وإذا نحن وضعنا هذا التفكك الذي فصم العرى بين الأفراد - أو أوهنها ولم يبق منها إلا خيط رقيق - أقول إذا نحن وضعنا هذه الظاهرة في المصطلح الذي قدمناه فيما أسلفناه من عرض نظري، قلنا: إن كل فرد نزع من سياقه فاشتدت فرديته، ولكنه فقد من معناه بقدر ما انفرد، فلقد بسطنا القول فيما أسلفناه، كيف لا يكون للجزء معنى إلا بالقدر الذي يخلعه عليه السياق الذي ورد فيه ذلك الجزء، ألا تذكر كيف تلجأ المعاجم الكبرى، في توضيحها لمعاني المفردات اللغوية إلى ضرب أمثلة، مما وردت فيه اللفظة المراد توضيح معناها، إنك واجد هناك أبياتا من الشعر، وعبارات من أقوال الأدباء، مسبوقا كل هذا بآيات من الكتاب الكريم، وردت فيها اللفظة المراد توضيحها؛ لأن وضوح معناها لا يتم إلا عند رؤيتها في سياقات استعمالها، وهكذا قل عن أي كائن في الدنيا تريد أن تزداد به علما، فذلك إنما يتحقق لك برؤية ذلك الكائن منسوبا إلى غيره من كائنات، فإذا نحن زعمنا بأن عقد المؤسسات قد انفرطت حباته، فإننا بهذا الزعم نكون قد قررنا بأن تلك المؤسسات قد فقدت معانيها، وأن الأفراد أنفسهم بعد انفراطهم عن عقودهم، يفقد كل منهم من معنى وجوده بمقدار ما انسلخ وحده لينفرد.
وقد يجوز لنا في هذه الحالة الجديدة المفككة أطرافها، القول أنه لم يعد فيها تلك «القيم» الاجتماعية، التي كانت بمثابة الملاط الذي يشد البنيان بعضه إلى بعض، لكن هذا الكاتب يفضل في عملية التعليل لما قد حدث، ألا يعلق الظاهرة المراد تعليلها على «غياب» القيم؛ لأن القيم قائمة وليس للإنسان من بد في قيامها، ما دامت له حياة يحياها؛ إذ ما «القيمة» من القيم إلا أن تكون اسما يسمى هدفا يقصد إليه السالك من سلوكه؟ فحتى إذا قلنا إن الفرد من الناس قد انفرد وحده عن روابطه بالآخرين، فنحن في هذا الوضع الجديد، بمثابة من يجد سلوك الفرد «قيمة» أخرى قد اختارها لنفسه، غير «القيمة» التي كانت تسود سلوك الناس في أجيال قبل هذا الجيل، لا أن هذا الكاتب لا يجد التعليل الصحيح في «غياب» القيم، بل يجده في تداخل القيم واختلاط بعضها في بعض، اختلاطا أفقدها وضوح حدودها، ومن هذه الرؤية، آثر الكاتب أن يبدأ حديثه بقصة الخلط بين حابل ونابل، لعله بهذه القصة يمهد الطريق إلى نتيجة مقنعة بصوابها.
إن ظاهرة الغش الجماعي، مكبرات الصوت، على مسمع ومرأى من المسئولين عن لجان الامتحان، لم يكن مردها إلى انعدام القيم، بقدر ما كان «لاختلاط» القيم بعضها في بعض وغموض معناها، لقد أراد الجميع «نجاحا» ورأى الجميع أن «يتعاونوا» على ذلك النجاح، وآثر المسئولون عن الامتحان، إما المشاركة في التعاون وإما النجاة من غضب الجمهور، والجمهور هنا هو مجموعة الطلاب في لجنة الامتحان؛ فإذا صورت لنفسك الموقف على هذا النحو، وجدت العلة الحقيقية هي ضباب غشي القيم المبثوثة في الموقف كله، ففقدت معانيها أولا ثم ازدادت فقدا لها حين اختلط بعضها ببعض؛ فقيمة «النجاح» كان المفروض فيها أن تصف سلوك الفرد وهو منفرد، فجعلوها صفة تصف مجموعة أفراد تآزرت، وقيمة «التعاون» كان المفروض فيها أن يعين الأفراد بعضهم بعضا، فيما يندرج تحت مظلة القانون، فأرادوا لها أن تقوم قائمتها خارج مظلة القانون، وإيثار السلامة من غضبة الجمهور قيمة اجتماعية مطلوبة في المواقف التي يكون للجمهور فيها سيادة، فنقلوها إلى جمهور (مجموعة الطلاب) في موقف لا سيادة له فيه، فانقلب الموقف كله ليكون شبيها بسوق الصيد الذي اختلط فيها الحابل بالنابل، فانهدمت الحدود بين مختلفات بعد أن كان ينبغي لها أن تظل قائمة ليكون لكل شيء معناه.
وسؤالنا الأهم، إزاء هذا كله - هو: لماذا حدث للقيم أن تغمض معانيها وأن يتداخل بعضها في بعض ليفسد بعضا؟ والجواب عندي مستمد من الرجة الاجتماعية التي قلقلت أوضاع الأفراد والأشياء والمعاني، ابتغاء إقامة نظام اجتماعي جديد، فبينما نحن في هذا أمام هدف مطلوب، لم نستطع أن نحكم حركة التغير لتحدث دون أن تترك وراءها خللا يشقق الجدران، فعندما تستقر الحياة في جماعة من الناس يكون معنى استقرارها هذا، ثبات المعايير الضابطة لتعامل الناس بعضهم مع بعض، ومثل هذا الاستقرار هو الذي - من ناحية أخرى - ينعكس في البناءات الفكرية التي يقيمها رجال الفكر - في أمة بعينها - وفي عصر معين، كما يتضح ذلك بصفة خاصة في الأنساق الفكرية التي هي حين تعلو في مستواها، وتتسع في شمولها تصبح «فلسفة» تصور عصرها، وفي شرح موجز سريع، أقول إن الفيلسوف في أمة بعينها، وفي عصر معين، عادة ما يضمر في نفسه رؤية لمبدأ أساسي يراد تحقيقه، وهو يستمد ذلك المبدأ - طبعا - من المناخ الثقافي الذي يحيط به، وبعد ذلك تراه ينتقي لنفسه موضوعات يصب عليها تحليلا يوضح حقائقها، فقد ينتقي - مثلا - الدولة، العدالة، الحرية، التربية، حقيقة الفن، شروط الفكر العلمي، السياسة، السلطة، تحليل ما يسمى بالمادة، تحليل ما يسمى «بالعقل» إلخ (لقد تعمدت أن أذكر موضوعات جعلها برتراند رسل مجالا لبحثه)، وعندما يحلل الفيلسوف أي موضوع مما قد اختار، تراه ينتهي بالتحليل إلى تأييد صدق المبدأ الذي كان قد أضمره في نفسه، استخلاصا من ثقافة عصره وعلومه، فإذا ما تلاقت الخيوط كلها عند المبدأ المفترض، كان ذلك بينة على تماسك الحياة الفكرية في المناخ السائد، ولسنا بهذا نحكم على صلاحية ذلك المناخ أو فساده بل نقصر الحكم على توحده، ومع التوحد يجيء التجانس بين الأفراد في «قيم» السلوك، ومرة أخرى لا نقول شيئا عن صلاحية ما تجانس أو عن فساده.
وأعود بالحديث إلينا نحن، وما قد ساد حياتنا من اضطراب شديد في العلاقات بين الأفراد، وبالتالي فهو اضطراب في فهم الأفراد «للقيم» التي تنضبط بها مسالكهم، فلو أن عقلا فلسفي المنهج قد نشأ فينا، وأراد أن يخوض تجربة إقامة بناء فكري يشمل جوانب الحياة كما تنعكس عليه من مجتمعه، لما استطاع؛ لأن «المبدأ» الواحد المفترض وجوده معدوم في حياتنا فتفرقنا فرقا، وتفرقت الفرقة الواحدة «أفرادا» تتقاطع خطوطهم، فيختلط حابل بنابل.
لقاء في الجسرة
«الجسرة» اسم يطلق على النادي الثقافي بالدوحة بدولة قطر، ولقد سعدت هناك بلقاء ثقافي ساده صدق مع النفس، فكان وطننا العربي هو مدار الحديث في أزماته وفي مستقبله، إلا أن حديثنا تناول الموضوع من ناحية الحياة الثقافية وكيف نوجهها، على نحو يتيح للأمة العربية أن تواجه عصرها قوية ورائدة، وكأن من رأي هذا الكاتب أن تكون نقطة البدء وعيا نبثه في النفوس، بالمحور الأساسي الذي تدور حوله رحى العصر بكل همومه الفكرية، وما ذاك المحور إلا بمثابة سؤال كبير مطروح للإجابات تأتيه من هنا ومن هناك ومن هنالك، شأن عصرنا في ذلك شأن كل العصور الحضارية التي شهدها التاريخ؛ فالذي يحدد أوائل العصور وأواخرها، هو استبدال مشكلة كبرى تشغل أذهان أصحاب المواهب بمشكلة أخرى كانت قائمة، ثم أشبعت بحثا حتى زال عنها إشكالها أو كاد، مع تغير في ظروف الحياة، تغيرا يفرز أشكالا جديدة، فإذا نحن وقعنا على المحور الأساسي الذي يطرح سؤاله على رجال الفكر في عصرنا، فإنما نكون قد حددنا لأنفسنا الهدف الذي تتجه نحوه مواهب الموهوبين من علماء، ورجال فكر وفن وأدب، محاولين بمواهبهم تلك أن يسهموا - كل من زاوية ميدانه - بالحلول التي يرونها من وجهة النظر التي تتلاءم مع ثقافتنا وتاريخنا ومستقبلنا الذي نرجوه.
وحول هذا الموضوع وما يتفرع عنه، دارت أحاديثنا في نادي الجسرة بدولة قطر، يسودها - كما أسلفت - روح الإخلاص والصدق، فنحن إخوة جمعتهم جميعا سفينة واحدة تتعرض للعواصف الهوج في وسط البحر المائج، بحيث لا يتحمل الموقف أن يجامل أحد منا أحدا في الرأي والتدبير، على أن المحور الأساسي الذي رأى هذا الكاتب أنه يبلور هموم المفكرين في عصرنا، والذي يستحق منا أن نشارك في تدبره ومواجهته، هو ما يمكن التعبير عنه بهذا السؤال: أهو عصر للثبات أم عصر للتغير؟ وإذا كان الجواب هو «التغير» ففي أي اتجاه نسير بحياتنا المتغيرة؟
فلما عدت إلى القاهرة، أحسست كأن أصداء الموضوع ما زالت تتردد في رأسي، ووجدت عندي ما أضيفه توضيحا لوجوب اهتمامنا بفكرة «التغير» محورا لنشاطنا الفكري، وعلى هذا النحو الآتي تدفقت خواطري:
إن معجزة المعجزات الإلهية هي معجزة «الحياة»، وأعني «الحياة» بكل درجاتها، من أدناها إلى أعلاها: من أبسط الكائنات الحية، وهي «الأميبا» ذات الخلية الواحدة، إلى أكثرها تعقيدا، وأكرمها عند رب العالمين، وهو «الإنسان»؛ فالأميبا تدرك ما حولها بكل جسدها، دون تخصص تتقاسمه حواس مختلفة، فكأنما هي بجميع جسدها «عين» ترى، وبجميع جسدها «أذن» تسمع، وبجميع جسدها «أنف» يشم، وبجميع جسدها «جلد» يلمس، وهكذا، وأما في الدرجات العليا من سلم الكائنات الحية فالتركيب العضوي يصبح أغنى تفصيلا، والإدراك تزداد حدته ودقته، مع ارتفاع الكائنات الحية، وهنا يحدث التخصص الإدراكي، ويمكن القول بأن الجلد «اللامس» هو الأساس العام، ثم يتخصص جزء منه، وهو «العين» في لمس ظاهرة واحدة معينة، وهي موجات الضوء، التي إذا ما لامسته العين المبصرة، تحولت فيها، وفيما يتصل بها من الجهاز العصبي، إلى «مرئيات» بما تتمايز به من ألوان، وتجدر الملاحظة بأن اللون ينشأ «داخل» الكائن المدرك، مترجما به الأطوال المختلفة لموجات الضوء؛ إذ ينفرد كل لون بموجات ضوئية ذات طول معين، أطولها «بالنسبة إلى العين البشرية» موجة اللون الأحمر، ثم تتدرج الألوان بعد ذلك، مع تدرج الموجات الضوئية في أطوالها، فبعد اللون الأحمر يأتي اللون «البرتقالي» فاللون «الأصفر» فاللون «الأخضر» فاللون «الأزرق»، يتلوه «الأزرق النيلي» أي الأزرق الداكن، وآخرها «عند العين البشرية» هو اللون «البنفسجي» فموجته الضوئية أقصر الموجات، مع ملاحظة أن ما دون «الأحمر» في طول موجته، وما فوق «البنفسجي» في موجته، هنالك ما يمكن رؤيته بأجهزة علمية، وقد تكون لبعض صنوف الحيوان قدرة على إدراكه، وأما الألوان السبعة التي ذكرناها، فهي حدود العين البشرية، وهي نفسها ألوان الطيف السبعة.
Bilinmeyen sayfa