وهتف الضباط للوطن ولفرعون، وبذلك أعلن انتهاء الحفلة، وغادر الأمير المدرسة، وعاد موكبه الرسمي إلى القصر الفرعوني، وانصرف المدعوون.
وكان ددف في تلك الأثناء في حالة غريبة من الذهول أشذته عما حوله، لا يرجع تفسيرها إلى نشوة الفوز، ولكنه إلى أمر أعظم رهبة في نفسه وأمعن أثرا؛ إذ كان يسمع مع زملائه إلى خطاب الأمير، وتحركت عيناه إلى الخطيب، فعثرتا في طريقهما بوجه الأميرة مري سي عنخ، فرأى منظرا عجبا انخلع له قلبه في صدره. وكاد لقوة المباغتة أن يصعق صعقا ويخر على وجهه خرا، يا آلهة السموات ما هذا الذي يرى! إنه وجه الفلاحة التي يحمل صورتها على قلبه! وود لو يستطيع أن يديم النظر إليه، ولكنه خشي أن يفتضح أمره، فنظر إلى الأمام لا يلوي على شيء. وانتهت الحفلة ولما يفق من وقع المفاجأة والدهشة. فعاد إلى الثكنات كمن به مس.
ترى هل يمكن أن تكون فلاحته الجميلة هي صاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ؟ يا له من أمر بعيد عن التصديق، عسير على تصور الخيال!
ومع هذا هل من الميسور أن يصدق بوجود وجهين بهذا الجمال الفتان؟ وهل ينسى ما لاقته به صاحبة الصورة من كبرياء، لم يكن قط من أخلاق الفلاحات؟ ولكن جميع هذا لا يسوغ له قبول هذا الفرض الغريب، فليته استطاع أن يتحقق من قسمات وجهها!
أما لو كانت هي الأميرة، فقد أتى أمرا كبيرا، لا يستطيع أن يتنبأ بعواقبه، ولم يتمالك عند ذاك من أن يضحك ضحكة ساخرة مريرة، ويقول لنفسه: يا للغرابة! إن ددف بن بشارو يحب الأميرة مري سي عنخ! ثم نظر إلى الصورة طويلا بعينين حزينتين، وتنهد قائلا: هل حقا أنت الأميرة الجليلة! كوني فلاحة بسيطة، فرب فلاحة مفقودة أقرب إلى القلب من أميرة موجودة!
19
وتأهب ددف لمغادرة قصر بشارو - لأول مرة - كرجل مستقل، تاركا في النفوس حزنا ممزوجا هذه المرة بالفخر والإعجاب، وقد قبلته زايا حتى بللت خده بدمعها، وباركه خنى ودعا له، وكان يأخذ أهبته أيضا لترك البيت إلى المعبد، وشد نافا على يده بحرارة وقال له: «إن نبوءتي تحققها الأيام يا ددف.» وودعه كذلك عضو جديد في أسرة بشارو هي مانا ابنة كامادي زوج نافا. أما بشارو العجوز فقد وضع كفه الغليظة على كتفه، وقال له بخيلاء: «إني سعيد يا ددف لأنك تخطو الخطوات الأولى في طريق والدك العظيم.» ولم ينس ددف أن يضع زهرة لوتس على تابوت جاموركا قبل أن يودع بيته في طريقه إلى قصر صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف.
ومن المصادفات السعيدة أنه وجد أن زميله بمخدعه بثكنات قصر الأمير صديق قديم ترجع صداقتهما إلى زمالة الصبا، وكان شابا ودودا مخلص القلب، صريحا ثرثارا، ففرح بقدوم صديقه القديم واستقبله استقبالا وديا، وقال له ضاحكا: أدائما في أثري؟
فابتسم ددف وقال: ما دمت في طريق المجد. - المجد لك يا ددف، لقد كنت الفائز في سباق العربات، أما أنت فجندي لم يسبق بمثله، إني أهنئك من صميم قلبي.
فشكره ددف، وفي المساء أحضر سنفر من صوان ثيابه زجاجة من خمر مريوط وكأسين من الفضة، وقال: اعتدت أن أشرب كأسا من خمر مريوط العذبة قبل النوم، هي عادة مفيدة ... ألا تشرب؟ - إني أشرب الجعة، ولكني لم أذق الخمر؟
Bilinmeyen sayfa