وجاء جند فرعون كالمردة الجبابرة تصهل جيادهم، وتصلصل عجلاتهم، وتتوهج خوذاتهم في شعاع الشمس المائل، ماذا جاءوا يفعلون؟ جاءوا ليقتلوا الطفل البريء والابن الحبيب الذي شرح الرب به صدره على الكبر واليأس.
وكان من رع ما يزال يضرب صدره بكفيه المشتبكتين ويهز رأسه هزات الذهول والبله، ويقول بلهجة الثكلى التي تندب ولدها: «أيها الرب ... إن جماعة منهم تحيط بالعربة، وواحدا منهم يطرح الأسئلة الصارمة على زايا البائسة، ترى عم يسألها! وبم تجيبه؟ وما عسى أن تكون عقبى هذا التحقيق؟ وإن حياة طفلي وزوجي لرهن بكلمة واحدة تنطق بها زايا. رباه! يا رع المعبود! ... ثبت قلبها وطمئن نفسها وأجر على لسانها كلمة الحياة لا الموت، وأنقذ طفلك الحبيب لتقضي قضاءك الذي قضيت به وبشرت.»
وجن جنونه من الجزع، وخيل إليه أن ساعات طويلة تمر ثقيلة متباطئة على هذا الجندي وهو لا يفتأ يسأل زايا ويسد عليها المنافذ. أواه لو يحرك واحد منهم الصوان أو يداخله شك فيما يشتمل عليه؟ بل أواه لو يعلو صوت الطفل بآهة أو صراخ. - صه يا بني ... اللهم ألهم أمه أن تضع ثديها في فمه ... صه يا بني ... إن آهة تخرج من فمك كفيلة بالقضاء عليك ... رباه إن قلبي يتفتت وروحي تصعد في السماء ...
وسكت الكاهن فجأة، واتسعت عيناه وصاح ولكن بفرح شديد هذه المرة: الحمد لرع ... إنهم يتقدمون والعربة تسير في طريقها آمنة من غير سوء ... باسم رع مسيرها وحطها ... الحمد لك أيها الرب الرحيم ...
5
تنفس الكاهن الصعداء وأحس - لفرحه - بحنين إلى البكاء، لولا أن تذكر ما ينتظره من الأهوال والشدائد، فلم ينعم بالطمأنينة إلا لحظات سريعة، ودلف إلى منضدة عليها إبريق من الفضة صب منه من الماء القراح ما روى به غلته.
وما لبثت أن صكت أذنيه جلجلة القوة التي صارت بفناء قصره، والتي جاءت خصيصى للقضاء على المولود الذي كان خطر الموت منه قاب قوسين أو أدنى.
وجاءه خادم يسعى مضطربا خائفا، وأخبره بأن قوة من حرس الملك تحتل القصر وترقب منافذه، وجاء آخر يبلغه أن رئيس القوة أرسله في طلبه سريعا، فتظاهر الكاهن بالثبات ورباطة الجأش، ووضع العباءة المقدسة على منكبيه والقلنسوة الكهنوتية على رأسه، ثم غادر حجرته في خطوات وئيدة تحف به المهابة والجلال الحقيقان بشخصية أون الدينية الكبرى. ولم يتهاون الكاهن في حق هيبته، فوقف على عتبة بهو الاستقبال ووجهه إلى الفناء، وألقى نظرة سطحية على جنود القوة الواقفين في أماكنهم لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل منصوبة من العهد القديم، ثم رفع يده تحية وقال بصوته الرقيق الجليل دون أن يقر نظره على وجه بذاته: يا بني ... حللتم أهلا وسهلا، وليبارككم رع المعبود بارئ الكون وخالق الحياة.
فسمع صوتا مهيبا يرد عليه قائلا: الشكر لك يا كاهن رع المعبود.
فانتفض جسمه لدى سماعه كما ينتفض الحمل لزئير الأسد، وذهبت عيناه زائغتين تبحثان عن صاحب الصوت العظيم حتى استقرتا على قلب القوة، فتولاه العجب والرعب أن يأتي فرعون بذاته إلى بيته. ولم يتردد عن أداء واجبه، فهرع إلى سدته لا يلوي على شيء، فلما بلغ عربته سجد بين يديه، وقال بصوت متهدج: مولاي فرعون ابن الرب خنوم، نور الشمس المشرقة وواهب الحياة والقوة، إني يا مولاي أضرع إلى الرب أن يوحي إلى قلبك الكبير بالإغضاء عن سهوي وجهلي، كي أفوز بعفوك ورضاك.
Bilinmeyen sayfa