وفي المشكاة «مصباح» وقد يكون من الأوضح لنا أن نتخيل هذا المصباح شعلة النار التي تكون في السراج، والفرق الجوهري بين هذه المرحلة الثانية والمرحلة السابقة، هو أنه بينما يكون الكائن الحاس في المرحلة الأولى «مرحلة المشكاة»، على صلة مباشرة بالمؤثر الخارجي بحواسه، حتى وإن غاب عنه المؤثر الخارجي؛ فمثلا إذا رأى الرائي كرة صفراء حين تكون هناك برتقالة موضوعة أمامه، فتلك هي المرحلة المشكاوية، وأما إذا غابت عنه البرتقالة وظلت صورتها مدركة بخياله، فتلك هي المرحلة المصباحية، ومعلوم لنا أن النبات لا يشارك الإنسان في هذه الخطوة التخيلية، وقد تكون لبعض الحيوان قدرة الاحتفاظ بالصورة بعد غياب مصدرها، بدليل تعرف الحيوان على صاحبه إذا ظهر له بعد غياب. ولنلحظ أن هاتين المرحلتين: المشكاة والمصباح خاصتان بالحواس فلم نجاوزها بعد إلى «العقل»، إلا أن المرحلة الأولى منهما هي مجرد «إحساس»، في حين أن الثانية تنقلنا إلى «الإدراك الحسي». (3)
وأما «الزجاجة» التي يكون المصباح فيها «المصباح في زجاجة»، فلعلنا نذكر جميعا كيف كانت شعلة النار في السراج تظل مضطربة الحركة بفعل الهواء، ويميل لونها إلى الاحمرار مما يضعف نورها، حتى إذا ما ركبنا على السراج زجاجته، انضبطت الشعلة وسكنت ومال لونها إلى البياض، مما يزيد من نورها قوة ووضوحا، وتلك هي المرحلة التي تمثل لنا «المدرك العقلي » وكيف يتكون، وهي مرحلة ينفرد بها الإنسان وحده دون أي كائن حي آخر، ولتوضيح ما يحدث في هذه المرحلة من الإدراك «العقلي»، أقول: إن مرحلتي «الإحساس» و«الإدراك» الحسي، «ويرمز إليهما المشكاة والمصباح على التوالي»، لا تعطيان إلى الإنسان المدرك إلا صورا لأشياء فردية معينة محددة الإدراكية بمكانها وزمانها؛ فمثلا يرى الطفل في أوائل حياته شخصا معينا وشخصا آخر وشخصا ثالثا، وهلم جرا ومع مر الزمن وتعاقب الأمثلة الفردية في خبرته، يدرك أجه التشابه - مع أوجه الاختلاف - في هؤلاء الأفراد، فينتقل إلى مرحلة جديدة يدرك فيها «الإنسان» المتمثل في أولئك الأشخاص الذين كان رآهم أفرادا، وتلك المرحلة في أول «العقل» ورمزها في الآية الكريمة هو «الزجاجة». (4) «الزجاجة كأنها كوكب دري»، ولا بد هنا أن نلحظ كلمة «كأنها»؛ إذ سنبين لك أن «المدرك العقلي» الذي انتهينا إليه في المراحل الإدراكية المذكورة، وإن يكن قد استند إلى ما كانت الحواس قد جاءت به في المرحلتين الأولى والثانية، إلا أنه يختلف عنهما اختلافا كيفيا؛ إذ بينهما نراهما يكتسبان كل وجودهما من مدد خارجي، نجد «المدرك العقلي» قد تميز دونهما باعتماده على مدد داخلي منبثق من ذاته، وفي هذا الجانب يشبه «الكوكب الدري»، أي الكوكب الذي يبعث النور من طبيعته هو، ولا يستمده من مصدر آخر خارجي، كالقمر - مثلا - فهو ليس كوكبا دريا؛ لأن ضوءه مأخوذ من الشمس وكذلك الكوكب الأرضي، ومن هنا نفهم المعنى الذي تؤديه كلمة «كأنها» في قوله تعالى عن «الزجاجة» «وهي التي ترمز إلى المدرك العقلي» «كأنها» كوكب دري؛ إذ هي بأحد جانبها الآخر فهي تستقل بذاتها وتغترف العلم من صميم كيانها ولكن كيف؟ ذلك هو ما تجيب عنه المرحلة الآتية. (5) «يوقد من شجرة مباركة»؛ فالكوكب الدري برغم انبثاق ضوئه من ذاته، إلا أنه - عندما يشير إلى عملية الإدراك العقلي - لا بد له من وقود يحركه ليفعل فعله، ولنحصر انتباهنا الآن في أية عملية إدراكية يؤديها «العقل»؛ لنرى ما هو نوع الوقود الذي لا بد منه لكي يسير العقل في فاعليته وفعله. خذ مثلا بسيطا من الرياضة - والرياضة نموذج واضح للعقل وكيف يعمل - فإذا قلنا : «إن الأربعة نصف الثمانية»، فلاحظ جيدا أن هذا القول لم يستمد مضمونه من أي مصدر خارجي عنه، بل يكفينا أن ننظر في تعريف «أربعة» وفي تعريف ثمانية وفي تعريف «نصف»، وإذا بنا أمام عملية استدلالية صحيحة نبعت كلها من داخل الجملة الرياضية ذاتها؛ فكأننا قلنا: إنه إذا كانت ثمانية تعني كذا، وكانت أربعة تعني كذا، وكانت علاقة النصف تعني كذا، إذن تكون الأربعة نصف الثمانية، غير أن الذي ساعدنا على إقامة هذا الاستدلال الصحيح هو شيء من مبادئ «المنطق» وقواعده، وليست هي مبادئ وقواعد مفروضة على العقل فرضا يلوي طبيعته عن ذاتها، بل هي هي «العقل» نفسه، وكل ما في الأمر أنه يحتاج إلى من يشعل فيه الجذوة لينشط، وتلك هي «الشجرة المباركة» التي «توقد زجاجة» العقل، ومن المهم - لكي نزداد وضوحا بدور «الزجاجة» التي هي «العقل» - أن نسأل: ولماذا هي «شجرة» تلك التي توقد الزجاجة العقلية لتفعل فعلها؟ فيأتيك الجواب من طبيعة الشجرة ذاتها؛ ففي الشجرة فروع تتشابك، الفرع منها ينقسم فرعين، وكل فرع من الفرعين ينقسم بدوره فرعين وهلم جرا، ومثل ذلك الانقسام المتتابع يمثل عملية من أهم ما يميز فعل العقل، وهو ما يسمونه في علم المنطق «بالقسمة المنطقية»، وفيها كثير جدا من أصول «المنهج العلمي»، وحسبي أن أذكر شرطا واحدا جوهريا من شروط التفكير العلمي، وهو شرط الوضوح والتميز، فلكي توقن بصحة علمك عن شيء ما، يجب أن تعرف خصائصه هو ثم تعرف ما الذي لا يختص به، في الشطر الأول يتحقق لك وضوح الحقيقة الماثلة أمامك، وفي الشطر الثاني تعلم ما الذي ينبغي ألا ندخله في تلك الحقيقة الماثلة، وفي قولنا عن شيء ما: إنه كذا وليس كذا شكل من أشكال التفريع إلى فرعين، مما تستمده «زجاجة» العقل من «الشجرة الطيبة»، ولنا أن نضيف إلى خصائص أخرى للشجرة توقد بها زجاجة العقل، فنقول: «الحياة» و«النمو» و«الثمار» إشارة إلى حيوية الفاعلية العقلية ونموها، وما تثمره آخر الأمر من نتائج لا حياة لإنسان بغيرها. (6)
عندما تحدثنا عن الشجرة المباركة من حيث هي موقدة لزجاجة العقل، ونظرنا في الخصائص الشجرية التي يمكن أن تساعدنا على فهم الكيفية التي توقد الشجرة المباركة فاعلية العقل لتشتعل، كان الحديث منصبا على شجرة لم يتحدد نوعها بعد الآية الكريمة، فكل شجرة فيها حياة وفيها نمو وفيها تفريع للفروع وفيها أثمار، وفي حدود هذه الخصائص يتحقق ما يراد للعقل أن يفعله لينتج علما بالوجود، لكن الآية الكريمة بعد أن قالت عن الكوكب الدري «وهو رمز للعقل» إنه يوقد من شجرة مباركة، انتقلت بنا إلى إضافة تحدد نوعا معينا من الشجر، لنضيف تبعا لذلك مرحلة جديدة من مراحل الإدراك إذ قالت: «زيتونة لا شرقية ولا غربية»، فوجب هنا على من أراد الفهم أن ينظر في خصائص الزيتونة وما يسري فيها من «زيت»، وما إن يبدأ في النظر حتى تسعفه الآية الكريمة بالجهة التي يجب أن يتجه إليها، وهو ينظر فيما توحي به الزيتونة وزيتها فيما يتعلق بسياق الكلام، فنقول عن الزيتونة «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار»، إذن فاتجاه الباحث ينبغي أن يكون نحو قدرة الزيت على الاشتعال الذي يضيء، وهنا تستوقفنا كلمة «يكاد»؛ فالزيت المقصود «يقترب» من أن يضيء بذاته، غير مستعين بنار تأتيه من خارجه لتشعله، فإذا كانت الشجرة المباركة منظورا إليها على أنها مطلق شجرة، كانت رمزا لما تحمله فطرة الإنسان التي فطرت فيه بمشيئة خالقه، من قوانين تنظم فعل العقل لينتج من العلم ما ينتجه، فإن تلك الشجرة المباركة نفسها - بعد أن يتعين نوعها «زيتونة» - تتجه بعونها نحو مرحلة إدراكية فوق مرحلة العقل وهي مرحلة «الحدس»، «والحدس مصطلح أظن أن الإمام الغزالي هو أول من استخدمه ليدل على البصيرة التي تدرك ما تدركه إدراكا مباشرا، ولنتذكر هنا أن العقل إدراكه غير مباشر»، لقد كان العقل في إدراكه مقيدا بما يفرض عليه من معطيات؛ إذ ما على العقل إلا أن «يستدل» من المعطيات نتائجها، وبهذا تنتهي مهمة العقل لكن الحاجة إلى مزيد من «النور» لا تنتهي، فكثيرة جدا هي «الأنوار» المطلوبة ليكتمل العلم بالوجود، مما يجاوز حدود العقل المقيد بما يعطى إليه من المقدمات، فالغايات - مثلا - التي يتغياها الإنسان ليست من عمل العقل، ليبحث عن الوسائل التي بها يوصل إلى تلك الغايات، ورؤية الشاعر ورؤية الفنان لا يمليهما «عقل» بل هما لمعات مباشرة، والشوق الذي يملأ قلب المتصوف فيدفعه نحو التماس طريقه إلى الله سبحانه ليس من صنع «العقل»، ولكنه نور يقذف في قلبه وهكذا، ومعنى هذا كله أن «الكوكب الدري» «أي العقل» لم يكن نهاية الدرجات الصاعدة في طريق الإدراك نحو مزيد من «النور»، بل إن هناك درجة تأتي بعد العقل، وهي الدرجة التي ترمز إليها «الزيتونة» بزيتها الذي يكاد يضيء بذاته ولو لم تمسسه نار، وهي درجة الإدراك «الحدسي» المباشر للحق، وعلى هذا الضوء نفهم لماذا كانت الزيتونة لا شرقية ولا غربية؛ لأن مثل ذلك الإدراك الروحاني المباشر لا تقيده ظروف مكانية خاصة كما كانت الحال مع الإدراك العقلي، فهذا الإدراك العقلي - كما رأينا - يتجه بأحد جانبيه نحو ما يعطى إليه من مدركات الحس، ثم يتجه بالجانب الآخر نحو الشجرة المباركة ليستمد منها قوانين فعله فيما أعطيه، وكل هذه الروابط يتجرد منها الإدراك «الحدسي» أو «الروحاني» المباشر، الذي هو في انبثاقه شبيه بالضوء ينبثق من الزيت انبثاقا مباشرا.
لكننا مضطرون هنا إلى العودة بأنظارنا نحو كلمة «يكاد» في قوله تعالى:
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فنشعر بما يرجح لنا أن «الزيت» يرمز إلى «الموهبة» التي يهبها الله تعالى لمن يشاء، والموهبة عند الموهوب لا تكفي وحدها، برغم أن طبيعتها «تكاد» تنطق بما وهبت لتنطق به، إلا أن فعلها على الوجه الأكمل لا يتحقق إلا بنار توقدها وتحركها، وقد تكون تلك النار وحيا يوحى إلى الموهوب، فيهديه إلى أداء ما يؤديه. (7)
إن هذه الدرجات الإدراكية المتتابعة في تصاعد من عملية الإحساس البسيط، الذي هو مجرد تأثر الحواس بما يؤثر فيها من مؤثرات كالأضواء والأصوات وغيرها، تعقبها مرحلة داخلية تجعل التخيل قادرا على أن يحتفظ بما كان قد تلقاه من تأثرات حسية حتى بعد زوال مؤثراتها، وبعد ذلك تأتي مرحلة المدركات العقلية آخذة من الحصيلة الحسية مادتها، ومستعينة بما تعينها به «الشجرة المباركة» من قوانين التعقل، ثم تأتي آخر الأمر مرحلة تجاوز نطاق المحسوس والمعقول معا، إلى ضرب من الإدراك الروحاني المباشر وهي مرحلة يندرج فيها «الإبداع» بكل ضروبه، أقول: إن هذه الدرجات المتتابعة والمتصاعدة هي التي قد يعنيها قوله تعالى:
نور على نور ، ففي كل مرحلة قدر من النور، تأتي المرحلة التي تليها لتضيف إلى نور سابقتها نورا أقوى، ولعل هذا هو أيضا ما جعل الغزالي يعنون كتابه «مشكاة الأنوار»؛ إذ هي عدة أنوار يجيء النور الواحد فيها على النور الأسبق فيشتد الوهج. (8)
بقيت ملاحظتان جديرتان بالذكر: الأولى هي أن نلتفت إلى قوله تعالى في أول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض ، وإلى قوله تعالى في آخر الآية الكريمة:
والله بكل شيء عليم ، مما يرجح أن يكون «نور السموات والأرض» هو «العلم بكل شيء»، أي أن «النور» هو «العلم»، وأما النقطة الثانية التي نوجه إليها النظر فهي أن أول الآية الكريمة وآخرها معا يشيران إلى النور «الإلهي» أو العلم «الإلهي»، في حين أن كل ما أوردناه في حديثنا من مراحل الإدراك، كان يشير إلى النور أو العلم في حياة «البشر»، وهنا قد يقف قارئ ليسأل: أليس في هذا نقلة بالحديث من فلك إلى فلك، أو هو - بعبارة أصرح - خلط بين موضوع وموضوع؟ لكن الجواب عن سؤال كهذا قائم في نص الآية الكريمة ذاته في أولها وفي آخرها معا؛ ففي أولها إشارة إلى أن ما تقدمه الآية الكريمة من مراحل الإدراك، إن هو إلا «مثل» يوضح للإنسان معنى «النور» الإلهي، الذي هو نفسه «العلم» الإلهي، وفي آخرها تنبيه يقول «ويضرب الله الأمثال للناس»، فلا تناقض - إذن - ولا خلط بين ما هو «مثال» وما هو «مثل»؛ فالنور أو العلم حين يكون لله سبحانه وتعالى هو «مثال» يأتينا عنه النبأ، لكننا لا ندركه ولا نتصوره إلا من خلال «المثل» الذي يساق لنا على مستوى البشر وحياتهم كما يحيونها.
Bilinmeyen sayfa