وإذا كانت هذه الصلة الوثيقة - بالنسبة إلى الأمة العربية - قد كانت قائمة بالفعل في كل حلقة من حلقات تاريخها، فالأمة العربية الآن أحوج إليها اليوم أشد مما كانت في أي عصر سابق من عصور حياتها، ولست بذلك أقول إن الأمة العربية كانت دائما على سلام ووئام بين أطرافها، لا، فالتنافس والتقاتل لم ينقطع لهما وجود، لكن ذلك شيء وكونها أمة عربية موصولة حاضرها بماضيها، في سلامها أو في حربها، شيء آخر، وماذا في عصرنا هذا يوجب على الأمة العربية أن تحكم العرى بين أقطارها، لتشتد الواحدية في هويتها الواحدة، أكثر مما فعلت في أي عصر مضى؟ إنه هذا العصر العجيب بمتناقضاته الأعجب، فهو عصر قد أقام من مؤسسات ومنظمات يعلن بها أمله في الوحدة الدولية، ما لم يحلم به عصر مضى، ومع ذلك فهو هو نفسه العصر الذي تشتعل فيه النزعة الوطنية في كل مجموعة من الناس، ترى بين أفرادها تشابها يميزها عن سواها، على صورة لم يشهد لها مثيلا أي عصر مضى، فحتى لو كانت مجموعة الناس المتجانسة دينا، أو عرقا، أو تاريخا، لا تزيد على بضعة آلاف، فهي اليوم لا تطيق أن تنضوي مع غيرها تحت لواء وطني واحد، وتريد أن تستقل وحدها بسيادة وطنية قائمة برأسها، وهكذا يرى الرائي على مسرح العصر نزعة توحد الأمم، ونزعة تفرقها، في نفس واحد.
وفي هذا الإطار الذي يعيش فيه أبناء هذا العصر، وهم حيرى بين رغبة في اعتزال الجماعة المتميزة عن غيرها، من جهة، وخوف من العزلة من جهة أخرى، نرى الآراء عند رجال الفكر شتيتا بين النزعة الوطنية الضيقة، والنزعة الدولية الواسعة، أقول: إنه في هذا الإطار تتفرق الشعوب بعضها عن بعض، وتتكتل بعضها مع بعض في آن واحد، فتسمع عن حلفي شمالي الأطلنطي ، ووارسو، وتسمع عن منظمات الوحدة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرقي آسيا، وهكذا ، وفي هذا المناخ الذي لا تعرف أهو أميل إلى تفكك الشعوب، أم هو أقرب إلى توحدها، تحت مظلة واسعة فيها هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها، وفيها كذلك انقسام خطير في بلاد الغرب ذاتها، بين ما يسمونه شرقا «الاتحاد السوفيتي وتوابعه» وغربا «الولايات المتحدة وحلفاؤها» - في هذا المناخ تقوم جامعة عربية لتجمع أقطار الوطن العربي على كلمة واحدة، لكن تلك الأقطار نفسها في حالة من التنافر بعضها إزاء بعض - لا أظن أن الوطن العربي قد شهد لها مثيلا في تاريخه الماضي، ومن أجل هذا كله، أسلفت لك القول بأن الأمة العربية أحوج في يومها هذا إلى التوحد منها في أي وقت مضى؛ لأن عوامل التفرقة في أرجاء العالم تضرب بفئوسها هنا وهناك، ومن لم يحصن نفسه بحصن من فولاذ، لن يلبث أن يجد نفسه قد تناثرت أجزاؤه في الهواء كأنها هباء.
لسنا في عصر كسائر العصور التي شهدها التاريخ من قبل، فبالرغم مما قد شهده فيما مضى من حضارات، وعلوم، وحروب، فهو لا يقاس إلى «ذرة» من القوى الكامنة في هذا العصر، ظهر فيها أقلها، وأما أكثرها فقد فتح له الباب عندما خطا «أرمسترونج» خطوته التاريخية على تراب القمر وصخوره، ناطقا بعبارته التي ستضاف بغير شك إلى أخواتها من كلمات كتب لها الخلود؛ إذ قال إنها خطوة واحدة يخطوها إنسان، لكنها للإنسانية وثبة جبارة. فأنواع «العلوم» التي انتهت بالإنسان إلى هذه الوثبة، ليست كغيرها من العلوم التي عرفها الإنسان ويعرفها، بل هي علوم «نووية» جبارة فيما تبنيه، جبارة فيما تدمره، عليها يقوم «سلام» قائم على أعاجيب الأجهزة العلمية، التي لو ذكر عنها للأسبقين جميعا، جزء من ألف ألف جزء من حقيقتها، لأخذهم الذعر وقالوا: بل إن ذلك من المعجزات، وعليها - كذلك - تقوم «حرب» قد تمحو الحياة من هذا العالم الأرضي محوا لا يبقي ولا يذر.
فهل بقيت لنا - نحن أبناء الأمة العربية - حيلة، إلا أن نعد عدتنا للدخول في هذا العالم الجديد، الذي هو الآن عند عتبة الباب؟ وأول ما نعده لأنفسنا ، هو الإسراع في غير تردد إلى تصور جديد، نثبته في أذهان أبنائنا عن الاستمرارية التاريخية التي يجب أن تربط ماضينا بحاضرنا، كيف تكون؟
وماذا عن عجوز البر؟
قال الراوي وهو يتحدث إلى هواء غرفته، فقد كان لا يعلم أن شيطانا من شياطين البشر، دس له آلة صغيرة تسجل عنه ما يرويه، ليكون له ولأصحابه - فيما بعد - مادة للسخرية والتفكه: قال ... ولعله لم يرد بقوله شيئا أكثر من مجرد إخراج الكلمات ليزيل الصدأ عن جدران الحلق، خشية أن يصيبه طول الصمت بحشرجة يتعذر بعد ذلك إصلاحها ... قال:
كان الوقت أواخر عام 1954م، أو أوائل 1955م (لم أعد أذكر) عندما أعلن في الصحف أن «إرنست همنجواي» قد ظفر بجائزة نوبل في الأدب، عن روايته «عجوز البحر» وكنت عندئذ ما أزال في بيتي مرتديا ثياب الصباح، وكان ذلك كله في فترة قضيتها في مطارح الغربة عن أرض الوطن، فارتديت من فوري ثياب الخروج، وقصدت إلى مكتبة قريبة، واشتريت رواية «عجوز البحر» التي فازت بالجائزة، وعدت إلى مسكني لأجعل «عجوز البحر» قراءتي في ذلك اليوم، والرواية صغيرة الحجم، لا ينتهي النهار إلا وقد فرغت من قراءتها، ومضمون الرواية - فيما أظن - معروف للقارئ العربي؛ لأن من لم يقرأها، فقد قرأ الإشارات الكثيرة إليها في كتابات النقاد، ومن لم يقرأ لا هذه ولا تلك، فقد شاهد الفيلم السينمائي الذي أقيم عليها، والمضمون في إطاره العام أبسط من البساطة؛ لأنه يكاد يدور كله حول رجل واحد، وهو يكافح لإنجاز عملية واحدة، فهو صياد في البحر تقدمت به السن، وأصابه مرض أقعده في كوخه فترة ربما طالت عليه بعض الشيء فلما استرد بعض عافيته، وأدرك أنه قد أوشك على نهاية العمر - دون أن ينجز إنجازا واحدا عظيما - جمع أطراف قوته وعزيمته، وركب قاربه الصغير الذي لم يكن مفروضا فيه أن يبعد عن الشاطئ أكثر من مسافة محدودة، لكن الصياد العجوز هذه المرة، أبى إلا أن يوغل بقاربه في المحيط؛ لأن الصيد الكبير لا يكون قرب الشواطئ: لا يعبأ بجبال الموج ترفع قاربه الصغير وتخفضه! وما هو إلا أن وقع له الصيد في الشبكة، فأخذ يجذب الحبال ليخرج الشبكة بصيدها، لكنه أحس وكأنه يريد بكل قوته أن يزحزح جبلا فلا يتزحزح، إنه لم يألف قط في حياته الماضية كلها أن ثقلت على ساعديه الشبكة بمثل ما ثقلت به اليوم! فبذل من الجهد المحموم ما بذل، حتى طفت الشبكة على مقربة من سطح الماء، وظهر الصيد الضخم في محاولته العنيفة اليائسة أن يتخلص مما وقع فيه، فهو سمكة أذهلت عجوز البحر بضخامتها! يزيد حجمها على حجم قاربه، فأين يضعها حتى لو تمكن منها ... أتقول: «لو تمكن منها»؟ إنك لا تعرف قدر العزيمة التي دبت في العجوز من رأسه إلى قدميه! لقد أصبح العجوز كله عزيمة لم يعد في كيانه إلا إرادة للفوز: ولكن أين يضع السمكة وهي أكبر من القارب؟ ليس أمامه إلا أن يشدها بالحبال إلى جنب القارب من الخارج، وبدأ المحاولة، ونجح بعد أن عرف بدنه كيف يكون الجهد الجهيد الذي يهد رواسخ الصخر! وما إن فرغ من جهاده حتى جاءت أسماك القرش المفترسة تنهش السمكة نهشا، وبدأت معركة بين العجوز وسمك القرش، يضربه بكل ما لديه من أدوات ليصرفه عن صيده لكن هيهات، إنه كلما طالت بينهما المعركة، تكاثر القرش وازداد شراسة، وها هو ذا العجوز لا يبقى من أدوات قاربه أداة إلا استخدمها؛ فالمجاديف قد تحطمت، وساريات القلاع والدفة، كلها تحطمت في ضرب أسماك القرش المهاجمة، لكن تلك الأسماك الضروس صمدت ناهشة لصيد العجوز، واقترب القارب من الشاطئ، وانصرف القرش، وذهبت السمكة الضخمة كلها إلى جوف القرش! ونزل عجوز البحر من قاربه ولم يكن المشدود بالحبال إلى جنب القارب إلا الهيكل العظمي للصيد الذي كان.
ذلك هو مضمون القصة، فليس فيها حب وغرام، وليس فيها مطاردة لمهربي المخدرات، وليس فيها تاريخ سياسي وتظاهرات، لا، ليس فيها شيء مما ألفناه في الروايات، إنما الذي فيها هو رجل واحد وعزيمته! رجل واحد وطموحه نحو الأكبر والأعظم والأضخم والأصعب، رجل واحد يقاتل العدو بما لديه، نجح بعد ذلك أو فشل! وكل الرواية من أولها إلى آخرها، هو تجسيد لتلك الإرادة القوية، كي نراها - نحن قراءها - رؤية العين، ماثلة أمامنا في كفاح مجسم مشهود.
ولم تكن متعة الفن الأدبي لتقل عندي - هكذا مضى الراوي في روايته إلى هواء غرفته - إذا وقفت تلك المتعة عند نشوة الفن الجيد لذاته، لقد رأيت «روحا» في الجمل القصيرة المتتابعة التي حكى بها الروائي حكاية عجوز البحر، لكن مع ذلك - لم أكد أفرغ من قراءتي - حتى بدأت أتأمل ما قرأت! فماذا فيها مما يعكس روح الحياة في العالم الجديد؟ فيها إرادة الإنجاز، فيها الجلد الصامد، فيها المغامرة والمخاطرة في سبيل الهدف البعيد، فيها قهر الطبيعة، ولم تكن الرغبة في قهرها لتعني شيئا، لو كانت تلك الطبيعة واهية القوى، مستسلمة في يسر إلى قاهرها، لكنها جبارة في قوتها، ضنينة بأسرارها، كتوم على كنوزها، ولا يفل حديدها إلا حديد بشر مكافح مريد طموح.
ومضى الراوي يقول لهواء غرفته: إنني كعادتي دائما، لا أسهو لحظة عن بلدي وقومي، فإذا رأيت قوة أينما كنت، أسائل نفسي: أين قوتي؟ إذا رأيت علما سألت أين علمي؟ إذا شهدت مغامرة ومخاطرة تتبقى مجدا، قلت: أين عندي من يقامر ويخاطر؟ ومثل هذا التساؤل هو ما حدث لي بعد أن فرغت من قراءة «العجوز والبحر»، إلا أني تريثت هذه المرة حتى أوازن وأقارن؛ فمسرح الأحداث في مصر ليس كمسرح الأحداث في أمريكا، هنالك فروق شاسعة بين الموقفين، لا بد لها أن تحدث اختلافا في تشكيل الصورة هنا والصورة هناك: فهنا مكان ضيق الحدود، مع زمان طويل التاريخ: فما معنى هذا الفارق بين الحالتين، وما مغزاه؟ معناه هو أن الأمريكي تحلل من قيدين: قيد المكان وقيد الزمان؛ أما المكان عنده فذو سعة واسعة، فإذا ضاقت به سبل العيش في الجانب الشرقي لبلاده، سعى غربا، فغربا، إلى أن يجد سعة العيش.
Bilinmeyen sayfa