي ما كان فيه من الطرب، وأصبح همه الاطلاع على سر تلك البطاقة، فنهض للحال ونهض الحضور معه ولم يفهموا شيئا مما في خاطره؛ لأنهم كانوا لا يعلمون شيئا من أمر تلك القصيدة. ثم صفق فجاء مسرور، فأسر إليه أن يجيز الشعراء والقيان، وأن يأتيه بأبي العتاهية وحده. وأحس الموصلي بوجوب الانصراف فاستأذن في الخروج، وخرج سائر من كان في المجلس.
وتحولت تلك الضوضاء إلى سكوت ووقار. أما مسرور فعاد ومعه أبو العتاهية وقد قبض على عنقه؛ لاعتقاده أنه السبب الوحيد في انقلاب سرورهم إلى كدر، ولم يكن يشك في أن الرشيد سيأمر بقطع رأسه.
أما أبو العتاهية فإنه أقدم على ذلك الخطر طمعا في مبلغ كبير من المال وعده به الفضل بن الربيع، ومع جبنه وضعفه فقد غلب الطمع عليه حتى حمله على تلك المخاطرة فدبر هذه الوسيلة، وكان مطلعا على تلك القصيدة. ولا يبعد أن يكون هو ناظمها لأم جعفر. وقد علم أن أم جعفر بعثت بها باكرا، وأنها وضعت على سرير الخليفة في دار الخاصة، ولا بد من أن يكون الرشيد قد رآها وقرأها، فالإشارة إلى بيت منها تبعثه على طلب المزيد، فإذا استزاده قص عليه خبر إطلاق العلوي، على أنه لم يشعر بمقدار الخطر الذي عرض نفسه له، إلا حينما رأى انقلاب ذلك المجلس من الغناء والضوضاء إلى الانقباض والسكوت، فخفق قلبه وخاف على حياته، وخاصة بعد أن قبض مسرور على عنقه وجاء به إلى ما بين يدي الرشيد، فإنه دخل تلك الغرفة وقد انحرفت عمامته، وتشوشت لحيته، وارتعدت يداه، واصطكت ركبتاه، حتى لم يعد يستطيع الوقوف. فحالما وقع نظره على الرشيد ترامى على قدميه، وأخذ في تقبيلهما، وغلب عليه البكاء، فتحقق مسرور عند ذلك أنه مذنب ولا يلبث أن يسمع أمر الخليفة بقتله، فوقف ويداه على قبضة الحسام، وعيناه على شفتي الرشيد.
أما الرشيد فلما رأى ما استولى على أبي العتاهية من الرعب، وما أظهره من التذلل والاستعطاف، بعد أن أعطي الأمان، أشفق عليه وقال: «لا بأس عليك يا أبا العتاهية. إنك شاعرنا، ونحن نكرم الشعراء. قم ولا تخف.»
فلما سمع تلك العبارة وقف وهو مطرق لا يرفع بصره عن الأرض، والرعدة لا تزال ظاهرة في ركبتيه ويديه، وظل ساكتا خائفا حتى سمع الرشيد يأمر مسرورا بالخروج، فرمقه بطرف عينيه، فلما تحقق من خروجه اطمأن خاطره ورفع بصره إلى الرشيد بخشوع.
الفصل السادس والأربعون
السر
فاتكأ الرشيد على السرير وأومأ إليه أن يجلس، فجلس جاثيا على البساط والدموع لا تزال في عينيه، فقال له: «لا تخف يا أبا العتاهية، إنك في أمان.»
فأجاب بصوت مختنق: «هل أنا آمن يا أمير المؤمنين؟»
قال: «أنت آمن إذا صدقتني.»
قال: «آمن منك ومن وزيرك؟»
قال: «لا تكثر من الأسئلة؛ إذا أمنك أمير المؤمنين فلا خوف عليك.»
فتنفس الصعداء حتى هدأ روعه ثم قال: «وسيعلم مولاي أني إنما ركبت هذا المركب الخشن في سبيل خدمته.»
قال وقد مل الانتظار: «قل لي من أين عرفت هذا الشعر، ومن الذي أطلعك عليه؟»
فقال: «لم يطلعني عليه أحد.»
قال: «وكيف عرفته؟ لعله من نظمك؟»
فقال: «نعم.»
قال: «وما الذي حملك على نظمه؟»
فقال: «حملني على ذلك أمر عرفته، وعلمت أن ليس بين رجال بطانتك من يجرؤ على أن
فلجأت إلى هذه الحيلة في إبلاغه إليك؛ فأرجو ألا أكون قد أسأت إلى نفسي وإلى أهلي.»
قال: «لا بأس عليك، وما هو ذلك الأمر؟ وما صلة وزيرنا به؟»
فقال: «إنه يتعلق به وحده يا سيدي، وسأقصه عليك، فإذا تحققت من وقوعه؛ فأنا آمن، وإلا فدمي مسفوك.»
قال: «اقصص الخبر ولا تخف.»
فقص عليه حكاية العلوي ونجاته على يد جعفر إلى آخر الحديث.
وكان أبو العتاهية يتكلم وصوته يرتجف ويتقطع، والرشيد مصغ بكل جوارحه وجأشه رابط. فلما أتى على آخر حديثه سأله: «هل أنت واثق من صدق هذه الرواية؟»
فقال: «لو لم أكن واثقا، بل لو لم أكن على يقين من الأمر ما عرضت حياتي لهذا الخطر العظيم.»
فتذكر الرشيد علاقة جعفر به، ورفعة مقامه عنده، فأكبر أن يدخل ذلك الشاعر بينهما، ورأى أن من الحزم والحكمة أن يغالطه فاغتصب ضحكة وقال: «لا ريب عندي أنك أقدمت على كشف هذا الأمر غيرة منك على مصلحة الدولة؛ ولذلك فأنت أهل للشكر والجائزة، ولكنك كلفت نفسك عناء عظيما بلا طائل؛ لأن وزيرنا لم يأت بهذا العمل من نفسه، فهو لم يطلق ذلك العلوي إلا بإشارتي، بعد أن تحققت أنه لا بأس من إطلاقه.»
فلما سمع أبو العتاهية ذلك أسقط في يده وتولاه الخجل، ولكنه اطمأن باله على حياته وقد ربح المال الذي وعده الفضل به، على أنه ظل خائفا من جعفر إذا بلغه خبر هذه الوشاية، فقال: «أحمد الله على أن ذلك لم يحدث إلا برأي أمير المؤمنين، وقد اطمأن بالي على حياة الوزير، ولكنني أصبحت أخشى على حياتي منه إذا بلغه أني نقلت هذا الخبر، فيحسبني من أعدائه.»
فقطع الرشيد كلامه قائلا: «لا تخف؛ فإني سأكتم ذلك عنه. كن مطمئنا.» قال ذلك ونهض، فنهض أبو العتاهية وقد هدأ روعه. أما الرشيد فقد انحبس غضبه حتى ضاق صدره عنه وكاد يصرعه. فعل ذلك رغبة في إخفاء ما في نفسه عن أعداء جعفر. ولم يخف عليه أن أبا العتاهية لم يأت من عند نفسه، وأن الفضل هو الذي أرسله، ولكنه اكتفى بما سمعه وصفق، فجاء مسرور مسرعا كالبرق الخاطف، فقال له الرشيد: «خذ أبا العتاهية، ومر صاحب بيت مالنا أن يعطيه ألف دينار، وأطلق سبيله.»
فقال: «سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين.» وأمسك أبا العتاهية بيده وخرج به.
فلما خلا الرشيد إلى نفسه هاج بلباله وعادت إليه وساوسه، فتذكر ما دار بينه وبين إسماعيل في ذلك الصباح، وكيف رده خائبا رغم قرابته، وجلالة قدره، رعاية لحق جعفر. وكيف تبدر منه هذه البادرة، فيطلق أسيرا عهد به إليه، فثبت عنده ما كان يتهمه به من الميل إلى العلويين والرغبة فيهم عن العباسيين، فلما تصور ذلك هاج غضبه، ونسي موقفه، وجعل يمشي ذهابا وإيابا على غير هدى، ويخاطب نفسه قائلا: «هل أنا في حلم؟ أيرتكب جعفر هذه الخيانة وقد أحببته وأكرمته، ورفعت قدره، وسلمت إليه مقاليد الأحكام، وأطلقت يديه في شئون الدولة؟ وهل يعقل أن يكون ما سمعته وشاية من الحساد؟ لا يعقل ذلك. ولكن كيف أتصور أن يغدر بي جعفر ويطلق عدوا سلمته إليه، مع ما يعلمه من بغضي للعلويين؟ بل كيف يفعل ذلك ولا يخاف على حياته؟ وهذا أيضا لا يعقل، إلا أن يكون الرجل مصابا في عقله؛ لأنه يعلم بطش هارون إذا غضب.»
الفصل السابع والأربعون
مداعبة السباع
قضى ساعة في هذه المناجاة وهو لا يستقر في موقفه، وأخيرا هدأ من غضبه وأخذ يعمل فكرته فيما يجلو عنه هذه الشكوك، فرأى أن يسأل جعفرا نفسه عن حقيقة هذا الخبر، فإذا كان صحيحا بادر إلى الانتقام، فأمسك غضبه وتجلد. وكان الرشيد مع سرعة غضبه وشدة بطشه قوي الإرادة، له قدرة عجيبة على الكظم وكتمان ما في نفسه، فصفق فجاءه مسرور فقال له: «قد حدث ما يستدعي حضور الوزير إلى هنا؛ فادع لي صاحب الطعام، واذهب أنت إلى الوزير؛ فادعه إلي.»
فسأله: «ماذا أقول له؟»
فأجاب: «قل له إن أمير المؤمنين أحب أن تتناول معه العشاء في هذا المساء، ولا تقل غير ذلك.»
فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج.
وكانت الشمس قد قاربت المغيب، فلما جاء صاحب الطعام قال له: «أعد مائدة أتناول عليها العشاء مع الوزير، ولتكن فاخرة.»
فأشار مطيعا وخرج. ومكث الرشيد وحده، فعادت إليه أفكاره وقد تعب منها، فأحب أن يلهو إلى أن يأتي جعفر، فخطر له أن يخرج إلى حديقة القصر يمتع فيها نظره، فأمر برداء تزمل به، وجاء غلام ألبسه النعال وسواها بقدميه، فخرج الرشيد إلى الحديقة ومشي بين الأشجار والرياحين إلى حيث لا يعلم.
فما لبث أن وجد نفسه بجانب أقفاص السباع، وكان بينها أسد قد تعود الرشيد أن يلهو بمداعبته وهو داخل القفص، فلما وقع نظره عليه شعر بشيء لفت انتباهه؛ وهو ارتياح طبيعي في الإنسان إذا رأى الأسد أو غيره من السباع في قفص. ولعل سببه الإعجاب بقوتها، والدهشة من منظرها، غير ما يجيش في النفس من حب التمثل بها. ومنظر السباع يهيج ثورة النفس في الإنسان، فكيف إذا كان ثائرا؟ فوقف الرشيد عند القفص وأمر حارس السباع أن يرمي للأسد طعامه، فأتي بخروف كان قد ذبحه وقطعه قطعا صغيرة، فرمى له قطعة منها، فوثب الأسد عليها والتقمها دفعة واحدة؛ لأنها صغيرة، ووقف ينتظر أخرى، فنهى الرشيد الحارس أن يرمي إليه شيئا، فراح الأسد يزأر ويمشي في القفص ذهابا وإيابا وذيله كالقوس فوق ظهره، ينظر إلى الحارس بعينين يكاد الشرر يتطاير منهما، والحارس يريه اللحم عن بعد. فلما استبطأ الطعام أقبل يضرب قضبان القفص الحديد برأسه تارة، وبمخالبه تارة أخرى. يحدق في قطعة اللحم وهي في يد الحارس، ويزأر ويكشر عن أنيابه، والحارس يضحك، والرشيد يشارك الأسد في الغضب، وقد ازداد عبوسا، وازدادت أساريره انقباضا، حتى كاد يفتك بالحارس عنه، وكأنه تصور نفسه شريكا له في ذلك الغضب؛ لأن حاله مع جعفر مثل حال الأسد مع حارسه.
ولكن الوحوش ليس لها ما يمنعها من إظهار إحساسها، فتغضب وتقلق وهي في أقفاصها. أما الرجل العاقل فيتحكم في غضبه ويمسك نفسه عن الفتك بفريسته وهي بين يديه، كما كان الحال مع وزيره في ذلك اليوم، فرأى نفسه أسدا عاقلا، فإذا لم يستطع إمساك نفسه كان حيوانا أعجم.
كان الرشيد يفكر في ذلك، والحارس ينتظر أمره ليرمي قطعة اللحم للأسد حتى زأر الأسد زأرة نبهت الرشيد، فأشار إلى الحارس، فرمى له قطعة اللحم فانقض عليها، وعاد إلى الزئير حتى رمى القطعة الثالثة والرابعة، وهكذا حتى شبع، فربض ووضع رأسه بين ساعديه ولم يتحرك، ولكن عيناه ما زالتا تبرقان والحنق ظاهر فيهما.
قضى الرشيد ساعة يلهو بذلك المنظر حتى سرى عنه، وزاد تمكنا من اعتقاده في أن رابط الجأش من الناس إذا كان ذا سلطان وأمسك غضبه كان أسدا عاقلا، وأراد أن يكون هو ذلك الأسد في تلك الليلة.
فلما غابت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف فوق قصور بغداد وبساتينها، رجع الرشيد إلى قصره وهو يسير بين الأشجار بثوبه الموشى، وعمامته المزركشة، والغلمان يتباعدون عنه احتراما له، وقد لاحظوا غضبه وعرف بعضهم سببه، والرشيد يحسب أن سره لا يعرفه أحد. وبينما هو في ذلك إذ سمع دبدبة وصهيلا، وصلصلة وضوضاء بباب القصر، فعلم أنه موكب جعفر، فتجاهل وظل ماشيا حتى إذا دنا من باب الخاصة لقيه مسرور فأخبره بأن الوزير ينتظره في تلك الدار.
فقال له: «ادعه لموافاتي إلى القاعة التي كنا فيها في أصيل هذا اليوم.»
ومشى الرشيد حتى دخل القاعة وقد أضيئت فيها الشموع على مصابيح من الذهب، وفاحت روائح البخور والطيب، فتربع على السرير. ولم تمض برهة حتى أقبل الحاجب يخبره بمجيء جعفر، فقال له: «فليدخل. ليس على الوزير حجاب.»
فدخل جعفر وعليه القلنسوة والجبة على جاري عادته في مجيئه لمقابلة الخليفة، وهي ملابس العباسيين الرسمية، وكان جعفر خائفا من ذلك الطلب في آخر النهار؛ لعلمه بما يتوقعه من وشاية حساده به في أمر العباسة، بعد أن اطلع أبو العتاهية على سره، ورأى ابنيه مع والدتهما رأي العين. فلما دعاه مسرور إلى الرشيد أوجس خيفة، وسأل عما يريد منه، فقال: «لا أدري.» ولم يتوسم في وجه الرجل سوءا، ومع ذلك ركب في موكبه الحافل، وفيه جماعة من الفرسان الأشداء ممن يتفانون في نصرته، ودخلوا معه إلى الباب الرابع على غير المعتاد فيمن يدخل قصر الخلد من القادمين، إلا بني هاشم والوزير وأمثالهم من المقربين، فترجل جعفر وأقبل على دار الخاصة، ومسرور يسير بين يديه لا يتكلم.
الفصل الثامن والأربعون
المداجاة
فدخل الوزير تلك القاعة وهو يتكلف الابتسام، ويظهر الاطمئنان وقلبه يرتجف خوفا. فلما أقبل على الرشيد رحب به وابتسم له وقال: «ليتك جئتني بمثل ملابسي؛ فإن مجلسنا مجلس أنس.» ودعاه للجلوس بجانبه على السرير، فحياه وجلس متأدبا وقد سري عنه واطمأن باله. وجعلا يتطارحان الأحاديث والرشيد يحتفي به ويلاطفه، ومما قاله: «لقد دعوتك رغبة في أنسك؛ لأني شعرت بملل في أثناء النهار على أثر مقابلة ذلك الوفد الهندي.» وأقبل يقص عليه ما جاء به الوفد من السيوف القلعية والكلاب السيورية، وما كان من قوتها وفتكها بالأسد.
فأجابه جعفر: «ما زال قصر الخلد مصدر الأبهة والسؤدد، ولا زال أمير المؤمنين مؤيدا بنصر الله يتزلف له الملوك والسلاطين.»
والقارئ يعلم ما في قلب جعفر من الرشيد، وما يكتمه من الخوف من بطشه إذا اطلع على حاله مع العباسة، وما يعتزمه من النجاة بها إذا اطلع الرشيد على سرهما، فكانا يتداجيان وفي قلب كل منهما غل على صاحبه، وما زالا في ذلك حتى آن وقت العشاء، فمد السماط وقد أعدت عليه ألوان اللحوم والطيور والتوابل، وأنواع الفاكهة والرياحين، وأصناف البقول، ووقف الغلمان بأباريق الماء وأقداح الشراب، فجلسا يأكلان والرشيد يبالغ في إكرام جعفر حتى كان يقدم له الطعام من الصحاف، فيلقمه بيده،
1
ويناوله السنبوسجة بعد السنبوسجة، والتفاحة بعد التفاحة، ويبش له ويحادثه ويضحك لحديثه حتى تطرق إلى حكاية العلوي فقال له: «وماذا حدث لذلك العلوي الذي عهدت به إليك؟»
فقال جعفر: «هو على حاله يا أمير المؤمنين، لا يزال في الحبس كما أمرت.»
فابتسم الرشيد وقال: «هل هو هناك؟»
فقال جعفر: «نعم يا أمير المؤمنين.»
قال الرشيد: «بحياتي؟»
ففطن جعفر إلى أن سؤاله لم يكن سؤالا عاديا، فبغت وظهرت البغتة على وجهه وقال : «لا وحياتك، بل أطلقت سراحه ؛ لأني لم أجد مكروها عنده ولا خوفا منه. وزد على ذلك أني أخذت عليه المواثيق والعهود حتى لا يعود إلى شيء مما كان فيه.»
فضحك الرشيد وقدم لجعفر خوخة كانت في يده وهو يقول: «بورك فيك؛ فقد فعلت ما كنت أرجوه منك، ولم تتجاوز ما في نفسي.»
فاستأنس جعفر بتلك الملاطفة، وخاصة بعد أن غير الرشيد الحديث وأخذ يمازحه.
ولما فرغا من العشاء جاءهما الخدم بآنية الغسيل، فغسلا أيديهما وجلسا يتحدثان ساعة ثم استأذن جعفر في الذهاب، فأذن له الرشيد ومشى لوداعه إلى باب القاعة، فلما ودعه ورجع صر على أسنانه وقال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتله.»
أما جعفر فلم تنطل عليه مداجاة الرشيد، ولا انخدع بملاطفته ومجاراته؛ فقد خرج وهو يعلم أن مركزه أصبح في خطر؛ لاعتقاده أن تلك القصة لم يرد ذكرها عرضا كما أحب الرشيد أن يوهمه، ولا كان ينوي إطلاق العلوي كما زعم. وكيف يصدق ذلك وقد كان هذا العلوي مطلقا ومعه أمان بخط الرشيد وختمه، فما زال الرشيد يسعى حتى أفسد الأمان ومزقه، وأمر بالقبض عليه وحبسه؛ خوفا منه. فهل ينطلي على جعفر أنه كان ينوي إطلاقه مع ما اختبره من طباع الرشيد، وكظمه الغيظ وملاينته؛ ولكنه أظهر أنه صدق قوله، وافترقا وهما يتخادعان ويتداجيان، ويظن كل منهما أنه خدع صاحبه، وكلاهما خادع ومخدوع.
الفصل التاسع والأربعون
الخروج للصيد
عندما رجع الرشيد بعد وداع جعفر، دخل غرفة النوم وهو يفكر فيما مر به ذلك اليوم من الغرائب، فتذكر مجيء إسماعيل في الصباح وما كان من رده، ولم يقض له حاجة رعاية لحق جعفر وزيره، وما عرفه بعد ذلك من استبداد هذا الوزير في الأمور، وإطلاقه سراح ذلك العلوي، حتى قام في نفسه أن يقتله، ورأى أنه أساء معاملة إسماعيل وهو يثق بنصائحه وحسن قصده، فأحس بحاجته إلى مجالسته ليطلعه على ما فعله جعفر، ويبوح له بما نواه من الفتك به؛ لأنه كان شديد الثقة بإخلاصه، ولم يكن يثق بأحد من أهله، أو رجال دولته مثل ثقته به. وقد يتطرق بهما الحديث إلى الاعتذار له عن رده خائبا. وشعر الرشيد بضيق صدره، فلم ير خيرا من خروجه للصيد يفرج به كربه، فلما أصبح دعا «مسرورا» خادمه وأمره أن يوصي أصحاب الصيد بالتأهب للخروج إلى أرض دجيل - قرب بغداد - إلى أن قال: «وهل تعلم مقر إسماعيل بن يحيى؟»
فقال مسرور: «نعم يا مولاي.»
قال الرشيد: «اذهب إليه وادعه، ولكن لا تزعجه بفظاظتك.»
فقال مسرور: «وإذا سألني عما يريد أمير المؤمنين منه؟»
قال الرشيد: «قل له إني عازم على الصيد، وأحب أن يكون معي.»
فأشار مطيعا، وخرج إلى الفهادين والبيازرة والحجالين، وأصحاب الصقور والكلاب، وسائر خدم الصيد والقنص. فأمرهم بالخروج إلى أرض دجيل. وكانت لهم عادات وطرق في خروجهم إلى ذلك المكان يعرفونها، ولا يحتاجون فيها إلى ترتيب أو تدريب، وكانوا يتصيدون في أرض «دجيل»؛ وهي بقعة من الأرض، مساحتها عدة فراسخ في مثلها، وقد أحاطوا إحدى جهاتها بسور على هيئة نصف دائرة مبني بالأعمدة المنصوبة. وقد شد بعضها إلى بعض بالأمراس أو الأسلاك على شكل سور منيع، وكانت عادتهم في الصيد أن يطاردوا الحيوانات التي يريدون صيدها نحو ذلك السور من مقره، فيضربون حولها حلقة من الجهة المفتوحة، ويطاردونها بخيولهم وفهودهم وكلابهم، وهي تفر أمامهم بين الأعشاب والأدغال، فلا يزالون يضيقون عليها حتى يدخلوها وراء ذلك السور، ولا يكون لها مجال للفرار؛ فإذا انحصرت في ذلك الموضع، أقبل الخليفة ومن معه من الخاصة وتأنقوا في القتل، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي.
1
وكان من عادة الرشيد إذا خرج للصيد أن يتجول جانبا من النهار على الجواد في أرباض بغداد، وما يحدق بها من المغارس والضياع، حتى يعلم أن الحيوانات قد حصرت وآن أوان صيدها، فيأتي ويباشر قنص بعضها بنفسه، أو يتفرج على البزاة والصقور والفهود. كيف يستخدمها أصحابها في الصيد مما يطول شرحه. أما في ذلك اليوم، فقد جعل الخروج إلى الصيد حيلة لأجل مخاطبة إسماعيل، كما قدمنا.
أما إسماعيل، فلما جاءه أمر الرشيد بالحضور إليه ليرافقه في الصيد لبس الثياب الخاصة بذلك، وركب إلى قصر الخلد، وكان الرشيد في انتظاره بموكب الصيد، وهو يختلف عن سواه من مواكب الخلافة. وما أقبل إسماعيل على القصر حتى رأى أصحاب الصيد خارجين بصقورهم وبزاتهم وفهودهم، وقد ارتدوا الملابس الخفيفة، وفي جملتهم أصحاب اللبابيد. وعادت الضوضاء وتزاحم الناس؛ هذا يلاعب صقره ويحرضه على طائر مار فوق رأسه، فإذا تحفز الصقر أمسكه، وذاك يقود فهده بسلسلة من الحديد، وآخر يستحث كلبه على طلب فريسة يوهمه أنها وراء شجرة هناك، والكلب لا يكترث؛ لأنه لم يشم رائحة الفريسة، وعلا ما يترتب على ذلك من الضوضاء واختلاط الأصوات بين صهيل ونباح وهرير وصرصرة وقعقعة وصلصلة وطقطقة وهدير، فتجاوزهم إسماعيل حتى دخل الباب الثاني من أبواب القصر، فلقيه مسرور وقال له: «لا يترجل مولاي؛ لأن أمير المؤمنين خارج بموكبه وقد أمرني بذلك.»
فوقف حتى رأى الرشيد قادما على جواده بثيابه الخفيفة والفرسان حوله في موكب الصيد، فلم يتمالك عند ذلك عن الترجل، فابتدره الرشيد قائلا: «اركب يا عماه، واجعل فرسك في محاذاة فرسي.»
فركب وأراد أن يسير متأخرا عنه تأدبا، على جاري العادة في مصاحبة الخلفاء، فطلب منه أن يحاذيه، وقال له: «ليس إسماعيل ممن يطالب بمثل هذه التقاليد، وما دعوتك لمرافقتي إلا للاستئناس بك.»
الفصل الخمسون
المفاوضة
فدعا له وسار بجانبه. وأمر الرشيد مسرورا أن يطلق أصحاب الصيد إلى عملهم في دجيل كالعادة ريثما يصل. وسار الرشيد وإسماعيل لا يتكلمان. أما هذا فسكت عن تأدب؛ إذ لا يليق أن يبدأ هو بالكلام. وأما الرشيد فقد سكت عن هاجس غلب عليه. وما زالا ساكتين حتى خرجا من بغداد وأشرفا على بساتينها وأرباضها، فأمسك الرشيد شكيمة جواده والتفت حوله لفتة فهم فرسان الموكب أنه يطلب الانفراد، فتفرقوا وظل هو وإسماعيل سائرين، فلما انفردا نظر الرشيد إلى إسماعيل وقال والاهتمام باد على محياه: «ما الذي حدثتك به نفسك حينما خرجت من عندي أمس؟»
قال: «لم تحدثني بشيء غير موالاة الدعاء بطول بقائك وتأييد سلطانك.»
قال : «ذلك هو عهدي بك، على أنك لو عتبت على هارون وانتقدته لما وجدت سبيلا إلى لومك، لأني لم أرع حقك، وقد أسأت معاملتك في سبيل رجل لم يرع حقي ولا حق بني العباس.» قال ذلك والتفت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، ثم تشاغل بإصلاح ما على مقدم السرج من الديباج الموشى، ومد يده إلى ناصية الجواد وجعل يمشطها بأنامله وهو ينتظر ما يبدو من إسماعيل.
أما هذا فأدرك ما في نفس الرشيد، وأنه يضمر سوءا لجعفر، فشق عليه ذلك لعلمه أنه يعود على الدولة بالخسران، فتجاهل وأقبل يشكر للرشيد حسن ظنه إلى أن قال: «أرى أمير المؤمنين يبالغ في إكرامي، ومحال أن يأتي أمرا يوجب اللوم. وهب أنه فعل ذلك، فهو لا يمكن أن يلام. وإنما ساءني أنه غير راض عن مواليه، ولو صرح لي بما يريد، وأوضح لي الكلام لزادني منة.»
فقطع الرشيد كلامه وقال: «أظنك تتجاهل يا عماه، ومثلك لا يفوته إدراك ما أريد؟»
فقال: «إذا صدق ظني فإن الرشيد يشكو من وزيره.»
قال: «وهل تستغرب شكواي من رجل سلمت إليه مقاليد دولتي وأطلقت يديه في كل شئوني، وقدمته على أهلي وذوي عصبيتي، ثم هو يسعى في هلاكي؟»
فقال: «معاذ الله أن يكون ذلك. وما وزيرك يا أمير المؤمنين إلا من بعض مواليك يتفانى في مصلحة دولتك. ذلك هو عهدي به.»
وكان يتخاطبان والفرسان يسيران متحاذيين بين الأشجار الباسقة وقد تشابكت أغصانها، تظلل الطرق، فبعدا عن المدينة وهما يسيران إلى غير مكان مقصود. واتفق عند ذلك أنهما أشرفا على ضيعة (عزبة) عامرة، ومواش كثيرة، وعمارة حسنة، يدور طريقها حول الضيعة. فدارا حولها حتى اقتربا من بابها، فنظر الرشيد إلى بيدرها وكثرة الغلال فيه، وما يسرح من الماشية الكثيرة حوله، والتفت إلى إسماعيل وقال: «لمن هذه الضيعة يا إسماعيل؟»
فعلم إسماعيل أنها لجعفر، وقد أراد الرشيد أن يتخذ ذلك حجة على ما يريد من الطعن عليه فقال: «هي لأخيك جعفر بن يحيى.»
فتنفس الرشيد الصعداء وقال: «ولو سألتك عن سائر ما في هذه الضاحية من الضياع
هذا الجواب؛ لأن الذي دعوته أخي قد ملك أهله كل ما يحيط ببغداد من الضياع والبساتين. أرأيت كيف أغنينا هؤلاء البرامكة وأفقرنا أولادنا، وأغفلنا أمرهم حتى صارت البلاد لهم، وأصبحت مواكبهم أعظم من مواكبنا، وأموالهم أكثر من أموالنا؟ وإذا كانت هذه ضياعهم قرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟»
فشق على إسماعيل ذلك القول غيرة منه على سلامة الدولة فقال: «إنما البرامكة عبيدك وخدمك، وما ضياعهم وكل ما يملكون إلا لك.»
وكان الرشيد لا يتوقع من إسماعيل دفاعا عن رجل كان بالأمس سببا في فشله، فسمت منزلته في عينيه، ولكن ساءه دفاعه؛ لأنه كان يتوقع منه أن يجاريه فيما ينويه، شأن كل غاضب مستبد، فنظر إلى إسماعيل نظرة جبار عنيد، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما وقال: «أراك حسن الظن بأعدائي، وتحسبهم عبيدا لي، والبرامكة يعدون بني هاشم عبيدهم، وأنهم هم أصحاب الدولة، وأن لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أصحاب الفضل عليهم فيها.»
فلم ير إسماعيل أن يدافع أكثر من ذلك لئلا يتحول غضب الرشيد إليه، فقال: «إن أمير المؤمنين أبصر بخدمه وعبيده.»
فأدرك الرشيد أنه خشي غضبه، ولم يصرح بما في نفسه فأحب أن يسمع رأيه فقال: «ليس لذلك صحبتك يا عماه، ولا هذا عهدي بك. هل تسايرني وتجاريني خوفا من غضبي؟»
فتحير إسماعيل في أمره وتردد بين أن يجيبه أو يبقى على الكتمان. ومع ما يعلم من منزلته عند الرشيد، لم يكن ليطلق لنفسه الحرية إلا وهو يحاذر من غضبه؛ إذ لا يستبعد أن ينقلب الرشيد عليه إذا تبادر إلى ذهنه سوء الظن به. وهذا جعفر لم يبلغ أحد ما بلغه من الدالة والنفوذ حتى صار الرشيد يدعوه أخاه، ويدعو والده يحيى أباه، فلما شك فيه أصبحت حياته
فانتبه فإذا هو بباب المدينة، فرأى مسوغا لتغيير الحديث فقال: «أرانا قد عدنا إلى بغداد. فأين الصيد؟»
قال: «لم أخرج للصيد إلا حيلة لمرافقتك، وقد أوصيت من يقوم به عني، ولكني لم أسمع منك غير ما يقوله سائر الناس ممن يجالسوننا ويصانعوننا، وأنت شيخ بني هاشم وحكيمهم، فلا أقبل منك هذه المصانعة.»
فقال: «أرى أمير المؤمنين حسن الظن بي، وأنا - بحمد الله - عند حسن ظنه، ولكنني لم أسمع منه سؤالا صريحا فأجيبه.»
الفصل الحادي والخمسون
التصريح
وكان الرشيد لما دخل المدينة قد عاد الموكب إلى المسير بين يديه فقال: «نحن داخلون بغداد، وعما قليل ندخل قصر الخلد فنخلو ونتحدث.»
فأوجس إسماعيل خيفة من عاقبة ذلك الحديث، ولكنه تجلد وسكت حتى إذا دخلا القصر ترجلا وسارا إلى غرفة خاصة، فجلس الرشيد على السرير ودعا إسماعيل إلى جانبه، فجلس وهو مطرق ينتظر ما يقوله الخليفة، فإذا هو يقول: «دعك من الدفاع، وقل ما في نفسك. ألم تر هؤلاء الأعاجم قد تطاولوا علينا، واستأثروا بالدولة وأموالها دوننا؟»
قال: «بلى، ولكنهم فعلوا ذلك بإرادة أمير المؤمنين، ولو أفهمهم أنه يريد غير ذلك لأذعنوا لأمره.»
قال: «وهل أمرتهم أن يستأثروا بكل شيء دوني؟»
فتوقف إسماعيل عن الجواب وهو يتردد بين أن يبوح له بما يعتقده من فضل البرامكة على الدولة، أو يسايره في أقواله، فغلب عليه استقلال رأيه فقال: «أما وقد أكرمني أمير المؤمنين بحسن ظنه، فلا ينبغي أن أكتمه شيئا مما يجول في خاطري. إن البرامكة عبيد مولانا ومواليه ولا خلاف في ذلك، ولكن أمير المؤمنين أعلم الناس بما كان من بلائهم في مصلحة هذه الدولة من عهد جدهم خالد في خدمة جدك المنصور. وقد عرف هذا الملك النبيل فضل خالد فقدمه كما قدم أمير المؤمنين ابنه يحيى وحفيده جعفرا. ولا يخفى على الرشيد ما لهؤلاء من الأثر الصالح في خدمة دولته، وتنظيم إدارتها، وسائر شئونها، غير ما لهم من المآثر في رفع منار العلم وأسبابه؛ بتقديم الفلاسفة، واستقدام الأطباء من الهند وفارس إلى بغداد ، وقد بنوا المارستان، وأدخلوا الكاغد ، وعمروا بغداد بنقل الكتب. وهم لم يفعلوا ذلك إلا والرشيد راض عنه. وأخشى أن أطيل الكلام.»
وكان إسماعيل يتكلم وهو يرقب ما يبدو من الرشيد وكأنه قرأ في وجهه قرب استيائه من ذلك الثناء، وأنه لا يرضيه إلا ما يقوي عزمه على الفتك بهم، فاستدرك قائلا: «ولا أنكر أنهم من الجهة الأخرى قد استأثروا بالأموال - والإنسان مطبوع على الطمع - ولكني علمت عن ثقة أن الأموال التي تجمع من غلتهم في كل عام مهما كثرت، فإنهم يوزعون معظمها على أهل الفاقة.»
فضحك الرشيد اغتصابا وهز رأسه وقال: «لا يفعلون ذلك على سبيل الإحسان، ولكنهم يبتاعون الأحزاب، ولا يلبثون أن يجندوا علينا الجند.» قال ذلك وتنهد.
فابتدره إسماعيل قائلا: «معاذ الله.»
فقطع الرشيد كلامه وقال وهو مقبل عليه: «كيف لا ووزيرنا الذي دعوته أخي يمالئ العلويين علينا؟»
فأجفل إسماعيل وقال: «يمالئهم؟»
فقال الرشيد: «نعم. إنه أطلق سراح يحيى بن عبد الله.»
فقال إسماعيل: «يحيى العلوي؟»
قال الرشيد: «أطلق سراحه بدون إذني، ولا شك في ذلك وقد اعترف هو نفسه به.»
فلم ير إسماعيل بابا للدفاع، وتحقق أن الرشيد لن يرجع عن غضبه بعد ذلك؛ لعلمه بما في نفسه على الشيعة العلوية، فقال: «إنها جسارة وتطاول. وهل تظنه فعل ذلك عن عمد وقصد سيئ؟»
فقال الرشيد: «مهما يكن من قصده، فإن فعله هذا لا أستطيع الصبر عليه.»
فقال إسماعيل: «وما الحيلة يا مولاي؟»
قال الرشيد: «الحيلة؟ قد حل قتله، والسلام.»
فأكبر إسماعيل تسرعه إلى هذا التصريح وقال: «إذا قتل أمير المؤمنين عبيده؛ فإنه مالك الرقاب يفعل ما يشاء، ولكنه أعلم مني بما يترتب على هذا الأمر. وقد قال لي الساعة أن البرامكة يبتاعون الأحزاب بالأموال.»
فأطرق الرشيد وإسماعيل وكلاهما يعمل فكرته، ثم رفع الرشيد بصره وقال: «فما الذي يراه ابن عمنا؟»
قال إسماعيل: «ألا ترى أن تفرق بينه وبين أحزابه بعمل توليه إياه خارج بغداد؟»
فأبرقت أسرة الرشيد عند سماعه رأيه وقال: «ذلك ما عزمت عليه وسأوليه خراسان . فإذا بعد عن بغداد فكرنا في شأنه.»
فسر إسماعيل بقبول الرشيد ذلك، وقال: «نعم الرأي هذا.»
فقال الرشيد: «إنه رأي سديد، وبعد ذلك ننظر في أمره.» ثم توجه نحوه بكليته وقال وهو يتفرس فيه: «واعلم يا إسماعيل أني لم أطلعك على سري هذا إلا لعظم ثقتي بك. وإني آمرك أن تكتمه فإنه ما علم به أحد غيرك، فإذا بلغهم شيء مما جرى علمت أنك أنت الذي أبلغته. هل فهمت؟»
فبهت إسماعيل من ذلك التهديد، ولما سمع الرشيد يخاطبه بتلك اللهجة تحقق أن مشيري الملوك إذا لم يسايروهم ويداهنوهم كانت حياتهم في خطر، فقال: «أعوذ بالله أن أقدم على إفشاء أسرارك يا أمير المؤمنين.»
ثم تزحزح الرشيد من مجلسه، فعلم إسماعيل أنه يريد الانصراف، فوقف واستأذن، فأذن له فخرج، وقد عظم عليه ما سمعه، وأصبح خائفا على الدولة من تغير الرشيد، وانطلق إلى منزله وهو يصبر نفسه ليرى هل يعمل الرشيد بما قاله.
الفصل الثاني والخمسون
إسماعيل وجعفر
وفي صباح اليوم التالي، علم أن الرشيد بعث إلى جعفر فجاءه فأجلسه إلى يمينه وأكرمه غاية الإكرام، وبش في وجهه وحدثه ساعة وأهداه هدايا كثيرة في جملتها غلام خادم من خاصة خدمه، وأنبلهم، وأوضحهم وجها، وأكملهم ظرفا، كاتبا، حاسبا، لبيبا، وأن جعفر سر سرورا كاملا بذلك، فعجب إسماعيل من مقدرة الرشيد على كتمان ما في نفسه من شدة الحنق والضيق والغضب. وربما تبادر إلى ذهنه أن الرشيد قد صفح وذهب ما يحفظه على جعفر، لولا ما علمه من إطلاق سراح العلوي، والرشيد يكره تلك الشيعة ويخاف منها على ملكه.
ثم علم إسماعيل بعد يومين أن الرشيد خلع على وزيره وعقد له لواء على خراسان، فظنه قد صفا له، فتمنى أن تزول الضغائن بهذه الطريقة، وتعود المياه إلى مجاريها، ولا سيما بعد أن علم برضاء جعفر عن هذه الولاية، وإسراعه في إرسال أعوانه ورجاله يتقدمونه إلى النهروان خارج بغداد، فإنهم ذهبوا وضربوا مضاربهم هناك وأخذوا يتأهبون للرحيل إلى خراسان، والبلد بعيد الشقة يحتاج إلى الأحمال والأثقال. فلما تحقق إسماعيل من قرب سفر جعفر، رأى أن يزوره ويودعه ويسعى في إزالة ما قد يكون باقيا في نفس الرشيد بوسيلة خطرت له.
وأما جعفر فلم يكن ذلك كله ليذهب ما في قلبه على الرشيد، ولكنه رأى في سفره إلى خراسان بابا للفرج، وعزم على مخابرة العباسة في شأن الفرار معه. ففي اليوم الذي احتفلوا بالخلع عليه عاد إلى قصره في الشماسية؛ وهو من جملة قصور البرامكة في ذلك الحي. وكان لهم عدة قصور هناك أشهرها قصر يحيى بن خالد عند باب الشماسية، وقصر له آخر في باب
1
وكان جعفر في ذلك العام مقيما في قصره بباب الشماسية، ولا تقل قصوره فخامة عن قصور الرشيد. يكفي ما تقدم من وصفها في القصيدة التي دستها أم جعفر إلى زوجها، وفيها قول الشاعر في وصف تلك الدار:
وقد بنى الدار التي ما بنى ال
فرس لها مثلا ولا الهند
الدر والياقوت حصباؤها
وتربها العنبر والند
فهذا بعض ما كان من فخامة هذا القصر وأمثاله من قصور البرامكة مما يضيق المقام عن وصفه، ووصف ما فيه من الرياش الفاخر. وقد وصفنا قصر الخلد وقصر الأمين ودار القرار (قصر زبيدة) فقس عليها.
فعاد جعفر إلى قصره المشار إليه وهو لا يصدق أنه ولي خراسان، وإن كان الرشيد قد وعده بها غير مرة، فتبادر إلى ذهنه أن الخليفة ليس في قلبه غل عليه، أو أنه ولاه خراسان خوفا منه على دولته إذا ظل في بغداد، فاستقوى نفسه واستضعف الرشيد ونسي خوفه منه. فلما عاد إلى القصر أمر قهرمانه أن يهتم بالرحيل ويوصي قيم الجواري والعبيد وكاتبه أن يتهيئوا في الغد، ودخل القصر وكان قد أعجب بالخادم الذي أهداه الرشيد إليه؛ لأدبه وفرط جماله، فاصطحبه إلى قاعة ريشها سماوي اللون؛ لاعتقاده أن هذا اللون يشرح الصدر على مذهب القدماء، ودخل الغلام لمؤانسته، ثم جاءه الحاجب يقول: «إن إسماعيل بن يحيى بالباب.»
فنهض جعفر لاستقباله وأدخله حتى أجلسه في صدر مجلسه؛ لأنه كان يجل مقامه ويثق به؛ لاعتقاده بصفاء نيته، وصدق لهجته، ولكنه لاحظ في أثناء حديثه أنه يكتم أمرا يريد إطلاعه عليه، فصرف من كان في مجلسه من الناس، ولم يبق في الغرفة سواهما، وأقبل جعفر بكليته ليسمع حديثه، فقال إسماعيل: «يا سيدي، أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير، كبيرة المساحة، عظيمة المكانة، فلو تنازلت عن بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده.»
فلما سمع جعفر قوله تبادر إلى ظنه أن الرشيد أوفده للتوسط في ذلك، فزاد استخفافا به وثقة بنفسه، وغلب عليه الحقد لما يقاسيه من تصرفه معه، وظن أنه قد نجا من قبضته بانتقاله إلى خراسان قبل أن يكشف أمر العباسة. وكان حسن الظن بإسماعيل، وكثيرا ما ذكر فضل بيته على الدولة بين يديه وإسماعيل يوافقه؛ لأن هذا هو اعتقاده، فلم يمتنع عند سماعه ذلك عن التصريح برأيه في هذا الأمر فقال: «والله - يا إسماعيل - ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالا، ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي من بعدي، ودخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع. والله لئن سألني شيئا من ذلك ليكونن وبالا عليه سريعا.»
فندم إسماعيل على مجيئه إليه، وخشي أن يترتب على حديثه أمر يبلغ الرشيد فيعده منه إفشاء، فغير الحديث حتى اغتنم فرصة للاستئذان وخرج.
الفصل الثالث والخمسون
العباسة وأرجوان
أما جعفر فعاد إلى صوابه بعد ذهاب إسماعيل، فرأى أنه أخطأ بما بدر منه طعنا في بني هاشم، وإسماعيل منهم، فسبق إلى وهمه أنه ربما باح للرشيد بما سمعه منه، فلا يبقى سبيل للصلح، فزاد رغبة في عزمه على الفرار بالعباسة والولدين، وصفق فجاءه خادمه الخاص حمدان، وكان شديد الاعتماد عليه، فأسر إليه بعزمه وقال له: «نحن مسافرون غدا إلى معسكرنا في النهروان، فاذهب إلى عتبة وقل لها تخبر مولاتها العباسة أن تكون على أهبة الرحيل ريثما أبعث إليها من يحملها إلي. أفهمت؟»
فقال حمدان: «نعم يا مولاي فهمت.»
وخرج حمدان مسرعا للقيام بهذه المهمة.
وكانت العباسة في أثناء هذه الحوادث على أثر اجتماعها الأخير بجعفر وما سمعته من وعده بالذهاب إلى خراسان وذهابها معه؛ لا تنفك تفكر في هذه الأمنية وهي لا تصدق أنها ستظفر بها؛ لأنها كانت تفضل الإقامة مع زوجها وولديها سالمين آمنين في كوخ حقير على الإقامة في تلك القصور الفخمة تحت الخطر وأعين الرقباء، ولا سيما بعد أن اطلع أبو العتاهية على سرها، ورأى ولديها بعينيه، وحدث ما حدث من إساءته، فكانت لا يهدأ لها بال خوفا من أن يبلغ ذلك أخيها - والعياذ بالله - وكانت لا ترى اثنين يتساران إلا ظنتهما يتباحثان في شأنها، ولا رأت كوكبة من الفرسان مارة بقرب قصرها إلا حسبتها آتية للقبض عليها. ولم تكن تتعزى بشيء مثل اجتماعها بجاريتها عتبة، وكانت تبوح لها بمخاوفها، وهذه تطمئنها وتمنيها حتى علمت في ذلك اليوم أن الرشيد عقد لجعفر على خراسان، ورأت الناس يتسابقون في الطرق لحضور الاحتفال بذلك، فكادت تطير فرحا، ومكثت تتوقع أن يأتيها رسول جعفر، وانقضت عدة ساعات حتى علمت بخروج أعوان جعفر ورجاله إلى النهروان ولم يأتها الرسول، فخطر لها أن يكون حبيبها قد شغل عنها، وشكت في صدقه - والمحب كثير الشكوك - وهمت بالشكوى إلى عتبة - وكانت جالسة معها في الشرفة التي انتظرت فيها جعفر منذ أيام - وإذا بحمدان مقبل بملابس أحد خدم قصرها، فلما رأته قادما أرسلت عتبة لاستقباله واستلام الرسالة منه، فلما لقيها قص عليها المهمة التي أتى من أجلها، وألح عليها أن تبلغ مولاتها بأن تكون على أهبة السفر بما خف حمله، وأن تتنكر في ملابس إحدى الجواري حتى إذا جاء الرسول؛ وهو أنا، فلا يحتاج في إخراجها إلى أكثر من كلمة. فلما أخبرتها عتبة بذلك بكت من شدة الفرح، وأمرتها باستدعاء حمدان إليها لتسمع تلك البشرى من فمه، فدخل ووقف متأدبا، فقالت له : «كيف فارقت سيدك؟»
فقال حمدان : «هو بخير، ويبلغك السلام يا مولاتي.»
قالت: «ومتى تظننا نخرج من هنا؟»
قال: «ربما في صباح الغد.»
فالتفتت إلى عتبة لفتة فهمت أنها تذكرها بالولدين: الحسن والحسين، فقالت: «إنهما في مأمن مع الخادمين، كما تعلمين، ومتى خرجنا من بغداد بعثنا من يستقدمهما من الحجاز أو حيث يكونان، وتتخلصين من هذه المخاوف.»
فتنهدت العباسة تنهدا عميقا، ولكن البشر كان يتجلى في وجهها، فصرفت حمدان ودخلت إلى غرفتها وأخذت عتبة في الاستعداد للسفر، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، والعباسة منفردة في تلك الغرفة، فما لبثت أن أصابها رد الفعل فانقبضت نفسها وغلبت عليها عواطفها؛ لأنها تصورت نفسها هاربة من قصرها ومن بين يدي أخيها، وستترك ذلك القصر بما فيه من أسباب السعادة وقد تعودته وألفت قاعاته وحدائقه وأثاثه وخدمه وجواريه وكل شيء فيه. نعم إنها تفضل الإقامة مع حبيبها في كوخ على الإقامة وحدها في قصر، ولكن الإنسان ابن العادة إذا ألف شيئا شق عليه فراقه، فكيف بها وقد ربيت في ذلك القصر ولم تخرج منه إلا نادرا؟! على أنها كانت إذا تصورت ما ترجوه من الاجتماع بجعفر وولديها هدأ روعها، ثم يعترضها ما تخافه من نقمة أخيها إذا علم بفرارها على تلك الصورة، وربما حمله غضبه على تجريد الجيوش في طلبها، فكادت هذه الهواجس تثني من عزمها وهي تغالب عواطفها وتمني نفسها بالنجاة. وبينما هي في تلك الخواطر إذ تذكرت خادما لها كان أمينا على سرها في أثناء مخاوفها حتى جعلته رئيس الخدم في قصرها، واسمه «أرجوان»، وكانت تستأنس به في إبان اضطرابها وقلقها، فرأت أن تصطحبه في فرارها، فنادت عتبة وكانت منهمكة في إعداد المعدات فأتت والغبار يعلوها والانهماك ظاهر عليها، فقالت لها العباسة: «أين أرجوان؟»
فقالت عتبة: «هو هنا في القصر. هل أدعوه؟»
قالت العباسة: «ادعيه؛ فإني أرى أن نصحبه معنا.»
فخرجت عتبة، ثم عادت ومعها أرجوان. وكان أسود اللون أصله من بلاد البربر في شمال أفريقيا، وقد ربي في قصر المنصور، وكان مقربا له؛ لأن أم المنصور بربرية، وكان طويل القامة، وأكثر طوله في ساقيه على طبيعة الخصيان. وهو يومئذ في نحو الخمسين من عمره. ولولا قلة الشعر في وجهه من نتائج الخصي لظهرت شيبته وبانت كهولته، ولكن هؤلاء الخصيان قلما تعرف حقيقة عمرهم بمجرد النظر إليهم. وكان أرجوان قد ربى العباسة منذ طفولتها وأخلص الخدمة لها، وهي قد تعودته وأحسنت الثقة به. فلما استقدمته في ذلك اليوم وقف بين يديها، فنظرت إليه والدمع في عينيها، فلما رآها تبكي بكى معها وقال بصوته المؤنس ولحنه الأعجمي: «ما الذي تأمرين به يا مولاتي؟»
قالت العباسة: «نحن مسافرون، وأحب أن تخرج معنا.»
فقال أرجوان: «إني عبدك وطوع إرادتك.»
فقالت العباسة: «أتدري إلى أين؟»
فقال أرجوان: «إلى حيثما تشائين، ولو إلى القتل.»
قالت العباسة: «بورك فيك يا أرجوان، فاشتغل مع عتبة في إعداد ما يلزم وهي تنبئك بالخبر.»
فقال أرجوان: «سمعا وطاعة.» وخرج مع عتبة فقصت عليه ما هم فيه، فأخذ في التأهب.
فلنتركهم في ذلك ولنعد إلى الرشيد.
الفصل الرابع والخمسون
الرشيد وزبيدة
كان الرشيد أكثر كتمانا لسره مما ظهر لإسماعيل، فمع شدة ثقته به لم يطلعه على كل ما ينويه؛ لأن غضبه لإطلاق سراح ذلك العلوي ظل راسخا في نفسه، وقد ولى جعفر خراسان وعقد له عليها ليجربه ويستطلع كنه قلبه، فأهداه ذلك الخادم الجميل جاسوسا ينقل إليه أقواله. وكان الخادم المشار إليه واقفا ساعة زيارة إسماعيل، بحيث يسمع ما دار بينه وبين جعفر، فكتب بذلك إلى الرشيد حالا، فلما وصل كتابه إليه تحقق من سوء نية جعفر، فعاد إلى مخاوفه وكان جالسا على سريره، فلما قرأ الكتاب هب من مقعده وقد عظم الأمر عليه، ورأى الفرصة ضيقة لا تأذن بإعمال الفكرة، وخيل له أن وزيره إذا خرج من بغداد أفلت من بين يديه، وأهل خراسان طوع إرادته، فيسهل العصيان عليه. فلما تصور ذلك خفق قلبه وأشكل عليه أمره، فأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا كأنه أصيب بجنة، وأحس بحاجته إلى من يباحثه في ذلك، ولم يعد يرى أن يخاطب إسماعيل بعد ما علمه من حديثه مع جعفر وصداقته له، وإن كان لا يشك في أمره، فإنه إنما يلتمس المداولة مع من يجاريه في عزمه، ولا يعارضه كما فعل إسماعيل.
قضى الرشيد ساعة في التردد حتى كاد يتقد غيظا، فخطر له أن يشاور امرأته زبيدة في الأمر على غير المألوف من شأن المرأة في ذلك العهد، ولكن الرشيد كان يحب زبيدة ويحترمها ويتبرك بمشورتها، ويعلم ما بينها وبين جعفر من العداوة القديمة. فلما خطر له ذلك أحس بارتياح عظيم، وكان الوقت نحو الغروب، فدعا مسرورا وأمره أن يهيئ له برذونا ليركب عليه خفية إلى قصرها (دار القرار) ولا يسير معه أحد سواه.
فأعد له البرذون فركبه وقد تلثم ومشى مسرور في ركابه، فلما أقبل على الدار لم يعرفه الحرس، ولكنهم عرفوا مسرورا ففتحوا له فدخل الحديقة، ثم ترجل الرشيد وأمر مسرورا أن يسبقه إلى زبيدة فيخبرها بمجيئه. فلما أخبرها أدركت أنه إنما جاءها في تلك الساعة لأمر هام، فخرجت لاستقباله في القاعة التي استقبلت فيها ابنها محمدا منذ أيام، وقد أضيئت فيها الشموع فزادتها بهاء. ولبست هي أفخر ثيابها وتطيبت واستقبلته أحسن استقبال، وعليها العقود من الجوهر، وفي رأسها الدبابيس المرصعة، وفي صدرها الحلي المنمقة على أشكال بديعة، حتى خفافها كانت مرصعة، كما علمت، وأقبلت ترحب به وتلاطفه. أما هو فمع شدة غضبه لم يتمالك عند رؤيتها من الابتسام، وجلس على السرير وأمسك بيدها وأجلسها إلى جانبه وهو يتشاغل بالنظر إلى ما عليها من أنواع الحلي، وقد زادها ضوء الشموع لمعانا ورونقا. أما هي فلحظت ما وراء ذلك الابتسام من الغيظ، ولكنها تجاهلت وعادت إلى الترحاب فقالت: «مرحبا بأمير المؤمنين. لقد آنسني بلقياه، وشرفني بمجيئه، فهل يأمر بطعام أو شراب؟»
فلم يسعه إلا أن قال: «لم آتك للطعام يا ابنة العم.»
فقالت وقد أبرقت عيناها تفرسا واستطلاعا: «لخير جئت إن شاء الله.» «وخرجت زبيدةلاستقبال الرشيد في القاعة التي استقبلت فيها ابنها محمدا منذ أيام، وقد أضيئت فيها الشموع فزادتها بهاء ...»
فمد يده إلى جيبه وأخرج الكتاب الذي جاءه من جاسوسه ودفعه إليها ولم يتكلم، فتناولته وقرأته وهو يراقب ما يبدو منها، فلما فرغت من قراءته أعادته إليه وهي تضحك، فقال لها: «أراك تضحكين كأنك لم تقرئي الكتاب؟»
قالت: «بلى، قرأته.»
قال: «لا أظنك تدركين ما ينطوي عليه إلا إذا أخبرتك بما ارتكبه هذا الفارسي؟»
فلما سمعت قوله ظنته اطلع على خبر العباسة، فتجاهلت وقالت: «وماذا ارتكب؟»
قال: «إنه أطلق سراح الرجل العلوي الذي لم نقبض عليه إلا بشق النفس، ولم نكد نتحقق أننا حبسناه واتقينا شره حتى عاد فأطلق سراحه! وأنت تعلمين من هذا الكتاب أن هذا العبد قد شمخ بأنفه حتى أصبح يهددنا. فمن يضمن أنه إذا سار إلى خراسان لا تحدثه نفسه بالتمرد فيعصانا وتخرج خراسان من أيدينا؟ فأشيري علي؛ فإني أتبرك بمشورتك.»
فضحكت زبيدة ضحكة يمازجها التهكم والاستخفاف. ولم يكن أحد من أهل الخافقين يجرؤ
فكيف إذا أضيف إليهما نفوذ صاحب الحق؛ لأنها كثيرا ما نصحت له أن يعدل عن الاستسلام لجعفر وأهله وهو لا يطيعها، بل كان يحمل ذلك منها محمل الانتقام منهم. فلما جاءها الآن يشكو عواقب استسلامه، نظرت إليه نظر الظافر وقالت: «مثلك يا أمير المؤمنين مع البرامكة مثل رجل مخمور غريق في بحر عميق، فإن كنت قد تيقظت من سكرتك، وتخلصت من غرقك، أخبرتك بما هو أعظم
فأثرت لهجتها هذه على الرشيد تأثيرا عظيما، ولولا حرمتها عنده ما أمسك عن الفتك بها، فقال لها: «قد كان ما كان؛ فقولي أي شيء أعظم من هذا؟»
قالت: «إن الأمر الذي سأحدثك عنه قد أخفاه عنك وزيرك، وهو أقبح من الخبر الذي عرفت وأشنع.»
فغضب الرشيد وقال: «ويحك! وما هو؟ قولي.»
فأعرضت بوجهها عنه وقالت: «إني أجل نفسي عن أن أخاطبك به. وعليك أن تحضر أرجوان
فكاد الرشيد يتقد غيظا ونهض سريعا وصاح: «أرجوان؟ خادم العباسة أختي؟»
قالت: «نعم، خادم العباسة أختك.»
فصاح الرشيد: «أين هو؟ استدعيه.»
فصفقت زبيدة فجاءها أحد الشاكرية الواقفين ببابها، فقالت: «اذهب حالا وادع لنا أرجوان الخادم من قصر العباسة.»
فأجاب مطيعا وخرج، وظل الرشيد في انتظاره كأنه على لظى الجمر، وزبيدة جالسة بين يديه، ولم يفه أحدهما بكلمة.
الفصل الخامس والخمسون
كشف السر
وكان أرجوان مشتغلا بالتأهب للسفر، كما علمت، وقد اطلع على سر مولاته وسبب سفرها، وهو حريص على راحتها، متفان في سبيل مرضاتها، فإن أولئك الخصيان إذا طابت سرائرهم كانوا نعمة على مواليهم؛ لأن الرجل منهم إذا أخلص النية نسي نفسه، وانقطع لخدمة مولاه بكل جوارحه. ولعل السبب في ذلك أنهم لا يتزوجون، فلا يعلقون آمالهم بولد أو ابنة، فتنصرف عواطفهم إلى مواليهم يسرون لسرورهم، ويحزنون لحزنهم، لا يبالون بما يقاسونه في سبيل ذلك، ولا يهمهم إن كان مولاهم على حق فيما يعمله أو على باطل. وكان أرجوان من أطيب الناس قلبا، وأكثرهم تعلقا بمولاته، ولا سيما العباسة، فإنها نظرا لما كانت تتمتع به على يده من أسباب الراحة بما يسهله لها من دخول جعفر إلى قصرها وخروجه، فإنها كانت تبالغ في إكرامه، وتتلطف في معاملته، وهو يزداد تفانيا في خدمتها.
فكان أرجوان في ذلك المساء يعد معدات السفر. وإذا بالخدم يدعونه فخرج، فرأى شاكريا ينتظره بالباب، فعرف أنه رسول من زبيدة فقال: «ما وراءك؟»
قال الشاكري: «مولاتنا أم جعفر تستدعيك.»
فقال أرجوان: «الساعة؟»
قال الشاكري: «نعم، في هذه الدقيقة.»
فقال أرجوان: «تمهل ريثما أخبر مولاتي العباسة بذلك.»
فقال الشاكري: «لا داعي إلى إخبارها؛ فإنها كلمة تقولها مولاتنا لك ثم تعود.»
فصدقه أرجوان وخرج والعباسة لا تعلم.
أما الرشيد فكان قد مل الجلوس في تلك القاعة ساكتا، فنهض وتمشى في دهليز الدار وهو يرتعد من شدة الغضب ويقول في نفسه: «ماذا عسى أن يكون ذلك الأمر العظيم ؟» على أن ترفع زبيدة عن التصريح به وإحالة ذلك إلى أرجوان الخصي نبهه إلى أنها فضيحة تمس العرض.
ثم سمع حركة في الحديقة فعلم أن الشاكري قد عاد، فتقدم حتى رجع إلى القاعة. وكانت أم جعفر قد خرجت منها لئلا تسمع ما يدور بين الرشيد والخصي.
فدخل الشاكري وقال: «إن أرجوان بالباب يا أمير المؤمنين.»
فقال الرشيد: «هاتوا السيف والنطع.»
فأتاه الشاكري بهما، فبسط النطع في الدهليز خارج القاعة، ووضع السيف بجانبه، ثم صاح الرشيد: «أين أرجوان؟ أدخله.»
ولما سمع أرجوان صوت الرشيد بهذه اللهجة أسقط في يده فدخل وركبتاه تصطكان من الخوف،
يرفع بصره عن الأرض، فأشار الرشيد إلى مسرور بإبعاد الخدم والشاكرية وإغلاق الأبواب حتى لا يعلم أحد بما يدور في هذا الشأن، ثم نظر إلى أرجوان قائلا: «برئت من المنصور إن لم تصدقني في حديث جعفر لأقتلنك.»
فعلم أنه يسأله عن أمر جعفر مع العباسة، فظل ساكتا، ولو أراد أن يتكلم لم يطعه لسانه من شدة الخوف، فصاح الرشيد: «ما بالك؟ تكلم وإلا فهذان هما النطع والسيف.» ثم صاح «مسرور.»
فحضر ذلك الرجل الغليظ القلب بأسرع من لمح البصر، فأشار الرشيد إليه فتناول السيف وانتضاه، ووقف بجانب النطع ينتظر أمر الخليفة، فلما رأى أرجوان ذلك جثا عند قدمي الرشيد وأخذ يقبلهما ويبكي، فتلطف الرشيد في خطابه فقال له بصوت هادئ: «قل الصدق ولا تخف. ما الذي تعلمه من أمر جعفر الوزير وأهل ذلك القصر؟ قل حالا.»
فقال أرجوان وصوته يكاد يختنق، ولسانه يتلعثم من شدة الخوف والبكاء: «الأمان يا أمير المؤمنين.»
فقال الرشيد: «نعم. لك الأمان إن قلت الصدق، وإلا فإننا سوف نقتلك بهذا السيف. واعلم أننا مطلعون على كل شيء.»
فحدثته نفسه أن يحافظ على سر مولاته تفانيا في سبيل مصلحتها، ولكن الضعف البشري غلب عليه، وهو يغلب على كبار الرجال في مثل هذه الحال، فكيف بعبد خصي مهما بلغ من إخلاصه؟ على أنه انتحل لنفسه عذرا لإقراره؛ وذلك أن الرشيد لم يسأله إلا وهو يعلم كل شيء، فإذا أنكر قتل ولم تنتفع مولاته بقتله. أما إذا اعترف وظل حيا فقد يستطيع إنقاذها، أو خدمتها في شيء. مرت تلك الخواطر في ذهنه في لحظة واحدة، ولما عمد إلى الإقرار أحس بوخز الضمير لئلا يقع من إقراره ضرر على مولاته العباسة، فأطرق وتشاغل ببلع ريقه ولا ريق في فمه؛ لما أصابه من الجفاف لشدة خوفه وهول موقفه. ولاحظ الرشيد تردده فصاح فيه: «تكلم أو أقتلك.»
فقال أرجوان وصوته يتلجلج: «إن جعفرا قد تزوج أختك العباسة منذ سبع سنين، وولدت منه ثلاثة بنين؛ أحدهم له ست سنوات، والآخر له خمس سنوات، والثالث عاش سنتين ومات قريبا، والاثنان الباقيان قد أرسلهما إلى مدينة الرسول، وهي حامل بالرابع.» واختنق صوته.
الفصل السادس والخمسون
الانتقام
وكان الرشيد يسمع كلامه والشرر يكاد يتطاير من عينيه، فلما فرغ أرجوان من كلامه قال له الرشيد: «كيف يقع ذلك وأنت تعلم به ولم تخبرني؟»
فتشدد أرجوان عند هذا السؤال؛ لأن جوابه سهل عليه، وقال: «أنت أذنت لوزيرك بالدخول على أهل بيتك، وأمرتني ألا أمنعه في أي وقت شاء ليلا أو نهارا.»
فقال الرشيد وهو يصر على أسنانه: «أمرتك ألا تحجبه، فحين حدثت هذه الحادثة لماذا لم تخبرني أول الأمر؟»
1
ثم التفت إلى مسرور وقال: «اضرب عنقه.»
فأمسكه مسرور بيد من حديد وقاده إلى النطع بعنف كأن له عليه ثأرا دمويا، فسقط أرجوان وهو يصيح: «الأمان الأمان.»
فلم يمهله مسرور حتى يقول الثالثة، لئلا يجيب الرشيد طلبه فيعفو عنه وهو سفاك غليظ القلب، يلذ له منظر سفك الدماء، ويفتخر بعدد الذين قتلهم، وبسرعة فتكه بهم، فابتدر أرجوان بضربة سيف على عنقه فأزاح رأسه عن كتفيه.
أما الرشيد فحول وجهه وسأل عن زبيدة، فدلوه على غرفتها، فدخل عليها وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما. وكانت متربعة على فراشها وقد أطرقت تفكر، فلما رأت الرشيد داخلا تحفزت للقيام ولم تقم. أما هو فلم يلتفت إلى شيء من ذلك لما هو فيه من الحنق، وقال وصوته يرتجف، ولحيته ترقص، وقد امتقع لونه: «أرأيت ما عاملني به جعفر؟ وما ارتكب من هتك عرضي وفضيحتي بين العرب والعجم؟»
فقالت زبيدة في صوت هادئ وجأش رابط: «هذه شهوتك وإرادتك. عمدت إلى شاب جميل الوجه، حسن الثياب، طيب الرائحة، جبار في نفسه، فأدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله، وهي
والحطب.»
فقال الرشيد: «ألا تزالين تعنفينني؟! والله سأمحو هذا العار عني بالدماء.»
فسرها تهديده وأحبت أن تمكنه من عزمه انتقاما من جعفر فقالت: «سنرى ما يكون، وأخشى أنك إذا رأيت وزيرك غيرت عزمك؛ إذ يغلب عليك حنان الأخوة فتعفو عنه!» قالت ذلك وهي تتشاغل بتثنية أهداب كمها المزركش بالقصب، وبان الغضب والعتب في عينيها.
فأحس الرشيد بما ينطوي تحت تلك العبارة من القوارص، وشعر أنه صاحب الذنب وحده؛ لأنه كثيرا ما سمع نصحها له في هذا الشأن ولم يعرها التفاتا، ولكنه استكبر تعريضها بذلك في تلك الساعة، ولولا احترامه لها ما صبر على توبيخها. ومع ذلك فقد كظم غيظه وتجلد وتنهد ونظر إليها وقال: «كفى يا ابنة العم. فما علينا إلا كتمان هذا الخبر ما استطعنا إلى كتمانه سبيلا. وأي إنسان علمت أنه اطلع عليه قتلته، إلا أنت. وقد قتلت أرجوان بعد أن أمنته؛ لأني لم أطق صبرا أن أرى رجلا يعلم بهذه الخيانة التي لطختني بها أختي ووزيري؛ الذي أسميه أخي.» ثم انتبه لنفسه وندم على تصريحه بما في خاطره على جعفر، ولا سيما بين يدي زبيدة، وهي أشد أعدائه نقمة عليه، فتماسك وحاول الابتسام والتجلد وقال: «ولكن الإنسان موضع الخطأ والنسيان.»
فأدركت زبيدة ما يتضارب في خاطره من العواطف وأحست أنه يهم بالخروج، فوقفت له وحاولت إجلاسه فامتنع وودعها وهو لا ينظر إليها إما خجلا أو حنقا، فأمسكت بيده واستوقفته فوقف وهو لا يلتفت إليها فقالت: «تمهل. ألا تحب أن تعرف مكان الغلامين؟»
فأجفل الرشيد وقال: «الغلامان؟ علمت أنهما في المدينة.»
قالت زبيدة: «كلا، بل هما في مكان قريب أنا أعرفه، وسيحضران متى شئت.»
فقال الرشيد: «في بغداد؟»
قالت زبيدة: «نعم.»
فتحول الرشيد عنها وصاح وهو لا يزال في القاعة: «مسرور.»
فحضر مسرور أسرع من البرق، فقال له الرشيد وزبيدة واقفة: «هل رأيت شيئا الليلة؟»
فقال مسرور: «كلا يا مولاي؛ لأني أعمى أصم.» وهي علامة تحريضه على الكتمان، ثم أمره أن يأتيه بالبرذون وسار في أثره فأتاه به، فركبه وساقه نحو قصر الخلد، ومسرور يعدو في ركابه وقد مضى هزيع من الليل، فقضى الطريق وهو غارق في بحار الهواجس، وقد نسي نفسه لما جاش في خاطره من أمر العباسة، وأعمل فكرته فيما دهمه من الأمر العظيم، فرأى أن ملكه وسطوته وأمواله أو أي شيء مما حازه من نعيم الدنيا لا يخفف عنه وطأة ذلك المصاب، وحدثته نفسه أن يستقدم أخته في تلك الساعة أو يذهب إليها ويفتك بها، ولكنه خشي الفضيحة، فجعل يصبر نفسه إلى الغد لعله يهتدي إلى سبيل آخر.
الفصل السابع والخمسون
التردد
أما العباسة فقد كانت في غفلة عن كل ذلك، تهتم بإعداد معدات السفر، وعتبة تبذل جهدها في طمأنتها وتطييب خاطرها، وتمنيها بما ترجوه لها من السعادة متى خرجت من بغداد وأقامت في خراسان؛ إذ يكون زوجها صاحب السلطة فيها. وكانت العباسة إذا أعملت فكرتها واستخدمت عقلها رأت أنها تعرض نفسها لخطر عظيم ربما آل إلى سفك الدماء. أما إذا استشارت قلبها وتصورت اجتماعها بحبيبها ولا رقيب عليهما، فيقومان بتربية الولدين في طمأنينة وسلام، فلا يحرمان من حبهما وحنانهما؛ تبرق أسرتها وتنبسط نفسها، ثم يعترضها غضب أخيها إذا علم بصنيعها، فتعود إلى الانقباض. وأخيرا أحست بانفراج كربتها فجأة لخاطر طرق على ذهنها يغنيها عن هذه المخاوف؛ وذلك أن تكتم اسمها وخبرها في خراسان، فتعيش مع زوجها وولديها متنكرة حتى يقضي الله بما يشاء. وكانت هذه الخواطر تخفف من مخاوفها، ولا سيما إذا تذكرت أرجوان خادمها الأمين ؛ لأنه كان من أعظم أسباب تعزيتها.
وبينما هي في تلك الهواجس رأت عتبة تعدو نحوها والبغتة ظاهرة على وجهها، فخفق قلبها وتصاعد الدم إلى محياها. ولم يكن أسرع من وقوع الرعب في ذلك القلب لما تعلمه صاحبته من الأخطار المحدقة بها من كل جانب، ولا سيما في تلك الساعة وهي على ما قدمناه من القلق. فلما رأت عتبة على هذه الصورة صاحت فيها: «ما وراءك؟»
فقالت عتبة: «أرجوان.» وسكتت.
فبغتت العباسة وقالت: «ماذا جرى له؟»
فقالت عتبة: «لا أعلم أين هو؟»
قالت العباسة: «أليس هو في القصر؟ ابحثي عنه؛ لعله في إحدى الغرف يقوم بإعداد معدات السفر.»
فهمت عتبة بالخروج وهي لا تنويه، ثم عادت ووقفت متحيرة وأطرقت وهي تتشاغل بحك صدغها، فازدادت العباسة خوفا وقالت: «ما بالك يا عتبة؟ ماذا جرى لأرجوان؟ قولي أين هو؟»
فقالت عتبة: «لا أدري يا مولاتي، ولكن أخبرني أحد الخدم أنه خرج من القصر و...»
فقطعت العباسة كلامها قائلة: «خرج من القصر؟! أفي مثل هذه الساعة يتركنا؟! وإلى أين ذهب؟»
فقالت عتبة: «لا أعلم.» وغصت بريقها.
فصاحت العباسة: «ويحك! قولي. أين هو؟»
فقالت عتبة: «أظنه ذهب إلى دار القرار»
فصاحت العباسة: «دار القرار. ذهب إلى أم جعفر، وأي شغل له هناك؟»
فقالت عتبة: «أخبروني أن شاكريا جاء في طلبه على عجل، ولم يمهله ريثما يستأذنك.»
فعضت العباسة على شفتيها وأطرقت لحظة، ثم استأنفت السؤال قائلة: «شاكري جاء في طلبه؟ وماذا تظنين سبب ذهابه؟»
فقالت عتبة: «أظنه ذهب لأمر مخيف.»
فقالت العباسة: «أمر مخيف؟ ولماذا؟ قد يكون ذهابه لغرض بسيط!»
قالت عتبة: «بل هو ذهب لأمر مخيف؛ لأن أمير المؤمنين هناك الليلة.»
فضربت العباسة يدا بيد وصاحت: «أمير المؤمنين هناك؟ ومن أخبرك بذلك؟ قولي. لقد أزعجتني يا عتبة!»
فقالت عتبة: «علمت أنه هناك من جاسوس لنا في قصر الخلد جاءني من ساعة وأخبرني أن الرشيد ركب برذونه وجاء إلى دار القرار ومعه الخادم اللعين مسرور، ولم أنقل لك هذا الخبر في حينه لأنني كنت منشغلة في الاستعداد للسفر، وكنت أحسب مجيئه لأمر خاص به، فلما علمت بذهاب أرجوان على هذه الصورة وقع الرعب في قلبي فجئت إليك. إني خائفة من عاقبة ذلك يا سيدتي.»
فأطرقت العباسة وقد أخذ الخوف منها مأخذا عظيما، وعمدت إلى التفكير فيما سمعته، وارتبكت في أمرها فقالت: «ما الذي تخافينه من استدعاء أرجوان وأخي هناك؟! ومع ذلك فنحن على أهبة السفر غدا.»
قالت عتبة: «صدقت، وأنا قد فرغت من الاستعداد، ومتى رجع أرجوان ورأينا في الأمر ما يدعو إلى سرعة الذهاب خرجنا حالا. ألا تخرجين في هذا المساء؟»
فقالت العباسة: «ولكن الوزير أمرنا أن ننتظر حتى يأتينا رسوله.»
فقالت عتبة: «سنرى، وسأرسل خصيا يتجسس خبر أرجوان ويعود إلينا سريعا.»
قالت العباسة: «افعلي.» وتحولت عنها إلى الشرفة التي تعودت أن ترى رسول جعفر منها إذا جاءها بخبر، وخرجت عتبة لإرسال الخصي.
الفصل الثامن والخمسون
العباسة والرشيد
وقفت العباسة في الشرفة ساعة، وعيناها تتطلعان إلى الطريق، والظلام يحجب بصرها، وكلما رأت شبحا ظنت أنه رسول جعفر.
ظلت العباسة على هذه الحال حتى مضى نصف الليل والهواجس تتقاذفها، فلما استبطأت عتبة همت أن تبعث في استقدامها، فإذا هي آتية تعدو مهرولة والدمع يتساقط من عينيها، وقد نبش شعرها، وامتقع لونها، وابيضت شفتاها، فصاحت العباسة: «ما بالك يا عتبة؟ ما لي أراك تبكين؟ ماذا حدث؟»
فأسرعت عتبة وأمسكتها بيدها وجرتها إلى حافة الشرفة وهي لا تتمالك عن الارتعاش وقالت: «اذهبي يا سيدتي. انزلي من هذه الشرفة. اطلبي الفرار بنفسك.»
فقالت العباسة: «ماذا جرى؟ هل عاد الجاسوس الذي أرسلته؟ ماذا قال؟»
فقالت عتبة: «عاد ولم تنفعنا عودته. انزلي من هذه الشرفة واختبئي في الشارع، وسأرسل إليك من يصحبك إلى مولاي الوزير. انزلي. انزلي.»
فاستغربت العباسة حالها وقالت لها: «ماذا جرى؟ قولي.»
فقالت عتبة وصوتها يرتجف ويتقطع: «أمير المؤمنين، يا مولاتي، أمير المؤمنين.» وأومأت بيدها نحو الداخل.
ففهمت العباسة أن الرشيد جاء إلى القصر، وأدركت أن الأمر بلغ أشده، وأن الساعة آتية لا ريب فيها؛ لأن أخاها لا يأتيها بعد نصف الليل إلا لأمر عظيم، ولا سيما بعد تلك المقدمات، فعظم عليها الأمر لأول وهلة فوقفت لحظة، ثم غلبت عليها عزة النفس ونسيت ما كانت فيه من الاضطراب، وأكبرت أن تفر على هذه الصورة وهي لا تضمن النجاة، وتحولت رعدتها إلى سكينة، وثاب إليها رشدها، وظلت واقفة مكانها وعتبة تشد بهدب ثوبها وتحرضها على الفرار من تلك الشرفة. ثم سمعت دبدبة ووقع أقدام كثيرة، فاجتذبت ثيابها من عتبة وقالت: «دعيني؛ فإني أحب أن أرى أخي وأسمع قوله.» ثم تراجعت وهمست في أذنها قائلة: «أرسلي رجلا سريع الخطى يمضي إلى الوزير فيخبره بما جرى لنا ليكون على حذر من أمر نفسه، مخافة أن يصيبه ما أصابنا؛ لأن مجيء أخي بعد منتصف الليل على هذه الصورة يدل على خطر يهددنا جميعا.»
قالت العباسة ذلك ونزلت من الشرفة نحو الدار، فلقيت الرشيد مارا في الدهليز نحوها وعليه ثوب بسيط فوق عباءة واسعة؛ لأنه جاءها متنكرا. وكان قد ذهب إلى قصره على أن يؤجل أمر العباسة إلى الغد - كما تقدم - فعظم عليه القلق ولم يستطع النوم، فبادر إليها ومعه مسرور؛ خوفا من أن يبلغها غضبه فتعمد إلى الفرار؛ لعلمه بمن يحيط به من جواسيسها وجواسيس جعفر، ولم يكن يتوقع أن يراها خارج الفراش، فكيف وقد شاهدها تتأهب للسفر؟!
أما العباسة فتجلدت ورحبت بالرشيد قائلة: «لقد شرفني أخي بزيارته.»
فلم يجبها الرشيد، بل ظل ماشيا إلى مقصورة لها في أحد جوانب القصر تعود أن يجالسها فيها إذا زارها، فتبعته وركبتاها تصطكان وهي تحاول أن تهدئ من روعها، وقد ذهب خوفها من الموت؛ لأن توقع المصيبة شر من وقوعها، وكبير النفس إذا تراكمت عليه المخاوف وتحقق من وقوع الخطر تجلد ورجع إلى رشده؛ فالعباسة تشددت وقام في نفسها أن تناقش أخاها الحساب، فإذا قتلت بعد ذلك فلا تندم على الحياة.
وكانت عتبة تمشي في أثرها وهي تبكي وتتمتم، فأشارت إليها العباسة أن تنصرف لأداء المهمة التي كلفتها بها ، ورأت العباسة في دهليز الدار مسرورا الخادم واقفا، فلما وقع نظره عليها حياها باحترام، فلم ترد عليه التحية لعلمها بفظاظة قلبه - والنساء يكرهن أهل الغلظة والخشونة بلا سبب يدعو إلى الكراهية - وما زالت العباسة تمشي وراء أخيها الرشيد حتى دخل المقصورة، وجلس على المقعد وهو يلتف بالعباءة وعلى رأسه عمامة صغيرة من الوشي. وتوسمت العباسة في وجهه الغضب الشديد حتى كاد الشرر يتطاير من عينيه، فتجاهلت ووقفت أمامه تنتظر ما يبدو منه.
أما هو، فقد أمرها بإغلاق الباب فأغلقته، ووقفت في جرأة لم يعهدها فيها من قبل، فابتدرها قائلا: «أراك في ثياب السفر يا عباسة، فإلى أين؟»
فقالت العباسة: «إلى حيث لا أرى أخا، ولا أخاف ظلما.»
الفصل التاسع والخمسون
الجدال
فاستغرب الرشيد مفاجأتها إياه بهذه الجرأة، على حين أنه لم يكن يتوقع منها غير التذلل والتضرع، فحمي غضبه، ولكنه صبر نفسه ريثما يوجه إليها بعض الأسئلة ويسمع إجابتها عنها، قال: «أتعلمين لماذا جئتك في هذا الليل والناس نيام؟ إلا أنا وأنت؟»
فقالت العباسة: «كلا.»
قال الرشيد: «فلماذا بادرتني بهذه الوقاحة؟»
فقالت العباسة: «سألتني سؤالا، فصدقتك في الإجابة عنه.»
قال الرشيد: «لقد جاء الصدق متأخرا بعد الخيانة التي ارتكبتها.»
فقالت العباسة: «لا أعتقد أني ارتكبت خيانة، ولو سألتني مثل هذا السؤال من قبل ما كذبتك.»
قال الرشيد: «ألم تكوني أخت أمير المؤمنين؟»
فقالت العباسة: «بلى، وأرجو ألا أزال أخته؟»
قال الرشيد: «ومثلك تخون أخاها في رجل من الموالي؟»
فقالت العباسة: «قلت لك إني لم أرتكب خيانة قط، وحاشا لله أن أخون أحدا.»
قال الرشيد: «أتجيبينني بهذه القحة وقد أصبح أمرك مشهورا حتى أذللتني بين الملأ بأمر أتيته لم يخطر ببالي؟»
فقالت العباسة: «وأي أمر تعني يا هارون؟ أو لعلك تعد الصدق خيانة؟»
قال الرشيد: «أعني أمرك مع جعفر الوزير الذي لم يرع حرمتي ولا خشي سطوتي.»
فأحبت العباسة عند ذلك أن تجادله بالبرهان لعله يرق لها ويعذرها ويبقيها، فقالت: «إن الوزير لم يخرق لك حرمة، ولا أراد بك سوءا؛ فارفق يا أخي ولا تتعجل في حكمك.»
فصاح الرشيد فيها: «لا تدعيني أخا لك؛ فإني بريء من قرابتك.»
فقالت العباسة: «تبرأ مني ما شئت، ولكن ذلك الرجل لم يرتكب خيانة.»
قال الرشيد: «ويحك! ألا تزالين تحاولين الكتمان؟! فاعلمي أني عرفت كل شيء، وقد صارحني أرجوان خادمك الخائن بسرك، وإذا أصررت على الإنكار فإن ولديكما يشهدان على ذلك.»
فلما سمعت العباسة ذكر ولديها تحرك حنانها، وخيل لها أنها إذا أصرت على الجفاء دفعته إلى إيقاع الأذى بهما، فصغرت نفسها وضعف عزمها عن المقاومة، وغلب عليها الحنان، واستسهلت في سبيل استبقائهما أن تتذلل وتستعطف - وليس أشد وقعا على قلب الوالدين من أن يصابوا في أولادهم، فإذا خافوا ذلك لا يبالون بما يضحون في سبيل إنقاذهم، ولو ارتكبوا أكبر الكبائر في هذا السبيل، والاستعطاف من أسهل الوسائل - فجثت العباسة عند ركبتي الرشيد، وأرادت أن تتكلم فسبقتها العبرات، فظنها تهم بالاعتراف بجريمتها توطئة للاستغفار، فحول وجهه عنها وقال: «قد تحققت أني مطلع على حقيقة فعلك فلم تري بدا من الاعتراف والاستعطاف، ولكن هيهات؛ إن من يأتي ما أتيت به لا علاج له غير القتل الشنيع.»
فكفكفت العباسة الدمع وتجلدت وهي لا تزال جاثية وقالت: «إني لا أستعطفك من أجل نفسي، ولا أنا أعترف بجريمة، ولكنني أطالبك بحق لا إخالك تنكره.»
قال الرشيد: «وأي حق تعنين؟»
فقالت العباسة: «تمهل يا أمير المؤمنين - ولا أقل يا أخي لئلا أغضبك - تمهل وأنا أذكر لك ذلك الحق.»
فتجلد الرشيد وقال: «قولي.»
فقالت العباسة: «ألم تعقد علي لجعفر عقدا شرعيا صحيحا؟»
قال الرشيد: «بلى، ولكنني فعلت ذلك ليحل لكما أن ينظر أحدكما إلى صاحبه، وليس لما وراء ذلك.»
فقالت العباسة: «وهل يجوز العقد على هذه الصورة؟ وإذا جاز في رأيك أنت، فهل يعد من يتم شروطه خائنا؟»
قال الرشيد: «لا تكثري من الجدل، فإنكما علمتما منذ كتابة ذلك العقد أن المراد به النظر؛ لرغبتي في مجالستكما؛ لأني كنت أحبكما وأحب حديثكما.» وهز رأسه وصر على أسنانه. «وهذا جزاء المحبة!»
فقالت العباسة وفي صوتها لحن الملاينة : «ولكن ألا يظن أمير المؤمنين أننا كنا بدون هذا العقد خيرا منا معه؟»
فقطع الرشيد كلامها وقال: «لا ريب في ذلك؛ لأنكما بعد أن كنتما من أحب الناس إلي صرتما أبغض الأبالسة عندي.»
فقالت العباسة: «ولماذا؟ ألأننا أتينا أمرا حلله الله وحرمته أنت. أليست طاعة الله أولى من طاعة أمير المؤمنين؟»
الفصل الستون
عذر الرشيد
فلما أحس الرشيد بأن العباسة كادت تفحمه زاد غضبه، ليس لأنه أدرك وجه الحق عندها، ولا هو يتعمد أذاها ظلما وبهتانا، ولكن العادة غلبت على طباعه؛ تعود ألا يسمع غير التأمين على ما يقوله، والتنفيذ لما يريده، حقا كان أو باطلا، شأن أصحاب السلطة المطلقة، ولا سيما في تلك العصور وقد كثر المتملقون الذين يتزلفون إلى ولي الأمر بالإطراء والإغراء، لا يبالون بما قد يكون من عواقب تغريرهم، فيستبد الحاكم المطلق بأموره فكرا وقولا وفعلا حتى ينسى ميزان الحق، ويسوغ لنفسه ما لا يسوغه لسواه كأنه من طينة غير طينة البشر، ويتوهم أنه صاحب الحق دائما، وأن إرادته إذا أضيفت إلى حقه - وإن كان قليلا - تضاعف ورجحت كفته.
فلا يلام الرشيد لإصراره على خطأ العباسة وتجاهله عن سماع حجتها، وعذره في ذلك أنه شب على نفوذ الكلمة حتى صار الاستبداد طبيعة فيه تتغلب على عقله وسداد رأيه، ولا سيما في حال الغضب. فلما سمع حجة العباسة عمد إلى الاستعانة بسلطته الشخصية فقال: «ولكنني نهيتكما فعصيتماني، ومن عصى أمير المؤمنين حق قتله.»
فقالت العباسة: «إذا لم يكن بد من أن تعد عملنا عصيانا، فأنا العاصية وليس جعفر ولا.»
فقطع الرشيد قولها وانتهرها، وقال وكأنه يتحفز للوثوب: «أراك تحبينه وتتحملين التبعة عنه؟»
فتنهدت العباسة وقد هاجت أشجانها وقالت: «نعم أحبه، ولولا ذلك ما خالفت أمرك فيه. نعم، إني أحبه، وأراه أهلا لمحبتي ومحبة من هو أعظم مني؛ لأنه من خاصة الناس، وقد أتى أعمالا ترفع قدره فوق أقرانه، وليس أرفع قدرا منه غير أمير المؤمنين وحده.» قالت العباسة ذلك وقد عادت إليها الأنفة وأبرقت عيناها، واحمرت وجنتاها كأن الخجل غلب عليها. ومثل هذا التصريح عظيم من نساء ذلك العصر، ولا سيما في حضرة الخليفة.
أما الرشيد فلما سمع تصريحها ازداد استغرابا ودهشة وقال: «ويحك! أتعترفين بحبه في حضرتي، ثم أنت تفضلينه على سائر الناس حتى بني هاشم جميعا وهو عبد؟! وإذا رفعت قدره فهو مولى أعجمي. لا تجادليني في المحال؛ فإنه مقتول.»
فلما سمعت العباسة تصريحه بقتل جعفر ارتعدت فرائصها، وعاد إليها ضعفها، وهان عليها التذلل في سبيل إنقاذ حبيبها، فضلا عن ولديها، فتجلدت وأمسكت عواطفها، وعمدت إلى الملاينة فقالت: «هارون، أخي هارون، بل أمير المؤمنين، إذا كنت تنكر العباسة الآن، فتذكر أنها كانت أختك، وكنتما تلعبان معا في الصغر وتتحابان؛ فاصغ لقولها على الأقل عن ذلك الوزير؛ فإنه وزيرك، ولم يقصر في خدمتك. أتقتله لغير ذنب ارتكبه؟! إنه لم يرتكب ذنبا. وإذا لم يكن مفر من قتل أحدنا، فاقتلني أنا؛ لأني أنا المخطئة دونه.»
فقال الرشيد وهو يضحك غضبا واستخفافا: «وأنت أيضا مقتولة، وسأقتل ولديكما لأمحو أثر هذا العار من الوجود.»
فلما سمعته العباسة يهددها بقتل الولدين اقشعر بدنها، ووقف شعرها، ونهضت رغم إرادتها وصاحت بصوت مختنق: «تقتلهما؟ ما ذنبهما؟ إنها طفلان بريئان، إنهما ملكان كريمان لا يعرفان حلالا ولا حراما. بالله ألا أشفقت عليهما؟» ثم ضمت يدها إلى صدرها وقالت: «ولدي! آه! يا أمير المؤمنين، رفقا بذينك الطفلين.» قالت ذلك وصوتها يتقطع وتكاد تشرق بدموعها.
فلما رآها الرشيد تبكي على هذه الصورة تحركت فيه عاطفة الأخوة، وهو والد يسهل عليه تصور عطف الوالدين، وربما جال في خاطره وهو يجادلها ويدافعها أن يلتمس لها عذرا، أو يغضي عن عملها، ولكن ما سبق إلى ذهنه مما لحقه من العار بسببها كان يعترض حنانه. وكان الرشيد من أكثر الناس غيرة على العرض، وأشدهم رغبة في صيانته، وقد يغتفر كل ذنب غير التعرض لدولته أو عرضه. وهو يعد عمل جعفر تعرضا للأمرين معا. وقد توهم أن وزيره إنما استولد العباسة ليكون في أولاده دم هاشمي يساعده على طلب السلطة وهي يومئذ لا مطمع فيها لغير القرشيين. فكان الرشيد وهو يسمع استعطاف أخته ويرى عذرها يغالب عواطفه، ولا سيما حين سمعها تدافع عن الولدين، وهو يعلم براءتهما كما تعلم هي، ولكنه يرى بقاءهما عثرة له أو حجة عليه. فلما طلبت استبقاءهما وهي تبكي لم يلتفت إلى بكائها، بل أجابها مختصرا: «أقتلهما لأخفي هذه الخيانة من الوجود.»
فعادت العباسة إلى التذلل رفقا بالولدين، فقالت وهي تبكي وتشهق: «أشفق يا أخي. نعم يا أخي؛ فإنك أخي. تذكر الرحم. وإذا كنت لا تزال تعد عملنا خيانة، فاقتلنا كلينا وأبق ذينك الولدين؛ فإنهما بريئان.»
فقال الرشيد: «إنما يقتلان بذنبكما، ولا يمحو هذا الذنب غير القتل.»
فلما رأت العباسة أن الاستعطاف لا يجدي نفعا، عادت أنفتها وعزة نفسها، ومسحت دموعها، ونظرت إلى الرشيد نظرة حادة كادت تخترق صدره لولا إصراره على الغضب، وقالت: «ألا تزال تعد عملنا ذنبا ونحن إنما أطعنا به أمر الله؟»
قال الرشيد: «لا تحاولي محالا؛ فقد عصيتما أمير المؤمنين فارتكبتما خيانة لا صبر لي على احتمالها.» ووقف كأنه يهم بالخروج، فاستوقفته العباسة وقالت: «لقد أحرجتني يا هارون حتى ألجأتني إلى التصريح بما لم تتعود سماعه مني ولا من امرأة سواي. كيف تحرم علينا أمرا أحللته لنفسك؟»
فانتهرها الرشيد ويده على قبضة خنجره قائلا: «بمثل هذا الخطاب تخاطبينني يا وقحة، وتقولين إني أرتكب مثل جريمتكما؟»
فقالت العباسة: «نعم، أقول لك ذلك ولا أخاف لائما؛ فإن ما تحاسبنا عليه زواج شرعي عقدته أنت بيدك، ولا تحاسب نفسك، ولا أنا أحاسبك على مثله، ولكني أذكرك بمن في قصرك من الجواري والسراري، فإنهن كثيرات، ولا ترى بأسا في التمتع بهن والشرع ينهاك عنهن؛ فكيف تنهاني عن زواج رجل شرعي. أليس ذلك من الظلم؟ تتهادون الجواري بالعشرات والمئات بلا حرج ولا بأس، حتى إن نساءكم يهدينكم منهن ما يطيب لكم. هذه زوجك أم جعفر قد أهدتك عشر جوار من أجمل النساء!
1
وقد فعلت ذلك وهي لا ترى فيه حطة ولا ذنبا لها ولا لك، ولكنكما تريان ذنبا لمثلي أن تتزوج من رجل عقدت له عليها عقدا شرعيا، وإذا استعطفتك غضبت وهددتها بالقتل، وهددت زوجها بالقتل أيضا، ولا ترضى مع ذلك إلا بقتل طفلين لا ذنب لهما، ولا تقبل فيهما شفاعة من والدتهما الحزينة التي رضيت أن تقتلها وتبقيهما.»
الفصل الحادي والستون
الفتك
فلما سمع الرشيد قولها وما فيه من الجرأة، لم يعد يصبر على رؤيتها، فانتهرها قائلا: «أراك تماديت في القحة، وقد أخطأت لأني أفسحت لك مجال القول، وقد نفد صبري وآن لي أن أفرغ منك.» ثم نادى: «مسرور.»
فدخل ذلك الفرغاني الغليظ القلب وحسامه إلى جانبه، فلما رأته العباسة استعاذت بالله من رؤيته، وتحققت من قرب منيتها، فالتفتت إلى الرشيد وقالت: «إني مقتولة الآن لا محالة، وليس من يدفع عني هذا القضاء. فإذا كنت لا تصدقني بدفاعي عن نفسي، فإني أتوسل إليك أن تصدقني في جعفر؛ فإنه لا يستحق القتل، ولا ذنب له في شيء مما تتهمه به، وارفق بالطفلين.» قالت ذلك وخنقتها الدموع.
أما الرشيد فحين دخل مسرور صاح فيه: «هل أوصدت أبواب القصر وحبست أهله؟»
فقال مسرور: «نعم يا مولاي.»
قال الرشيد: «وأين الخادمان والفعلة الذين أتيت بهم معك؟»
فقال مسرور: «هم على مقربة منا. هل أدعوهم؟»
قال الرشيد: «ادع الخادمين فقط.»
فخرج مسرور ثم عاد ومعه خادمان يحملان صندوقا كبيرا، فلما رأت العباسة ذلك تحققت من أنها مقتولة، والتفتت إلى أخيها فرأته قد حول وجهه عنها وأشار إلى مسرور، فهجم عليها بالسيف، فقالت لأخيها: «أنت مصر على قتلي؟ ألا تخشى الله في؟ تقتلني لأني أطعت الله وعصيتك، ولكنكم - معاشر الرجال - تحللون لأنفسكم ما تحرمونه على نسائكم. أمن العدل
قصرك مئات من السراري والجواري وتقتلني من أجل رجل تزوجته بشرع الله وسنة رسوله؟ إنني لا أبالي أن أموت ولقد لقيتك وناقشتك الحساب.» ثم خفضت صوتها وقالت: «ولكنني أبالي أن ترتكب ذلك بزوجي العزيز وولدي الحبيبين!» ثم ولت وجهها نحو طريق الحجاز حيث تظن أن ابنيهما يقيمان، وقد تعودت أن تستنشق ريحهما من تلك الجهة، وقالت: «أستودعتكما الله يا حسن ويا حسين.» ثم حولت وجهها نحو الشماسية كأنها تهم أن تناجي حبيبها، فسبقها مسرور بالسيف فقتلها، والرشيد لا يلتفت إليها، وود أنه لم يشهد قتلها؛ لأنه كان يحبها كثيرا، وكثرة محبته لها أوجبت شدة نقمته عليها لما اعتقده من خيانتها.
فلما سقطت العباسة ميتة أومأ مسرور إلى الخادمين فوضعاها في الصندوق، ونادى الرشيد: «أين الفعلة؟» فخرج مسرور وعاد بهم - وهم عشرة من الرجال الأشداء يحملون المعاول والزنابيل، وقد حسروا عن سواعدهم، وشمروا عن سيقانهم كأنهم من الأبالسة - فأمرهم أن يحفروا وسط تلك المقصورة، فحفروا حتى بلغوا الماء، فقال: «حسبكم. هاتوا الصندوق.» فأتوا به وأدلوا به في تلك الحفرة، ثم قال: «ردوا عليه التراب.» ففعلوا وأعادوا الموضع كما كان. ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه، وأمر مسرورا أن يحرس القصر ولا يدع أحدا يخرج منه أو يدخل إليه، فأوصى الحرس بذلك وشدد عليهم، وقال: «أي إنسان يأتي إلى هذا المكان، اقبضوا عليه.»
ثم قال الرشيد لمسرور: «خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرهم ووافني في القصر.» ففهم مسرور أنه يأمره بقتلهم، فأخذهم ووضعهم في جواليق، وخيط عليهم بعد أن أثقلهم بالصخر والحصى، ورماهم في وسط دجلة، وعاد إلى قصر الخلد، فوجد الرشيد هناك وقد طار نومه، فلما أقبل سأله الرشيد: «هل فعلت ما أمرتك به؟»
فقال مسرور: «قد أعطيت القوم أجورهم.»
1
فقال الرشيد: «خد هذا المفتاح وأبقه معك حتى أسألك عنه.» ودفع إليه مفتاح المقصورة.
فتناوله مسرور وقال: «سمعا وطاعة.»
وكان الصبح قد اقترب، فقال الرشيد: «نحن في صباح الخميس، وهو موعد موكب جعفر الوزير؛ فلا تبعد عني.»
فأومأ مسرور مطيعا.
الفصل الثاني والستون
الوداع
أما جعفر فقد كان في غفلة عن كل ذلك وهو يتهيأ للرحيل في الغد، وقد صمم على السفر عاجلا بعد ما جرى من الحديث بينه وبين إسماعيل؛ مما زاد من مخاوفه. ولم يكن له بد من وداع الخليفة قبل خروجه إلى خراسان على جاري العادة في خروج العمال إلى أعمالهم. وكان قد أعد كل شيء ولم يبق غير الركوب والخروج، فلما عزم على وداع الرشيد نادى خادمه حمدان فجاء، فقال له: «إنك تعلم أننا مسافرون اليوم.»
فقال حمدان: «نعم يا مولاي. فهل أذهب إلى مولاتي العباسة فآتي بها إلى هنا، أو نوافيك إلى النهروان؟»
فاستحسن جعفر سرعة خاطره وتيقظه في خدمته، فابتسم وقال: «بل أرى أن توافياني إلى النهروان، وليس هناك ما يدعو إلى العجلة في الذهاب إليها. والأفضل أن تؤجل ذلك إلى حين عودتي من وداع الخليفة.»
فقال حمدان: «أمرك يا سيدي.»
فلما كان الضحى خرج جعفر في موكبه الحافل، وحوله الفرسان والركابية حتى أقبل على قصر الخلد، فوسعوا له، فدخل الأبواب بالأبهة والعظمة على جاري العادة وهو يقول في نفسه: «هذه آخر مرة أدخل فيها هذه الأبواب للقاء رجل أداجيه ويداجيني، فمتى صرت إلى عملي في خراسان كنت بين أهلي وأعواني، ولا نظننا نلتقي بعد الآن إلا إذا جاءني لحرب.» وما لبث أن وصل إلى دار الخاصة فترجل.
وكان الرشيد قد جلس للناس فدخلوا على اختلاف مناصبهم وانصرفوا، حتى دخل جعفر وسلم، فرد عليه الرشيد التحية بأحسن منها، ورحب به، وضحك في وجهه، وأجلسه في مرتبته - وكانت أقرب المراتب إليه - وأخذ يحدثه ويلاطفه ساعة وهو يظهر البشاشة والاستئناس. وأتوه وهو هناك بكتب وردت من النواحي فقرأها على الرشيد وأمضاها، ثم نظر إليه وهو يظهر الامتنان من احتفائه به وقال: «لقد غمرني أمير المؤمنين بنعمه، وأعلى مقامي حتى أسند إلي أعظم عمل من أعمال دولته، فوجب علي شكره.»
فضحك الرشيد ومازحه وقال: «إنك أخي، ولو قسمت هذه المملكة بيني وبينك لأنصفتك.»
فتظاهر جعفر بالخجل من هذا الإطراء، وتأدب وتلملم في مقعده وقال: «إني من موالي أمير المؤمنين، وكل ما يأتيني منه إنعام وتفضل على مولاه.» ثم قال: «وإن أقصاني أمير المؤمنين عن مجلسه، فإني عبده أبذل دمي في طاعته.»
فقال الرشيد: «بورك فيك. ولا شك أني سأشعر بافتقاري إلى رأيك بعد أن توليت أمور الدولة وتركتني لا أهتم بشيء من أمر نفسي.»
فلما سمع جعفر قوله تذكر أنها نفس العبارة التي قالها لإسماعيل حينما باحثه أمس فوخزه ضميره، وخشي أن يكون كلامه قد بلغ الرشيد، ولكنه استبعد أن ينقله إسماعيل، ولم يدر في خلده أن ذلك الغلام كتب به إليه، مع علمه أنهم يتجسسون كل واحد على صاحبه، على أنه لم يعمل فكرته في ذلك؛ لاعتقاده بقرب النجاة من هذه المخاوف بالخروج إلى خراسان، فأظهر شكرا لإطراء الرشيد وقال: «مهما بذل العبد في خدمة مولاه فلا منة له ولا فضل.»
ومكث جعفر ينتظر أمر الرشيد بانصرافه إلى خراسان؛ لأن التأدب يقضي أن يبدأ الخليفة بذلك، فلما لم يسمع منه شيئا في هذا الشأن قال: «هل يأذن لي أمير المؤمنين بالانصراف؟» ولم يذكر خراسان؛ فقد تحمل عبارته على أنه يطلب الانصراف إلى منزله.
فقال الرشيد: «هل تهيأت للسفر إلى عملك؟»
قال جعفر: «نعم يا سيدي.»
فقال الرشيد: «وهل تنوي الذهاب في هذا اليوم؟»
قال جعفر: «إذا أمر أمير المؤمنين.»
وكان الرشيد يريد تأخيره بحيلة ريثما يدرك غرضه، فمتى أراد الفتك به كان قريبا منه؛ لأنه ظل حتى تلك الساعة مترددا في ذلك الأمر لما يعلمه من أحزاب البرامكة، حتى بني هاشم أنفسهم كان أكثرهم يحبونهم، فعلم أن الفتك بجعفر يقتضي الاحتياط وإعمال الفكرة، فهو ليس كالفتك بالعباسة، فرأى أن يحتال في تأخير سفره، فقال له: «وهل استطلعت ارتفاع نجمك في هذا النهار؟»
قال جعفر: «كلا يا مولاي.» وكانوا شديدي التمسك بالطوالع يعتقدون بالسعد والنحس في النجوم باختلاف الساعات، وكانت منازل الكبراء لا تخلو من أسطرلاب لإخراج الطالع عند اللزوم، وكان عند الرشيد أسطرلاب متقن الصنعة ورثه عند جده أبي جعفر المنصور؛ لأنه كان شديد العناية بالتنجيم والمنجمين. وكان الأسطرلاب موضوعا على رف من الأبنوس المرصع بالعاج بجانب سرير الرشيد ليستخدمه عند الحاجة، وكان له إلمام بهذه الصناعة، وجعفر أعلم منه، فبادر الرشيد حينئذ إلى الإسطرلاب وأمر الحاجب أن يأتيه ببعض المنجمين، فما لبث أن جاء بأحدهم؛ لأنهم من جملة أرباب الفنون المقيمين في قصر الخلد على عادة الخلفاء في ذلك العصر.
فلما دخل المنجم قال له الرشيد: «كم مضى من النهار؟»
فقال المنجم: «ثلاث ساعات ونصف ساعة.»
قال الرشيد: «خذ الارتفاع.»
فأخذه المنجم وأخبر الرشيد، فجعل الرشيد يحسب له ذلك بنفسه، ونظر إلى نجمه ثم التفت إلى جعفر وقال: «يا أخي، هذه ساعة نحس لا أرى إلا أنه يحدث فيها حدث؛ فالأوفق أن تؤجل سفرك إلى الغد، وهو يوم الجمعة، فتصلي وترحل في سعودك، وتبيت في النهروان، وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق في النهار؛ فإنه أصلح من اليوم.»
فشق هذا التأجيل على جعفر، وأخذ الطالع وحسبه لنفسه. وربما رأى غير ما قاله الرشيد، لكنه ليس من آداب مجالسة الخلفاء أن يراجعوهم أو يخطئوهم. ولعل الرشيد أدرك ذلك، فلم يقبل حساب المنجم، فحسب الطالع بنفسه.
فقال جعفر: «صدقت يا أمير المؤمنين؛ إن هذه الساعة ساعة نحس، وما رأيت نجما أشد احتراقا ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم، ورأي أمير المؤمنين صواب.»
ولبث جعفر ينتظر أمر الانصراف على عادة الخلفاء، فتزحزح الرشيد، فقام جعفر وخرج يلتمس قصره، والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه في داخل القصر، وعلى قارعة الطريق، وفي كل مكان، والكل غافلون عن حقيقة حاله وما يحدق بحياته من الخطر. وأكثر ما يشاهده الناس من مظاهر السعادة في أهل الدولة أو أرباب الثروة يقدرونه فوق قدره؛ لأنهم غافلون عما يشوبه من المتاعب والأخطار.
خرج جعفر من قصر الخلد وهو لا يصدق أنه سيستقل بعمله في خراسان، ويعيش آمنا بين أهله وأعوانه، ومعه زوجته العباسة وابناهما، وينجو من دسائس أهل البلاط وما يهدده من خطر على حياته.
فلما وصل جعفر إلى قصره بالشماسية بعث إلى حمدان، فلما أتى أخبره بتأجيل السفر إلى الغد، وأوصاه أن يهتم بأمر العباسة، فيبقى في الشماسية بعد سفره حتى يخيم الظلام، ثم يمضي إلى قصرها ومعه الركائب يحملها ومن شاءت نقله معها إلى النهروان، أو يسير بهما إلى ما وراء ذلك لتكون في مأمن. وهو يعلم أنها تحب أن تصطحب عتبة وأرجوان، ولكن حمدان لا يحتاج في مثل هذا إلى توصية لذكائه وإخلاصه. ثم خلع جعفر ثيابه وجلس للراحة.
الفصل الثالث والستون
عتبة وحارس القصر
أما عتبة فكانت قد أمرتها العباسة ساعة مجيء الرشيد أن تبعث إلى جعفر، فتخبره بما يهدده من الخطر لعله ينجو بنفسه، فمضت إلى غرف الجواري والخدم لترسل أحدهم في هذه المهمة، فرأت القصر محاطا بالحرس ولا سبيل إلى الخروج، فعظم عليها الأمر، وذهبت إلى غرفتها ترتعد خوفا على سيدتها بعد ما شاهدته من مجيء الرشيد على تلك الصورة، وأخذت تفكر فيما دهمها من الأمر، وأيقنت أن سيدتها ستصاب بشر عظيم، ولم تعلم أنها مقتولة بعد قليل. وما إن تحققت من قتلها حتى بكت وندبتها، وعلمت أن الخطر سيمتد إليها، ولكنها احتقرت حياتها بعد هذا المصاب، وأصبح همها أن تنفذ وصية سيدتها إلى جعفر؛ لأنها لم تكن تشك في قتله بعد قتل العباسة، فلا بد من أن تنبهه إلى ذلك لينجو بنفسه، فأعملت فكرتها في وسيلة تنذره بها، فرأت السبل مقفلة في وجهها، فزادت حيرتها وطلع الفجر وهي تطوف من غرفة إلى غرفة وهي تبكي وتندب.
ثم رأت أن البكاء لا يجديها نفعا، وأحست أن خير ما تفعله في تلك الساعة أن تسعى في الخروج من القصر، فإذا خرجت نجت من القتل وأبلغت الخبر إلى جعفر، وفي نجاته تعزية لها على مصابها في سيدتها، وانتقل فكرها فجأة إلى أبي العتاهية؛ لاعتقادها أنه سبب هذه المصائب كلها، فلعنته، وتذكرت ما كان من حبه لها، وكيف طلبها من الخليفة وأبت المجيء إليه، فخيل لها أنها إذا وفقت إلى مقابلته فلربما استرضته بإظهار حبها له، وهو لا يعجز عن إخراجها من ذلك القصر؛ لما تعلمه من دالة الشعراء ونفوذهم، فإذا خرجت لا تعدم وسيلة في الوصول إلى جعفر، وتذكرت رغبة أبي العتاهية في المال - وهو كثير بين يديها - فإذا لم تستعطفه بالحب أغرته بالمال. ولما تصورت ذلك أحست بارتياح، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الانقباض؛ لأنها لا تعلم أين هو أبو العتاهية في تلك الساعة، ولا كيف تصل إليه.
ثم خطر لها أن المال يذلل الصعاب، ويلين أغلظ القلوب، فعزمت على بذله في أقرب الأسباب، فأخرجت عقدا من الجوهر كان في جملة ما جمعته من حلي مولاتها للسفر، وتنكرت في ثوب غريب، وتقنعت بخمارها، ولبست خفها، وخرجت تطلب باب القصر، وهي تتجاهل الأوامر بالاحتفاظ به مغلقا. فلما بلغت الباب ووجدته مقفلا قرعته ونادت البواب الذي كان عليه من عهد مولاتها العباسة، فلم يجبها أحد، فقرعته ثانية، ففتحت الخوخة وأطل منها رجل عرفت أنه حارس من جند الرشيد، فقالت له: «أين البواب؟ ما بالكم أقفلتم علينا الأبواب؟»
فأقفل الحارس الخوخة وتحول وهو يقول: «ادخلي. لا سبيل إلى الخروج.»
فقالت عتبة: «ويلاه! ولماذا؟»
فصاح فيها الحارس: «أدخلي ولا تكثري من الكلام؛ فإن القصر مقفل بأمر أمير المؤمنين.»
فصفقت عتبة وصاحت: «ما الذي جاء بي إليه؟»
فأدرك الحارس من ذلك أنها ليست من أهل القصر، ففتح الخوخة ونظر إليها، فرآها تبالغ في التقنع وهي تقول: «بالله عليك إلا فتحت لي وأطلقت سبيلي؛ فإني لم أرتكب ذنبا، ولا أنا من أهل هذا القصر.»
فقال الحارس: «وما شأنك؟»
قالت عتبة: «جئت البارحة في مهمة إلى مولاتنا العباسة، وخيم الظلام قبل الفراغ منها، فقضيت ليلتي مع بعض الجواري وأنا عازمة على الخروج إلى سيدي لئلا يستبطئني ويسيء بي الظن.»
فقال الحارس: «ومن هو سيدك؟»
قالت عتبة: «سيدي أبو العتاهية؛ شاعر أمير المؤمنين.»
فلما سمع الحارس اسمه استأنس به لشهرته. والشعراء يومئذ زينة مجالس الخلفاء.
فقال الحارس: «وما الذي جئت به من قبله؟»
فأظهرت عتبة أنها تخشى التصريح بذلك وظلت ساكتة.
فقال الحارس: «ما بالك لا تجيبينني؟»
قالت عتبة: «جئت من قبله في مهمة إلى مولاتنا العباسة و... و...؛ فافتح لي ولا تعطلني، حفظك الله وأبقاك.»
فلم يشك الحارس في أنها تقول الصدق، فأراد العبث بها فقال: «أتيت في مهمة سرية؟ إذن امكثي في مكانك واحفظي سرك معك.» قال ذلك وأغلق الخوخة.
فصاحت عتبة: «أستحلفك بالله أن تفتح لي ولا تضايقني؛ فقد كفاني تأخري الليلة الماضية، ولا آمن من شر أتوقعه بسببه، فكيف إذا تأخرت الليلة أيضا؟!»
فعاد الحارس وفتح الخوخة وقال لها: «لا أطلق سراحك إلا إذا أخبرتني عن السر الذي جئت به.»
قالت عتبة: «أراك تعبث بي وقلبك مستريح وأنا قلقة، فإذا لم تصدق قولي فإني أستشهد بمولاتي العباسة عليه. ألا تصدقها؟»
فزاد الحارس تظاهرها بالسذاجة اعتقادا بصدقها، ولكنه تذكر تشديد الرشيد عليه، فخاف أن يخرجها ويتحمل تبعة ذلك، فقال لها: «هذا لا يهمني؛ فإني مأمور بمنع أهل هذا القصر من الخروج، والسلام.» وأراد إقفال الخوخة، فأمسكتها عتبة منه وحاولت فتحها وهي تقول: «وإذا أخبرتك بسبب مجيئي، فهل تطلق سراحي؟»
قال الحارس: «وما هو؟ قولي.»
فقالت عتبة وهي تخفض صوتها: «أظنك تعلم أن أبا العتاهية، أن أبا العتاهية أبطل نظم الشعر.»
قال الحارس: «نعم، أعلم ذلك.»
فقالت عتبة: «وأظنك تعلم أنه يحب المال.»
قال الحارس: «إنه مشهور بذلك.»
فقالت عتبة: «فإذا أراد المال نظم القصائد سرا لبعض الأمراء، فنظم أمس قصيدة في مدح العباسة وبعثها معي، فحملتها إليها مساء أمس، فدفعت إلي الجائزة وأكرمتني بالمبيت هنا. ليتها لم تفعل.» وهزت رأسها.
فقال الحارس: «وما هي تلك الجائزة؟»
فتظاهرت عتبة بالخوف من التصريح وتوقفت عن الجواب، فابتدرها الحارس قائلا: «لم لا تقولين؟»
فقالت عتبة بلهجة الخائف المستعطف: «بلى.» ومدت يدها إلى جيبها فأخرجت العقد، فأبرق بين أناملها كالشمس، فمد الحارس يده ليتناوله، فأسرعت في إرجاعه إلى جيبها، فقال لها الحارس: «أريني إياه.»
فدفعته عتبة إليه وهي تظهر خوفها عليه، فتناوله وأخذ يقلبه ويعجب به وهو يقول لها: «إنه عقد ثمين، ولكن هل تظنين أني أخرجك بهذا العقد وأنا لا أملك جوهرة من جواهره؟»
فقالت عتبة وهي ضاجرة: «يهمني الخروج والسلام.»
فلما رآها الحارس تتلهف على الخروج قال لها: «إذا شئت الخروج فاخرجي وحدك!»
فقالت عتبة للحارس: «وماذا أقول لأبي العتاهية؟»
قال الحارس : «قولي له إن مولاتك العباسة لم تعطك شيئا.» فسرها قبوله ذلك، ولكنها قالت له: «ولكنه لا يصدقني، وأرى أن أنصف بينكما، فأعطيك نصف الجائزة وأحمل إليه نصفها الآخر.»
ففرح الحارس بذلك وبادر في الحال فقطع العقد وأخذ معظمه، ودفع إليها بالباقي وقال لها: «يكفيك هذا القدر؛ فإذا أعجبك ذلك فأخرجي، وإلا فادخلي.»
فأطرقت عتبة لحظة ثم قالت له: «بل أخرج، وأحسب أنها لم تعطني شيئا.»
فسر الحارس لفوزه بتلك الجواهر وفتح الباب وقال لها: «اخرجي، ولكن احذري أن تخبري أحدا بخروجك؛ فإنك تقتلين لا محالة.»
فخرجت عتبة وهي لا تصدق أنها نجت، وقلبها يكاد يطير فرحا بإطلاق سراحها من ذلك الأسر، وأملا في نجاة جعفر. وكان الحارس أكثر فرحا منها. وكانت الشمس قد أشرقت، فأسرعت لا تلوي على شيء، واكترت حمارا وركبت قاصدة قصر جعفر بباب الشماسية.
الفصل الرابع والستون
الدعوة
أما جعفر فتركناه في قصره وقد خلع ثيابه للراحة، ثم خطر له أن يجلس للصبوح؛ وهو مجلس كانوا يعقدونه للشراب صباحا، فأراد أني يودع بغداد به، فأمر بإعداد المائدة، وجاءوه بالشراب، وسأل عمن في داره من المغنين، فقالوا له: «إن أبا زكار الأعمى هنا.» فقال: «إلي به.» فدخل ونصبت الستارة واستدعى جواريه ليغنينه فيتودع من مجالستهن في دار السلام؛ لاعتقاده أنه مسافر في صباح الغد، فأخذ أبو زكار يغني والجواري يضربن على العيدان، وجعفر يشرب ويطرب، ويظن أن الناس غافلون عما بينه وبين الرشيد. وربما علموا من ذلك أكثر مما يعلمه هو، ولا سيما المغنين؛ فقد كانوا يطلعون على أسرار الناس بما يتاح لهم من حضور مجالس الأنس التي يدور فيها الشراب، فإذا طرب الجلساء بدرت منهم بوادر تشف عن سرائرهم، والمغنون يتجاهلون ذلك ويكتمونه خوفا على حياتهم؛ فالرشيد مع تكتمه في أمر جعفر لم يكن ليخفى سره على مغنيه الموصلي، حتى قيل إنه سأله ذات مرة وهو في أحد مجالسه: «بماذا يتحدث الناس؟» فأجابه الموصلي: «يتحدثون بأنك ستقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة.»
1
فانتهره الرشيد وصاح فيه قائلا: «ما أنت وذاك؟ ويلك!»
وكذلك أبو زكار الأعمى، فإن عماه كان يحفز جلساءه على التصريح بأكثر مما يصرحون به أمام سواه، فكان على بينة بما يحيط بجعفر من الخطر، وربما ألمع إلى ذلك في بعض غنائه فلا يلاحظه غير العارفين. فلما دعاه إلى الغناء في ذلك اليوم غناه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما
وإن بقيت تصير إلى نفاد
ولو فوديت من حدث الليالي
فديتك بالطريف وبالتلاد
2
فلما سمع الحضور قوله أدركوا مراده ما عدا جعفرا. وما أتم أبو زكار غناءه حتى فتح الباب ودخل الحاجب، فقال له جعفر: «ما بالك؟»
فقال الحاجب: «إن مسرورا خادم أمير المؤمنين بالباب.»
فلما سمع اسمه أجفل؛ لأنه كان يبغضه ويستثقل ظله، لكنه لم يسعه إلا الإذن له في الدخول، فدخل، فصاح فيه جعفر: «ما وراءك؟»
فقال مسرور: «أمير المؤمنين يستدعيك يا سيدي.»
فانزعج جعفر من تلك الدعوة وقال له: «ويلك يا مسرور! أنا خرجت من عنده في هذه الساعة! فما الخبر؟»
فقال مسرور: «وردت كتب من خراسان يريد منك أن تقرأها له.»
فاطمأن خاطر جعفر قليلا، فنهض وهو يقول في نفسه: «كنت أحسب مقابلتنا في هذا الصباح آخر مرة ألاقي فيها هذا الرجل في بغداد، فإذا أنا مضطر للقائه مرة أخرى. لا حول ولا قوة إلا بالله.»
ثم دعا بثيابه وسواده وقلنسوته فلبسها وتقلد سيفه، وأمر أن تعد له الركائب، وخرج وانفض المجلس. وفيما هو خارج من القاعة ومسرور بين يديه جاءه الحاجب ووقف بحيث يراه ويفهم أنه يريد مخاطبته، فتحول جعفر إليه وسأله عن غرضه فقال: «إن عتبة؛ جارية مولاتنا العباسة، في دار النساء تطلب أن تراك.»
فخطر له أن عتبة جاءته من عند مولاتها العباسة للتداول في شأن السفر، فقال: «قل لها إني راجع الساعة فأخاطبها بما تريد.»
فقال الحاجب: «إنها تطلب مقابلتك حالا.»
فخطر له أن يقابلها ويسألها عن شأنها، ولكنه خشي أن يلاحظ مسرور ذلك فيبلغه إلى الرشيد ، فوقف برهة يتردد في الأمر، ثم تذكر ريحان، وأنه يعلم بكل ما يتعلق بالسفر، فقال للحاجب: «دعها تقابل غلامنا ريحان وتطلب ما تريده؛ فهو مفوض من قبلنا.»
فأشار مطيعا، وخرج جعفر حتى بلغ باحة القصر، فركب في موكبه من الفرسان والغلمان، وساروا يطلبون قصر الخلد يتقدمهم مسرور على فرس، ويتوسط الموكب جعفر بسواده وقلنسوته، وحوله الفرسان من نخبة رجاله، وأكثرهم من الفرس، وكلهم يفدونه بأرواحهم، وكان إذا ركب اعتز بهم، فقطعوا الشماسية حتى أتوا الجسر، فتخطوه وأقبلوا على الميدان أمام قصر الخلد، فلما وصلوا باب القصر ترجل مسرور، وأشار إلى فرسان الموكب أن يقفوا هناك، فوقفوا وهم في غفلة عما يريد، فدخل مسرور وجعفر والغلمان في ركابه، ولم يفطن لاشتغال خاطره بأمر تلك الدعوة. ولما دخلوا أومأ مسرور سرا إلى الحراس فأغلقوا الباب، وكانوا قد أحيطوا علما بذلك قبل ذهابه، ثم دخلوا الباب الثاني فاستبقى الغلمان خارجه، ودخل جعفر فأقفل الباب وراءه. ولما دخل الباب الثالث التفت فإذا هو وحده ولم يبق معه أحد من رجاله، فندم على ركوبه في تلك الساعة وقد تعذر عليه الرجوع، ورأى في فناء القصر قبة تركية - كان قد نصبها مسرور هناك بأمر الرشيد - وحولها أربعون غلاما من السودان، فظن أن الرشيد ينتظره فيها، فدخلها فلم يجد أحدا، وإنما شاهد في أرضها سيفا ونطعا، فأيقن بالهلاك، ووقف وركبتاه ترتعدان، وغلب عليه الخوف، وصغرت نفسه؛ لعلمه بوحشية مسرور، وأنه لو أراد مقاومته لا يقوى عليه. وهب أنه غلبه فلا فائدة من فوزه وهو محصور في تلك الدار، فعمد إلى الملاينة، فقال لمسرور: «ما الخبر يا أخي؟»
فضحك مسرور في استخفاف وقال: «أنا الساعة أخوك، وفي منزلك تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية، وما كان الله ليهملك ولا يغفلك؛ فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة.»
فلما سمع جعفر قول مسرور بهذه الصراحة اقشعر بدنه، وكاد الدم يجمد في عروقه، وغلب عليه صغر النفس. ولعل ذلك الضعف طرأ عليه من الشرب - ويتوقع القارئ أن يرى من جعفر الوزير ثباتا ورباطة جأش في هذا الموقف شأن الرجل الكبير - ولكن الانغماس في الترف والخمر يضعف القلوب، ويوهن العزيمة، فلا صبر لصاحبهما على التجلد إذا تحقق من وقوع الخطر، ولا سيما ساعة خروجه من مجلس الشراب، كما كان حال جعفر في ذلك الصباح - فلما سمع مسرورا يخاطبه بهذه اللهجة الشديدة لم يتمالك عن الترامي عند قدميه، وأخذ يقبلهما ويقول: «يا أخي مسرور، أنت تعلم مدى إكرامي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف مكانتي من أمير المؤمنين، وما يفضي به إلي من الأسرار، ولعلهم بلغوه عني باطلا، وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، واتركني أهيم على وجهي.»
فقال مسرور: «لا سبيل إلى ذلك أبدا.»
قال جعفر: «احملني إلى أمير المؤمنين وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظره علي تتداركه الرحمة فيصفح عني.»
فهز مسرور رأسه وقال: «ما من سبيل إلى ذلك أبدا، ولا يمكنني مراجعته، وقد علمت ألا وسيلة إلى بقائك على قيد الحياة بأية حال.»
قال جعفر: «أمهلني ساعة وارجع إليه، وقل له إنك فرغت مما أمرك به، واسمع ما يقول، وعد فافعل ما تريد؛ فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة، فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك نعمتي مما ملكته يدي، وأجعلك أمير الجيش، وأملكك أمر الدنيا.»
فلما سمع مسرور هذه الوعود ارتاحت نفسه إليها، وخطر في باله أن الرشيد ربما أمر بالقتل في ساعة غضبه، فإذا سكن غضبه يغير رأيه، ويعفو عنه، فيكتسب هو هذه الأموال، ويتمتع بهذا المنصب، فأطرق. فلما رآه مطرقا طمع في الحياة، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقول: «ربما يكون ذلك.» ومد يده إليه فحل سيفه ومنطقته وأخذهما، وعهد به إلى الحراس الواقفين هناك، وأوصاهم بحراسته وخرج.
فلما خلا جعفر إلى نفسه تلفت فلم ير غير النطع والسيف فرجع إلى رشده. ومع ما يغلب على المرء من الأمل في الحياة مهما بلغ من تعرضه للخطر، فجعفر لم يكن يرجو نجاة؛ لما يعلمه من الأسباب التي بعثت الرشيد على قتله بعد ما كان يدور بينهما من المداجاة والمخادعة، وأيقن في تلك الساعة أن الرشيد يعلم بصلته بالعباسة، ثم تذكر مجيء عتبة بتلك العجلة، فندم على استمهالها ريثما يعود، وخطر له أن تكون قد جاءت بتحذير أو تنبيه كان ينفعه لو اطلع عليه قبل خروجه، فزادت مصيبته، وأصبح كأنه يرى الموت رأي العين، وهاجت أشجانه فتمثلت له العباسة كما فارقها للمرة الأخيرة وقد تواعدا على الفرار إلى خراسان، وتذكر ما كان يرجوه من النجاة بها وبولديه لو سافر بالأمس بغير وداع، أو لو قابل عتبة قبل خروجه، فضاق صدره وتجسمت مصيبته فدهمه البكاء، وود لو أنه يرى العباسة قبل موته ويقبل طفليه قبل هذا الفراق الأبدي، فأخذ في البكاء وجعل يخاطب نفسه قائلا: «وا حسرتاه عليك أيتها الحبيبة! بل وا لهفي على قبلة من ولدي! قضيت العمر أتحرق على ساعة ألاعبهما فيها كما يلاعب الأب أولاده، فلما ظننت ذلك قريبا فإذا هو بعيد عني بعد الأبدية، وأنت يا زوجتي بشرع الله - وإن ادعى أخوك الرشيد خيانتنا - لقد تحملت خطر الموت من أجلي، وعرضت نفسك لغضب هذا الرجل المستبد حبا لي. نعم، لم يحملك على ذلك غير الحب الصادق، ولولاه لكنت في نعمة وسعادة؛ لأن بني هاشم جميعا يتمنون رضاك. ماذا عسى أن يكون حالك إذا عرف أخوك الرشيد بأمرنا؟ فإنه يقتلك لا محالة. إذا لم يكن قد قتلك الآن. هل جاءت عتبة لتخبرني بقتلك، وتحذرني من مثله؛ رفقا منك بحبيبك أن يصيبه ما أصابك؟ ربما كان ذلك. وأنت جديرة بهذه الخصال؛ فقد عرفت تفانيك في سبيل حبي غير مرة. فإذا كنت قد قضيت نحبك قبلي، فأنا نادم على طلب البقاء، بل أنا راغب في اللحاق بك، وإذا كنت لا تزالين على قيد الحياة، فأنت لاحقة بي لا محالة؛ لأن أخاك لم يسرع إلى الفتك بي إلا وقد اطلع على ما يظنه خيانة، والله يعلم أننا إنما أطعنا به الشرع وشروط الحب.» وسكت لحظة ريثما يبلع ريقه ويمسح دموعه ثم قال: «وولدانا؟ يا حسن ويا حسين. أين أنتما الآن؟ هل تعلمان بما حل بوالديكما على يد ذلك الخال الظالم؟ آه من استبداده وقسوة قلبه.» قال ذلك وغص بريقه، وأحس باختناق صوته، وإذا بالمفتاح يعالج الباب، فأجفل وانتبه لنفسه، فسكت وبصره شاخص نحو الباب، حتى إذا فتح دخل مسرور ووجهه مقطب، فعلم أنه لم ينجح في مهمته، وهم أن يخاطبه فسمعه يقول: «ذهبت إلى أمير المؤمنين، فلما رآني سألني عنك، فقلت له قد أنفذت أمرك فيه.» فقال: «ائتني حالا برأسه.»
فلما سمع جعفر قوله تجلد وقال له: «افعل ما بدا لك، ولكنني أسألك سؤالا واحدا أصدقني في الإجابة عنه وأنا في آخر لحظة من لحظات الحياة.»
فقال مسرور: «وما ذلك؟»
قال جعفر: «ماذا جرى للعباسة؟ قل الصدق ولا تخف من وشاية؛ فإن سامعك مقتول.»
فقال مسرور: «إن العباسة قتلت.»
فصاح جعفر: «قتلت! اقتلني. عجل بقتلي؛ لا رغبة لي في الحياة.»
ولم يتم جعفر كلامه حتى ضربه مسرور بالسيف على عنقه فأطار رأسه، فحمل الرأس وهو ينقط دما وذهب به إلى الرشيد.
الفصل الخامس والستون
الرشيد ورأس جعفر
قد علمت أن الرشيد هو الذي أمر مسرورا أن يفعل ما فعله، ودبر هذه الحيلة في إدخال جعفر قصر الخلد منفردا على تلك الصورة إلى القبة التركية. وكان قد أمره بإقامتها في صباح ذلك اليوم على أثر خروج جعفر من دار الخاصة؛ وذلك أن الرشيد ظل بعد خروجه ساعة يخطر في تلك الدار ذهابا وإيابا، ويعمل فكرته قبل الإقدام على ذلك الأمر العظيم، ويتردد بين التعجيل والتأني؛ لعلمه بما للبرامكة من المريدين الذين يبذلون أرواحهم في سبيل نصرتهم، ولكنه أصبح بعد توالي قلقه وطول سهره وهو لم يذق طعاما ولا شرابا، ولا يزداد إلا نقمة وغضبا - والأرق وحده يورث ضيق الخلق، وحدة الطبع، مع ضعف القلب، فكيف إذا رافقه القلق والاضطراب؟ - فخاف الرشيد إذا أجل الفتك به أن يعلم جعفر بمقتل العباسة فيتأهب للدفاع، وربما انقلب الأمر إلى عكس ما يريد. وكان من الجهة الأخرى يحب جعفرا حبا شديدا، وقد ربيا وعاشا معا على غير كلفة، وكان يعده أخا له فيشق عليه قتله، ولكنه كلما خطر الحب في ذهنه اعترضه ما أحفظه عليه من خيانته ومس عرضه، فيقف شعره ويقشعر بدنه، فلا يرى راحة إلا بالإصرار على قتله.
قضى في ذلك حينا وهو يتمشى في الدار منفردا، واستغرق في تلك الأفكار حتى نسي نفسه، ولو دخل عليه أحد في تلك الساعة لرآه يسرع في مشيته تارة ويبطئ أخرى، وهو بين إطراق وتصويب يحك ذقنه، أو يشير بأنامله تهديدا، أو وعيدا، أو استمهالا وترددا، لا ينتبه لشيء مما يكسو جدران تلك القاعة من الستائر المطرزة، أو الطنافس الموشاة، كأنه لا يرى من الألوان غير السواد. وربما وقف لحظة أمام ستارة ليقرأ ما عليها من الشعر، أو ينظر فيما يكسوها من الأشكال. وقد يقرأ البيت أو الفقرة فلا يدرك لها معنى؛ لاستغراقه في الهواجس، فاتفق أنه وقف أمام أسطوانة بجانب سريره قرأ عليها بيتين استفزا عزيمته، وقضيا بتنفيذ أمره؛ وهما:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
وكان مترددا وقد تضارب في ذهنه الإقدام والإحجام، ثم تساويا كأنهما في كفتي ميزان، وإذ توازنا؛ فإن أي شيء يضاف إلى إحدى الكفتين يجعلها ترجح، فما فرغ من تلاوة هذين البيتين حتى رجح عنده الإقدام، فصمم على الفتك به، فصاح: «مسرور.» فدخل بأسرع من لمح البصر، فأوصاه بما يعمله على نحو ما تقدم، ومكث في القاعة ينتظر رجوعه وهو على أحر من الجمر، حتى جاءه بالحيلة التي انتحلها جعفر لعله يصفح، فرده واستعجله بالقتل، فرجع وضرب عنقه وحمل رأسه وهو قابض عليه من لحيته، فتدلى الرأس مقلوبا والدم ينقط من أوداجه، ويسيل على خديه وعينيه وشعره.
دخل مسرور بالرأس والرشيد جالس على السرير، فطرحه على وسادة بين يديه وتنحى في أحد جوانب الدار، فلما وقع نظر الرشيد على ذلك الرأس أحس بزوال الخطر، ولكنه لم يتمالك عن الأسف، فامتقع لونه، وجاشت عواطفه، وتذكر سابق الحب بينهما، فنظر إلى الرأس هنيهة وبيده قضيب من الأبنوس المطعم بالعاج تعود أن يتسلى به وهو جالس، فجعل ينكت البساط به ويخاطب الرأس قائلا: «يا جعفر، ألم أضعك موضع نفسي؟ يا جعفر، ما كافأتني ولا عرفت حقي، ولا حفظت عهدي، ولا ذكرت نعمتي، ولا نظرت في عواقب الأمور، ولا فكرت في صروف الدهر، ولا حسبت لتقلبات الأيام واختلاف أحوالها حسابا. يا جعفر، خنتني في أهلي، وفضحتني بين العرب والعجم. يا جعفر، أسأت إلي وإلى نفسك وما فكرت في عاقبة أمرك.» وكان يقول ذلك والقضيب بيده ينكت به البساط، أو ينقر به أسنان جعفر كأنه يستنطقه، ومسرور واقف يسمع ويرى، ولو كان له قلب لانفطر، ولكنه كان فظا غليظ القلب. «قال الرشيد: يا جعفر، خنتني في أهلي، وفضحتني بين العرب والعجم. يا جعفر، أسأت إلي وإلى نفسك وما فكرت في عاقبة أمرك ...»
وبينما الرشيد يخاطب جعفرا بمثل ما تقدم ويعاتبه، ومسرور لا يجرؤ على حركة ولا قول، إذ سمعا وقع خطوات مسرعة نحو الباب ما زالت تقترب حتى سمعا قرعا وقائلا يقول: «السلام عليك يا أمير المؤمنين. هل أدخل؟»
فأجفل الرشيد؛ لأنه عرف صوت إسماعيل بن يحيى، فأشار إلى مسرور بأن يأخذ الرأس ويمضي، ففعل وخرج من باب في الجانب الآخر من القاعة. ولم ينتظر إسماعيل جواب الرشيد فدخل.
أما الرشيد فما كاد يرسل بصره نحو الباب حتى رأى إسماعيل داخلا والبغتة بادية على وجهه، وحول قلنسوته عمامة لم يحسن هندامها، ولا مشط لحيته أو أصلح من شأنه، كما ينبغي في مقابلة الخليفة.
فلما رآه الرشيد داخلا تجلد ورد التحية، وأشار إليه أن يجلس.
فجلس على مقعد بعيد عن الرشيد وهو يلهث حتى كاد يختنق من العجلة، فنهض الرشيد ومشى نحوه وحاول الابتسام ترحيبا به، ولكن التأثر غلب على تجلده وكظم غيظه.
أما إسماعيل فلما رأى الرشيد واقفا وقف تأدبا، فأمره بالجلوس وجلس إلى جانبه، وقد أدرك أن إسماعيل إنما جاءه في ذلك الحين لأمر هام، فاستعجل في الاستفهام منه عن غرضه، فقال إسماعيل: «جئتك شافعا يا أمير المؤمنين، وإن أبيت فمستمهلا أمرك إلى حين.»
الفصل السادس والستون
قضي الأمر
فأدرك الرشيد أنه جاءه بشأن جعفر، وعجب لاطلاعه على أمره مع مبالغته في الكتمان، كما علمت. وإنما عرف إسماعيل ذلك من ريحان - غلام جعفر - بعد مجيء عتبة بالخبر في ذلك الصباح؛ إذ حينما رفض جعفر مقابلتها وأحالها إلى ريحان، قصت عليه الخبر - وكان الموكب قد مشى - فلم يجرؤ أن يتبعه لئلا تبدو الشبهة لمسرور، فوقع في حيرة وتشاور مع عتبة. ونظرا لما يعلمانه من صداقة إسماعيل وجعفر، أجمعا على الذهاب إليه، فأسرع ريحان إلى قصره، فوجده جالسا في الحديقة، فأخبره بما جرى، واستحثه على التوسط لدى الرشيد، فتعجل في لبس ثيابه، وجاء إلى قصر الخلد فمنعه الحراس من الدخول في بادئ الأمر، ثم أذنوا له فدخل وهو لا يعلم بقتل جعفر - ولم يخطر له أن يعجل الرشيد بقتله إلى هذا الحد - وسأل عن الرشيد فقيل له إنه منفرد في دار الخاصة، فجاء ودخل، كما تقدم.
فلما سمع الرشيد قوله وعلم أنه يشفع إليه في جعفر تجاهل وقال: «إن شفاعتك مقبولة، وأمرك نافذ ولو على ولي العهد.»
فاستبشر إسماعيل وقال: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين وحفظ أنجاله، وإنما أنا أشفع إليك في وزيرك جعفر.»
فهز الرشيد رأسه وقال: «جئت متأخرا يا ابن العم؛ فقد نفذ القضاء.»
فلما سمع إسماعيل قوله أجفل وتراجع وقال: «قتلت جعفرا؟»
فقال الرشيد: «قتلته.»
قال إسماعيل: «قتلته يا أمير المؤمنين؟ قتلت وزيرك وصاحب خاتمك ومدبر دولتك؟»
قال الرشيد: «لا سبيل إلى إطالة القول يا إسماعيل. إن وزيري هذا قد قتل بخيانته، ولو علمت ما ارتكبه وأنت هاشمي لحكمت عليه بالقتل.»
فحسبه إسماعيل يشير إلى ما يتهمونه به من حب الشيعة العلوية بإطلاقه ذلك العلوي، وقد تحدثا عن ذلك من عهد غير بعيد. وكان إسماعيل يعتقد أنه لا يستحق القتل لاطلاعه على سعي أعدائه ووشايتهم به، فقال: «ألم يكن أمير المؤمنين قد عزم على إبعاده إلى خراسان ثم يفكر في شأنه؟»
فقال الرشيد: «قد كنت عزمت على ذلك، ثم رأيت أن التفكير في أمره وهو في قبضتنا أقرب إلى صيانة ملكنا، ونيل مرادنا؛ لأنه إذا سار إلى خراسان كان في أهله وأحزابه، وأهل خراسان لا يزالون ناقمين علينا منذ قتل جدي المنصور أميرهم أبا مسلم. نعم إنهم يعجزون عن مناوأتنا، ولكنهم يشغلوننا، فمن سداد الرأي أن نتدارك الخطر قبل وقوعه.»
فقال إسماعيل: «رأي أمير المؤمنين أصوب، ولكن حساد جعفر كثيرون، وقد وشوا به، وأكثروا ذنوبه، وبالغوا في الطعن عليه، وأمير المؤمنين حريص على الخلافة لبني هاشم، فعجل بقتله، وربما كان بقاؤه أنفع لمصلحة الدولة، ولكن قضي الأمر.»
فلما سمع الرشيد تعريض إسماعيل بذكر الواشين أراد أن يسترق منه أخبارهم؛ لينتقم منهم أو يجتنب أذاهم، فقال له: «وهل أنت على يقين من ذلك يا إسماعيل؟ ومن هم الواشون؟»
فهم إسماعيل أن يطلعه على ما يعلمه من سعي ابن الهادي والفضل بن الربيع وغيرهما، ولكنه أمسك لسانه، وأعمل فكرته، فرأى أن التصريح يزيد الخرق اتساعا، ويزيد الدولة ضعفا وارتباكا، وهو حريص على صيانتها، كما علمت، فلو كان جعفر حيا لكان الخطر من التصريح قليلا. أما وقد قتل فأصبح ذكر الواشين والإقرار بأقوالهم وأعمالهم وشاية أخرى، فندم على ما بدر منه، وعزم على كتمان ذلك فقال: «إذا كنت قد قتلت جعفرا، فإنها إحدى المصيبتين، فإذا ذكرت لك غيره جررت الدولة إلى مصيبة أخرى؛ فليعفني أمير المؤمنين من ذلك، وهو يعلم رغبتي في سلامة هذه الدولة. وقد خالفتني فيما أردته من تبرئة جعفر، فلا تكلفني الوشاية بآخرين، ولو علمت أن في ذلك خدمة نافعة ما كتمته، فأطعني في هذا واعلم أني إنما أكتمه لخير بني هاشم، كما كان تصريحي ببراءة جعفر لنفس هذا السبب. وأرجو من الرشيد ألا يعد كتماني وقاحة. وإذا عده كذلك، فله أن ينتقم بما يشاء ؛ إني لا أبخل بروحي في سبيل هذا الكتمان.»
وكان الرشيد يجل إسماعيل، ويعتقد في إخلاصه وصدق نيته، ويضن بحياته، فقال له: «إن حياتك عزيزة علينا يا عماه، وحاشا لله أن نسيء الظن بك، وهب أنك عصيتنا، فإنما تعصانا لتنفعنا، وأما جعفر فلو كان ذنبه مقصورا على ما علمت من تعرضه للدولة، ونصرته للشيعة؛ لصبرنا عليه، واحتطنا له، كما صبرنا فيما مضى؛ لأن انحيازه للشيعة لم يكن جديدا علينا، ولكنه ارتكب ما هو أفظع من ذلك كثيرا. ارتكب ما لو علمته لسبقتني إلى قتله بسببه، ولا تسألني عما ارتكبه؛ فإني حريص على كتمانه، ولو علمت أن يميني علمت به لقطعتها.» قال ذلك وقد اشتد غضبه، وزاد انقباض أساريره، وارتجفت شفتاه حتى رقصت لحيته، ثم هز رأسه وقال: «آه! آه! لو أستطيع قتله مرة أخرى لفعلت.»
فتهيب إسماعيل من غضب الرشيد، ولم يفته الأمر الذي سمعه يلمح إليه؛ فإن خبر العباسة بلغه على علاته وهو على خلاف رأيه، فتجاهل، ولو رأى مجالا للكلام ما تكلم لئلا يجر الكلام إلى الجدال بلا فائدة؛ لعلمه بشدة غيرة الرشيد على العرض، وحرصه على شرف بني هاشم، فظل ساكتا.
ثم سمعا الآذان لصلاة الظهر، فنهض الرشيد، ونهض إسماعيل واستأذن وخرج.
الفصل السابع والستون
الحسن والحسين
أما الرشيد فأمر صاحب وضوئه فجاءه بالماء فتوضأ وخرج للصلاة في المسجد، فصلى بالناس جماعة ورجع إلى داره، فأنفذ بعض خاصته للقبض على والد جعفر وأخيه وجميع أولاده، وعلى قصورهم ودورهم، واستباح ما فيها، فاستولى رجاله على ما وجدوه هناك من الجواري، واستبقوهم لخدمتهم، إلا ريحان وعتبة؛ فإنهما فضلا اللحاق بمن قتل، فقاوما بعض الذين جاءوا للنهب فقتلوهما، ووجه الرشيد مسرورا إلى معسكر جعفر في النهروان، فأخذ جميع ما فيه من مضارب وسلاح وخيام وغير ذلك.
وأصبح الرشيد يوم السبت وقد قتل من البرامكة وحاشيتهم ألف إنسان، وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه، وحبس يحيى بن خالد؛ والد جعفر، والفضل بن يحيى؛ أخاه، في مطمورة، وأمر بصلب جثة جعفر على جسر بغداد، فصلبت.
فلما اطمأن خاطره ذهب إلى زبيدة زوجته وأخبرها بما كان، فاستحسنت ذلك، ولكنها تذكرت الصبيين فقالت له: «لقد فعلت فعل أهل الحزم، وأنقذت الخلافة من الأعداء، ولكن ما الذي فعلته بالصبيين؟»
فأطرق الرشيد وأعمل فكرته، فابتدرته زبيدة قائلة: «إذا أردت محو العار الذي لحقنا، فبادر إلى إزالة أثره؛ لأن بقاء الصبيين وصمة باقية.»
فقال الرشيد: «وهل تعلمين مقرهما؟»
قالت زبيدة: «إذا شئت دللت خادمك على مكانهما.»
فقال الرشيد: «أخبري مسرورا بذلك.»
فدلته زبيدة على مخبئهما، ومضى الرشيد إلى قصره وجلس ينتظر مجيئهما.
وكان الغلامان قد خبأهما الفضل بن الربيع على يد أبي العتاهية في بيت على شاطئ دجلة، وأوقف عليهما الحراس، فذهب مسرور إليهما وحملهما إلى قصر الخلد بعد أن قتل رياشا وبرة؛ الخادمين القائمين على تربيتهما.
ولما جاء مسرور بالغلامين أدخلهما على الرشيد، وكان جالسا على وسادة وحده.
فدخل الغلامان وهم يدرجان ويضحكان، ووجهاهما يطفحان سرورا وسذاجة وطهارة، يحسبان أن مسرورا جاء بهما إلى فرجة أو وليمة، فلما رأى الرشيد جمالهما انقبضت نفسه أسفا على ما سينالهما من الأذى؛ لعلمه بأنهما بريئان طاهران، ولكنه كان قد صمم على محو أثر تلك الخيانة من الوجود، فتجلد ودعاهما إليه، فأسرعا وتراميا عليه وهما يلتفتان لمشاهدة ما في تلك القاعة من الرياش الفاخر، والألوان الزاهية.
فسأل الرشيد أكبرهما: «ما اسمك يا قرة عيني؟»
قال: «الحسن.»
فقال الرشيد للصغير: «وما اسمك يا حبيبي؟»
قال: «الحسين.»
فأعجب الرشيد بمنطقهما؛ لأن لغتهما وفصاحتهما هاشمية، ثم أعمل فكرته فيما هو عازم عليه من الأمر الخطير، وهو والد يحب أولاده، ولو لم يكن والدا لكان الإقدام على ذلك العمل أسهل عليه؛ لأن الحنان لا ينضج ويبلغ أشده إلا في قلوب الوالدين، والوالد لا يقصر حنانه على أولاده، بل هو يتعود ذلك حتى يحن على كل ولد. وزد على ذلك أن في الغلامين دما هاشميا، والقرابة من أسباب العطف، فعظم الأمر على الرشيد، ولبث حينا يفكر والغلامان يلاعبانه، ويعبثان بلحيته وطوقه، حتى كاد الحنان يغلب عليه، فتذكر ما هو فيه، وخشي غلبة الضعف، فعاد إلى الحزم وسرعة الفتك لئلا يحول بينه وبين ذلك شفيع، فعمد إلى قتلهما، على ألا يرى ذلك بعينيه، ولا يسمعه بأذنيه، فتصادمت عواطفه، وجاشت أشجانه، فغلب عليه البكاء وأغرق فيه حتى منعه من الكلام، والغلامان يتعجبان لبكائه. أما هو فنظر إليهما والدمع يترقرق في عينيه وقال: «يعز علي حسنكما وجمالكما. لا رحم الله من ظلمكما.» ثم قال: «يا مسرور، أين المفتاح الذي دفعته إليك، وأمرتك بحفظه؟»
فقال مسرور: «هو حاضر يا أمير المؤمنين.»
قال الرشيد: «فأتني به.»
ثم دعا الرشيد بجماعة من الغلمان وأمرهم أن يذهبوا مع مسرور إلى تلك الحجرة، ويحفروا فيها حفرة عميقة، وأومأ إلى مسرور بأن يقتل الغلامين ويدفنهما في تلك الحجرة. أومأ بذلك وهو يبكي بكاء شديدا، حتى ظن مسرور أنه رحمهما، ولا يلبث أن يعدل عن قتلهما، فإذا هو قد مسح عينيه ونهض، وأشار إلى مسرور بأن يمشي، فأطاعه ومضى بهما إلى تلك الحجرة، ثم عاد وأخبر الرشيد بأنه قتلهما ودفنهما هناك، وقتل الرجال الذين ساعدوه على ذلك.»
وأمر الرشيد منذ ذلك اليوم ألا يذكر البرامكة في مجلس، ولا يستعان بمن بقي منهم في شيء أبدا، فخرجوا على وجوههم هائمين في البلاد، شاردين متنكرين جائعين
1
عارين، وأصبح الناس يتحدثون بنكبتهم مثل حديثهم بثروتهم وسخائهم، وخلا الجو لأعدائهم، فنالوا ما تمنوه من التنكيل بهم، وتولوا مصالح الدولة بعدهم، ولا سيما الفضل بن الربيع؛ فإنه تقلد الوزارة، وصار إليه الأمر؛ فسبحان مغير الأحوال.
Bilinmeyen sayfa