هكذا جعل العقاد شيطانه يستلقي وينام مستريحا مطمئنا إلى أن الفخ الذي نصبه لبني آدم كفيل وحده بأن يثير فيهم اللجاجات والخصومات، وما تؤدي إليه هذه الانقسامات من ضروب القتال، وبذلك تتحقق له الغواية التي أرادها لهم لتنحرف بهم نحو الشر، ولم يكن ذلك الفخ اللعين سوى وهم - في ظن الشيطان ومن جرى مجراه - يوهمهم بأن ثمة في هذه الدنيا شيئا اسمه «الحق»، وإذا بهم لا يملكون سوى وجهات للنظر إزاء أحداث العالم، والأرجح أن تنبثق لكل منهم وجهة نظره من جوف منافعه كما يراها.
لكن شيطان العقاد هذا لم يصب كل الصواب، ولا هو أخطأ كل الخطأ، فهو مصيب في ظنه إذا كان الأمر مقصورا في حقيقته على ما هو واقع فعلا في حياة الناس كما هي واقعة؛ إذ هم بالفعل متنازعون أبدا متخاصمون أبدا، وإن تعددت أسباب ذلك وتنوعت، بتعدد العصور والظروف وتنوع مشكلاتها. وتكفيك نظرة واحدة سريعة إلى أمة واحدة هي الأمة العربية، في عصر واحد هو عصرنا، فبينما منطق التاريخ كان يوجب عليها التوحد إزاء ما يتهددها من خطر جسيم، إذا بها تتخاصم وتتقاتل بعضها مع بعض، على نحو قد يكون فريدا بالقياس إلى كل ما قد شهده تاريخها، فإلى هنا في وسع الشيطان أن يقول صادقا: انظروا! لقد نجح الفخ فيما أردت له أن ينجح فيه؛ إذ ترى كل جزء من الأجزاء المتنازعة يظن أنه هو الذي التزم «الحق»، وأما سائر الأجزاء المخالفة فهي على باطل!
لكن اقلب المنظار لترى الأمر من طرفه الآخر، ترى الشيطان قد أخطأ الرأي؛ وذلك لأنه إذا أقام رأيه ذاك على واقع حياة الناس في منازعاتهم، فاتته الحقيقة التي هي أن الناس لم يتنازعوا على ما أسموه «بالحق»، إلا لأن فكرتهم عن «الحق» قد شابها ضباب كثيف من «الغموض» حجب عنهم وضوح الرؤية، فتعثرت أفهامهم، كما تتعثر أقدام السائرين في جوف الضباب وهم لا يشعرون، فالعلة كل العلة هي امتناع «الوضوح» عن أفكارنا، ولما كانت الأفكار في الرءوس هي التي توجه أصحابها في مسارهم، تحتم على حملة الأفكار الغامضة أن يتخبطوا على الطريق، تخبطا بمعنى الكلمة الحقيقي وبمعناها المجازي في آن واحد، فهم بالفعل يتصادمون بالأجسام فيخبط بعضهم بعضا بنيران المدافع وقنابل المقاتلات، فوق ما يتقاذفون به من كلمات مسمومة تكتب أو تذاع، ذلك هو التخبط بمعناه الحقيقي، وأما التخبط بمعناه المجازي، فهو ما يحدث نتيجة لأفكار غامضة، يأخذها حاملها على أنها واضحة المعاني، فيضل بضلالها وهو يتوهم أنه يسير على هدى.
ولعل أخطر مصدر للغموض الذي يشوب الفكرة المعينة، فيغمض بالتالي وسائل تطبيقها عند صاحبها، هو الخلط بين واحدية «الاسم» المعين وتعددية «مسمياته». خذ - مثلا - هذا الاسم الواحد: «العربي» وانظر كم هي الشعوب التي تنضوي تحت هذا الاسم على مدى تاريخ طويل، ثم انظر في كل شعب من هذه الشعوب، كم هم الأفراد الذين تألفت منهم حقيقة الشعب الواحد، إننا لو أردنا أن نتحدث بعضنا إلى بعض عن «العربي»، والتزمنا أن نذكر قوائم بأفراد الناس الذين يندرجون تحت مسميات لهذا الاسم، لانقضى الدهر قبل أن يخطو المتحدثان في حديثهما خطوة واحدة؛ لذلك قد تواضع الناس، منذ أن كان على وجه الأرض إنسان يتحدث إلى إنسان، على أن يستخدموا لكل أسرة من أفراد أو مفردات، كأسرة الإنسان وأسرة الطير، وأسرة الشجر، وأسرة الحجر، رمزا واحدا يدل عليها اختصارا للزمن، وعند هذه النقطة ذاتها يبدأ انفتاح الزاوية بين «وضوح» و«غموض» في الأفكار التي يتبادلها المتحدثون، فأما من شاء له ربه وضوح الفكر، فلا يفوته هذا الفارق بين «واحدية» الاسم و«تعددية» مسمياته؛ فالمسميات الكثيرة التي تندرج تحت الاسم الواحد، يختلف كل منها بما يميزه عن بقية أفراد أسرته أو مفرداتها، لكنه كذلك يشترك في أسس واحدة مع بقية أسرته، ولولا تلك المشاركة لما جاز أن يطلق «اسم» واحد على مجموعة «مسمياته»، لا في يوم واحد ولا في قرن واحد، بل إنه يطلق على تلك المسميات، بكل ما مضى منها، وكل ما حضر، وكل ما سوف يكون، وفي هذا الضوء نعود إلى المثل الذي ضربناه، وهو اسم «عربي»، فقد كان هذا الاسم ليخلو من دلالته إذا لم يكن هنالك الأسرة التي يشير ذلك الاسم إلى أفرادها، وإذا لم يكن كذلك بين هؤلاء الأفراد ما يشتركون فيه، لكنه كذلك يكون مصدرا للغموض الفكري، إذا ظن المتكلم به، أو السامع أنه ما دامت الأمة العربية عربية بجميع أقطارها، وجب أن يكون التطابق كاملا بين شعب عربي وشعب عربي آخر، أو بين عصر من التاريخ العربي وعصر آخر.
ونزيد الموضوع دقة علمية فنقول: إننا إذ نقول إن فلانا هو فلان، وكأن نقول: إن العقاد هو العقاد وهو بالطبع قول صادق صدق اليقين، لا بحكم التجربة، بل بحكم العقل الخالص في محض فطرته، سواء أكانت لصاحبه تجربة مع واقع حياة العقاد أم لم يكن، فإننا برغم هذا اليقين النظري نكون على شيء كثير من غموض الفكر، إذا لم نتذكر أننا حين أطلقنا على شخص العقاد اسم «العقاد»، فإنما أطلقنا اسما واحدا على سيرة من حياة امتدت خمسة وسبعين عاما، في كل عام منها كذا يوم، وفي كل يوم منها كذا ساعة، وفي كل ساعة كذا دقيقة، ومحال ألا تكون تلك السيرة «الواحدة» قد اجتازت ألوف الألوف من «حالات» مختلفة، وليس فقط هي مختلفة باختلاف مراحلها، من طفولة إلى شباب فكهولة، بل هي كذلك مختلفة اللحظات، بين صحة ومرض، وصحو ونوم، وعمل وراحة، وانشراح صدر وضيق صدر، وهكذا وهكذا، كل ذلك نجعله مضمرا في نفوسنا حين نتحدث عن العقاد، وإلا فلو ظن متحدثان أن موضوع حديثهما متجانس تجانس ذرة الأوكسجين حين نعزلها وحدها في تجربة علمية، كان ذلك أول الطريق المؤدي حتما إلى نتائج مختلف عليها، ومن ثم تنشأ الخلافات والمنازعات.
إننا نعلم كذلك أن بين قوانين العقل بحكم فطرته، أنه إذا كان هناك نقيضان، فلا بد أن يكون أحدهما - دون الآخر - موجودا؛ فمثلا اللون «الأبيض» و«غير الأبيض» نقيضان، وإذن فلا بد لأي شيء من الأشياء الملونة بلون ما، أن يكون في حالة من حالتين لا ثالث لهما، فهو إما «أبيض» وإما «غير أبيض»، إلى هنا والكلام واضح، لكن يبدأ الغموض مع صاحب الفكر الغامض، إذا لم يتذكر أن اللون الأبيض ليس دائما على «بياض» واحد؛ إذ البياض - كأي لون آخر - كثير الدرجات، ولقد شهد كاتب هذه السطور صورة فنية من روائع الفن الحديث، في متحف من متاحف هذا الفن، اسمها «اللون الأبيض»، وليس فيها إلا ضغومة متسقة من عشرات الدرجات، وأصل اللون الأبيض (وقد نسيت اسم الفنان)، إذن فلو اكتفينا بقولنا «أبيض» فلا بد أن يكون المتحدث وسامعه معا، على بينة بأن اتفاقهما على المعنى، هو اتفاق تقريبي، أما إذا نشأ موقف يقتضي دقة علمية، فيجب الإشارة إلى درجة البياض، ومن هنا نجد علم الضوء، لا يتحدث عن الألوان بأسمائها المعروفة في اللغة، بل يتحدث بأطوال الموجات الضوئية في كل حالة من الحالات، وأما الشق الثاني في قولنا إن الشيء الملون «إما أبيض وإما غير أبيض»، فكثيرا ما ننسى أن «غير الأبيض» يشتمل على ألوان كثيرة؛ الأحمر والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، ومرة أخرى نقول إننا في غير المواقف التي تتطلب الدقة العلمية، نتفاهم على المعاني «بالتقريب»، فلا يحدث بيننا اختلاف ولا خلاف، لكننا إذا نسينا تعدد التفصيلات في الكائنات الدنيا، ثم إذا نشأ لنا - مع هذا النسيان - موقف يستوجب الدقة، فها هنا يظهر للناس كم هم مختلفون.
لقد قدمنا مثلين، هما أوضح ما يكون الوضوح فيما يتبادله المتحدثون من أقوال، ومع ذلك فقد أشرنا إلى بعض مواضع القصور في تحديد ما يريد القائل أن يقوله بأي منهما، فماذا في حياة الناس الجارية أوضح من أن يقول القائل: إن العقاد هو العقاد، أو أن يقول إن الشيء الملون إما أن يكون أبيض وإما أن يكون غير أبيض؟ لكن هذا الوضوح الشديد فيما يرى الإنسان في حياته اليومية العادية، يراه الفكر العلمي - إذا ما كان الموقف يقتضي من المسئول دقة علمية - في حاجة إلى مزيد من التحديد، فالعقاد كأي فرد من الناس بل كأي كائن من كائنات الدنيا، ليس عنصرا ثابتا على صورة واحدة تدوم، بل هو في حقيقته خط من الأحداث، يجعله «سيرة» أي أنه يجعله «تاريخا» وليس عنصرا ثابت الصفات، وإذن فحين يتطلب الموقف دقة علمية، بحثنا في تلك «السيرة» ماذا كانت طبيعة اللحظة المعينة من سيرته، التي تثير اهتمامنا به، فافرض - مثلا - أن جريمة قتل ارتكبت، فعندئذ يهم رجال القضاء أن يعرفوا حالتي المتهم العقلية والنفسية في لحظة اقتراف الجريمة، ولا يكفي عندئذ أن يقال إن المتهم هو فلان، وكذلك قل في المثل الثاني الذي ضربناه عن الشيء الملون، بأنه يكون إما أبيض وإما ليس أبيض، فها هنا كذلك لا يتطلب إنسان في حياته العادية وضوحا أشد من هذا الوضوح، لكنه - مع ذلك - درجة الوضوح لا تقنع من أراد دقة علمية إذا ما تطلب الموقف مثل هذه الدقة؛ فاللون «الأبيض» كثير أطياف، فأي طيف منها هو المقصود؟ وقولنا «ليس أبيض» قول يحمل في جرابه ألوانا أخرى كثيرة.
فإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى أمثال هذين القولين الواضحين اللذين قد يقال عنهما إنهما لشدة وضوحهما قد جاءا صورتين بغير مضمون، أقول: إذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى هذين القولين، فماذا نقول عن الكثرة الغالبة مما يقوله القائلون أو يكتبه الكاتبون، حين نجدهم يسوقون كلمات هي أبعد ما تكون الكلمات عن وضوح المعنى، ومع ذلك نراهم يسوقونها على زعم منهم بأنها أوضح من أن تحتاج إلى تحديد وتوضيح، وماذا - في رأيهم - يحتاج إلى توضيح في معنى «العدل» أو «المساواة» أو «العلم» أو «الفن» وغيرها وغيرها مما له أهمية كبرى في حياة الناس مما كان يقتضي أن تصب أضواء شديدة على تلك المفاهيم الخطيرة، حتى يعرف المعنيون بها عن أي شيء بالضبط يتكلمون أو يكتبون، ومع ذلك نرى أغلب الناس، حتى المثقفين منهم، أقرب إلى أن يسخروا ممن يطالب بضرورة تحديد تلك الأفكار، منهم إلى أن يطالبوا به لخطورته وضرورته.
ومن هنا يجيء موقف الشيطان - الذي ترجم العقاد لحياته - حين أراد غواية بني آدم، فلم يجد لذلك حيلة أقوى من أن يوكل الأمر إلى شيء اسمه «الحق»؛ لأنه من الغموض في معناه، بحيث يكفل أن تقوم بين الناس حوله لجاجات وخصومات لا تنتهي، لكن الذي خلع على فكرة «الحق» هذه الصفة السلبية، هو أن الناس قد استخدموها على «غموضها» بحسبان منهم أنها «واضحة» لا تحتاج إلى مزيد من وضوح، فكان ما كان من أمرها، مما أغرى الشيطان - أو من يشبهونه من أفراد الناس - أن يجعل «الحق» فخا ينصب للتضليل، فالذي ينقصنا هو توضيح فكرة «الحق»، وعندئذ يصبح محالا على عاقل أن يضل بسببه.
فما هو «الحق» على سبيل التحديد الواضح؟ إننا سنترك الآن مؤقتا كون هذه الكلمة اسما من أسماء الله الحسنى؛ لأنها بهذا الاعتبار تحتاج إلى النظر إليها من زاوية أخرى غير الزاوية التي نتحدث عنها عن البشر في حياتهم على هذه الأرض، على أن هذه التفرقة بين الاستعمالين، ليست مقصورة على اسم «الحق»، بل تجاوزها لتشمل سائر هذه الأسماء بما تحمله من صفات، فحديثنا عن «علم» الله سبحانه وتعالى، غير حديثنا عن «علم» الإنسان، وكذلك قل في «الإرادة» و«العدل» و«التصوير» و«الإبداع» وهلم جرا؛ ففي حياة البشر يتحدد معنى «الحق» في كل حالة من حالاته، بمطابقة بين طرفين، أحدهما يؤخذ على أنه المعيار، والآخر يكون هو الحالة المعينة، التي يتم فيها انطباق المعيار؛ ففي الرياضة - مثلا - يكون من «الحق» أن نقول «العشرة أكثر من الثلاثة» (وهو مثل ضربه الإمام الغزالي)، والتطابق هنا هو بين هذه الجملة في طرف، ومبدأ منطقي أولي في طرف آخر، يقول: إن الجزء أصغر من الكل الذي يحتوي عليه، وفي علوم الطبيعة يكون من «الحق » أن شعاع الضوء إذا انعكس على سطح مستو مصقول كالمرآة، فإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس، وعملية التطابق هنا تكون أحد طرفيها في تجربة عملية يجريها العالم الباحث من جهة، وصيغة هذا القانون الطبيعي من جهة أخرى؛ حيث نجد أن في التجربة العملية مصداق القانون المذكور، وهكذا وهكذا في جميع الحالات التي يتبين لنا فيها أن فكرة ما «صحيحة»، وتستحق أن توصف بأنها «حق».
Bilinmeyen sayfa