وصح ظني، فقد كانت - كما قلت لك - تحب الروايات البوليسية حبا جما، وكنت قد فرغت من الامتحان كما أسلفت فوسعني أيضا أن أعود إلى هذه الروايات، وكان قد صدر منها أخيرا رواية طويلة في مجلدين اسمها «السم في الدسم»، فاشتريتهما وغرقت فيهما - أعني في المجلد الأول - واستغنيت بهما عن هذه النزهات والرحلات التي لم أكن أفيد منها أي متعة، بل كنت أفيد منها التنغيص، وكنت أخفيهما عن عينها مخافة أن تسطو عليهما، وكانت الرواية قد نفدت بسرعة فلا سبيل إلى نسخة أخرى غير التي كانت معي إذا هي ضاعت فلا عجب إذا كنت قد حرصت عليها وضننت بها، ولا أكتمك أن نفسي حدثتني أن أعذبها - أعني سميحة - بعد أن أفرغ من الرواية وأعرف سر الجريمة، وذلك بأن أخايلها بها وأحرك نفسها لها، ولا أمكنها منها، ولماذا لا أعذبها كما عذبتني! ... ثم إن تعذيب المرأة أحيانا لا يكون من القسوة، فقد وجدت على ضآلة تجربتي وقلة خبرتي أنها تستحلي هذا - أعني المكايدة - إذا لم تخرج إلى الإيلام ولم تجاوز الحدود المعقولة ... ومع ذلك من يدري فلعلها تستعذب العذاب بلا قيد أو شرط ... لا أدري.
وفي أحدى الليالي عدت من مأدبة كنت مدعوا إليها مع لفيف من إخواني وأندادي أقيمت لتوديع واحد منا مسافر إلى إنجلترا لإتمام تعليمه هناك، فلما رجعت إلى البيت دخلت غرفتي وأنا أمني النفس بساعة جميلة أقضيها مع الروائي البارع الذي أبدع ذهنه صوغ هذه القصة الممتعة، وإذا بها قد اختفت ... وكنت قد دسستها بين المرتبتين المطروحتين على السرير، فإن أقاربي هؤلاء يخافون الفيران والصراصير فيكدسون المراتب على السرر فتعلو جدا ويحتاج المرء إلى كرسي يصعد عليه، ولم أشك في أن سميحة سرقت روايتي وأنها تنعم بها في سريرها على عادتها حين تريد القراءة، وكانت الساعة الحادية عشرة فقدرت أن تكون قد قطعت مرحلة طويلة وبلغت العقدة التي لا يمكن أن يستريح القلب إذا لم يقف على حلها، فمضيت إلى غرفتها ونقرت ودخلت فقالت: «نعم، خير إن شاء الله.» فقلت وأنا أرفع نفسي لأجلس على حرف السرير - فإنه عال كما قلت لك:«أوه لا شي ... إنما جئت لأتحدث معك قليلا.»
قالت بجفوة: «ليس هذا وقت الحديث فقم من فضلك.»
قلت: «بل قولي إنك تقرئين رواية السم في الدسم ... أليست بديعة؟»
فاطمأنت، لظنها أني فرغت منها ففي وسعها الآن أن تمضي في قراءتها من غير أن تخاف أن أقطع عليها - بالسرقة أو الخطف - حلاوة المتعة، ورأيت أمارات هذا الاطمئنان في وجهها ففرحت، فإن الانتقام يكون أوقع إذا خيب أملا قويا، وأطلت الحديث فسئمت واشتهت أن تعود إلى روايتها وقالت: «هل تنوي أن تنام هنا الليلة ... إذا كنت تنوي هذا فقل لي لأنتقل إلى غرفة أخرى.»
ونهضت عن السرير ومضت إلى الشرفة ففتحتها وأطلت منها، فلمحت الرواية تحت الوسادة فما أسرع ما دسستها في جيبي ثم قلت وأنا أمضي إلى الباب: «إذا كنت تكرهين وجودي إلى هذا الحد فإني ذاهب إلى حيث ...»
فقالت من الشرفة: «ألقت»، وضحكت.
فلم يسوؤني ذلك، فإن الذي يضحك أخيرا يضحك كثيرا كما يقول الإنجليز على ما حدثنا معلمنا. وأوصدت باب غرفتي بالمفتاح واستوثقت منه بهزه مرارا وبقوة لأرى هل يستطيع محنق مغيظ أن يكسره، ثم قعدت على كرسي وراء الباب ورحت أنتظر.
ولم يطل انتظاري فقد اهتز الباب، فصحت وأنا أتكلف الفزع: «من؟»
قالت: «افتح من فضلك.»
Bilinmeyen sayfa