بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحمد لله الواحد القهار. العزيز الغفار. مقدر الأقدار. مصرف الأمور مكور الليل على النهار. تبصرة لأولى القلوب والأبصار. الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار وفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار. وبصر من أحبه للحقائق فزهدوا في هذه الدار. فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار. واجتناب ما يسخطه والحذر من عذاب النار. أحمده حمدا على جميع نعمائه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارا بوحدانيته، واعترافا بما يجب على الخلق كافة من الاذعان لربوبيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه المصطفى من خليقته، وأكرم الأولين والآخرين من بريته، أكرم الخلق وأزكاهم وأكملهم وأعرفهم بالله تعالى وأخشاهم وأعلمهم به وأتقاهم وأشدهم اجتهادا وعبادة وخشية وزهادة، وأعظمهم خلقا، وأبلغهم بالمؤمنين تلطفا ورفقا، صلوات

1 / 5

الله وسلامه عليه وعلى النبيين وآل كل وصحابتهم أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون. أما بعد، فإن الدنيا دار نفاذ لا دار إخلاد، ودار عبور لا دار حبور، ودار فناء لا دار بقاء، ودار انصرام لا دار دوام، وقد تطابق على ما ذكرته دلالات قواطع النقول وصحائح العقول، وهذا مما استوى في العلم به الخواص والعوام، والأغنياء والطغام، وقضى به الحس والعيان حتى لم يقبل الوضوحة إلى زيادة في العرفان: وليس يصح في الأسماع شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ولما كانت الدنيا بالحال التي ذكرتها، والعظة التي قدمتها جاء في القرآن العزيز من التحذير من الركون إليها والاغترار بها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر، وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكمية، فلهذا كان الايقاظ من أهلها العباد، وأعقل الناس فيها الزهاد ولقد أحسن القائل في وصفها:

1 / 6

أنظر إلى الأطلال كيف تغيرت ... من بعد ساكنها وكيف تنكرت سحب البلا أذياله برسومها ... فتساقطت أحجارها وتكسرت ومضت جماعة أهلها لسبيلهم ... وتغيبت أخبارهم وتنكرت لما نظرت تفكرًا لديارهم ... سحت جفوني عبرة وتحدرت لو كنت أعقل ما أفقت من البكا ... حسبي هناك ومقلتي ما أبصرت نصبت لنا الدنيا زخارف حسنها ... مكرًا بنا وخديعة ما فترت وهي التي لم تحل قط لذائق ... إلا تغير طعمها وتمررت خداعة بجمالها إن أقبلت ... فجاعة بزوالها إن أدبرت وهابة سلابة لهباتها ... طلابة لخراب ما قد عمرت وإذا بنت أمرًا لصاحب ثروة ... نصبت مجانقها عليه فدمرت وقال آخر: ومن يحمد الدنيا لعيش يسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرًا همومها

1 / 7

فإذا علم ما ذكرته وتقرر ما وصفته كان حقا على الانسان أن يسلك طريق العقلاء ويذهب مذهب البصراء فنسأل الله الكريم الرؤوف الرحيم أن يمن علينا بذلك ويهدينا إلى أرشد المسالك، وها أنا شارع في جمع كتاب يكون مبينا لسلوك الطريق التي قدمت وسبيلا إلى التخلق بالأخلاق الجميلة التي وصفت، أذكر فيه إن شاء الله تعالى جملا من نفائس اللطائف وحقائق المعارف، وأنثر ما ذكره فيه نثرا ليكون أبعد لمطالعه عن الملل وأقرب للذكرى، ولا التزم فيه ترتيبه على الأبواب فإن ذلك مما يجلب الملل للناظر في الكتاب، وأذكر فيه إن شاء الله تعالى من الآيات الكريمات والأحاديث النبويات وأقاويل السلف المنيرات، ومستجاد لمأثور عن الأخيار من عيون الحكايات والأشعار المستحسنة الزهديات، وأبين في أكثر الأوقات صحة الأحاديث وحسنها وحال روايتها، وبيان ما يخفى ويشكل من معانيها وأضبط ما يحتاج إلى تقييد حذرا من التصحيف وفرارا من التغيير والتحريف. ثم إني أذكره بإسنادي فيه، لكونه أوقع في نفوس مطالعيه، وقد أحذف الاسناد للاختصار وخوفا من التطويل والاكثار، ولكونه هذا الكتاب موضوعا للمتعبدين ومن ليسوا إلى معرفة الاسناد بمحتاجين بل يكرهونه معظم الحالات لما يلحقهم بسببه من السآمات، وأكثر ما أذكره مما أرويه بحمد الله وفضله بالأسانيد المشهورة المعروفة من الكتب الظاهرة المتداولة المعروفة، وإذا كان في الحديث أو الحكاية لفظة لغة أو إسم شخص قيدتها وأوضحتها بالضبط المحكم وأتقنتها، وما احتاج فيها إلى شرح شرحته وما كان معرضا لأن يغلط في معناه بينته، ويندرج في ضمن هذا الكتاب إن شاء

1 / 8

الله تعالى أنواع في العلوم الشرعية، وجمل من لطائفها الحديثية والفقهية والآداب الدينية، وطرف من علم الحديث ودقائق الفقه الخفية، ومهمات من أصول العقائد، وعيون من نفائس القواعد، وغرائب لطيفة مما يستحسن في المذكورات، ويستحب ذكره في مجالس الجماعات، ومعارف القلوب وأمراضها وطبها وعلاجها، وربما يجيء شيء يحتاج إلى بسط لا يحتمله هذا الكتاب، فأذكر مقصوده مختصرا، أو أحيل بسط شرحه إلى كتاب بعض العلماء ذوي البصائر والألباب وربما أحلته على كتاب صنفته أنا، ولا أقصد بذلك إن شاء الله تعالى التبجح والافتخار، ولا إظهار المصنفات والاستكثار، بل الارشاد إلى الخير والاشارة إليه، وبيان مظنته والدلالة عليه، وإنما نبهت على هذه الدقيقة لأني رأيت من الناس من يعيب سالك هذه وذلك لجهالته وسوء ظنه وفساده ولحسده وقصوره وعناده، فأردت أن يتقرر هذا المعنى في ذهن مطالع هذا التصنيف، وليطهر نفسه من الظن الفاسد والتعنيف وأسأل الله الكريم توفيقي لحسن النيات والاعانة على جميع أنواع الطاعات وتيسيرها والهداية لها دائما في ازدياد حتى الممات، وأسأله ذلك لجميع من أحبه ويحبني لله تعالى وسائر المسلمين والمسلمات وأن يجمع بيننا وبينهم في دار كرامته بأعلى المقامات وأن يرزقنا رضاه، وسائر وجوه الخيرات، اعتصمت بالله، استعنت بالله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم إني أسألك بكل وسيلة، وأتشفع إليك بكل شفيع أن تنفعني وأحبابي والمسلمين أجمعين، بهذا الكتاب نفعا عاما بليغا، يا من لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمر وهذا حين شروعي في مقصود الكتاب.

1 / 9