فإذا ما زعم زاعم مثل هذا الرأي، فإنه في ظني يعجز عن الجواب، إذا ما سأله سائل، قائلا: خبرني، هل حدث أن قدم إليك والداك الخير ولو مرة واحدة؟ فيجيب عندئذ بقوله: نعم قد قدما لي خيرا كثيرا. وهنا يرد عليه بقول كهذا: إذن فأنت مدين لهما بشرور كثيرة، ما دام الخير والشر معا يشيران إلى مسمى واحد. (13)
هل قدمت مرة لأقربائك خيرا؟ نعم قدمت إليهم خيرا كثيرا. إذن، فقد كنت تلحق بهم الضرر (ما دام الخير هو نفسه الشر)، ثم هل أنزلت الضر مرة بأعدائك؟ نعم إني كثيرا ما فعلت ذلك. إذن فقد صنعت لهم أعظم الخيرات. (14)
هيا أجبني عن هذا السؤال إذا مررت بالسائلين إحسانا، ألست في الوقت الواحد تشفق عليهم لما لديهم من شر كثير، وتحسبهم ذوي حظ حسن لما لديهم من خير كثير؟ وذلك لأنك قد رأيت الخير والشر اسمين على شيء واحد. (15)
إنه لا تناقض (إذا أخذنا برأيك) في أن يقال عن ملك عظيم: إنه في الحالة نفسها التي ذكرناها عن السائل، فما لديه من خيرات كثيرة وعظيمة، هي في الوقت نفسه شرور كثيرة وعظيمة، إنه إذا كان الخير والشر يشيران إلى شيء واحد، كان لنا أن نجيز أقوالا كالتي ذكرناها في جميع الحالات. (16)
سأنتقل الآن إلى حالات جزئية معينة، بادئا بالطعام والشراب ولذائذ الجنس ، فإذا كان الخير والشر حقا شيئا واحدا، جاز القول بأن تلك الأشياء كلها مضرة بالمريض، ولكنها في الوقت نفسه خير له، بل إنه إذا كان الخير والشر حقا اسمين على مسمى واحد، كان المرض خيرا للمريض وشرا له في آن واحد. (17)
يصدق هذا على جميع الحالات التي أسلفنا ذكرها في المحاجة السابقة، ولست أريد أن أقول ما هو الخير، وإنما أردت أن أوضح بأن الخير والشر ليسا شيئا واحدا، فالخير شيء والشر شيء آخر.
ومعذرة إلى القارئ إذا كنت قد أتعبته بهذا النص الطويل، والواقع أني أردت بنشره توضيحا للفكرة الأساسية التي أقدمها في هذا الحديث، فها هو كاتب ذلك النص قد أقام الدليل على قدرته في أن يتبنى قضية وضدها في آن واحد، فبعد أن دحض الزعم بأن الخير والشر شيئان مختلفان، وساق أمثلة كثيرة على أن الخير هو هو نفسه الشر، وكل ما هو في الأمر هو أنه خير بالنسبة إلى إنسان معين وشر بالنسبة إلى إنسان آخر، أو كما نقول نحن في ذلك: مصائب قوم عند قوم فوائد، عاد فتبنى الرأي المضاد، وهو استحالة أن يتحد الخير والشر في شيء واحد. فكيف استطاع البرهنة على الضدين؟ إنه استطاع ذلك لأنه استخدم كلمتي الخير والشر دون أن يورط نفسه في تعريف علمي دقيق لكل منهما، ولو فعل ذلك لزال اللبس، وتعذر عليه أن يدافع عن الضدين، وإلا فهل كان يستطيع - مثلا - أن يبرهن على أن «المربع» و«المثلث» اسمان على شكل هندسي واحد، إنه بالطبع لم يكن ليستطيع ذلك؛ لأنه عندئذ يواجه حدودا محددة بتعريفاتها الرياضية الدقيقة، وتلك هي الرسالة التي اضطلع بها سقراط في تاريخ الفكر، وهي ضرورة التحديد بتعريفات حاسمة وفاصلة للأفكار الهامة، التي نتعامل على أساسها في حياتنا المشتركة.
لقد أسلفت لك موازنة بين عبارتين، إحداهما شفافة تنقل قارئها مباشرة إلى الأمر الواقع، الذي جاءت تلك العبارة للتحدث عنه، والأخرى معتمة بمعنى أنها تعجز بألفاظها أن تنقلك إلى أمر واقع معين ومحدد، وبالتالي فإن قارئها - شعر أو لم يشعر - يجد نفسه وقد حبس في ألفاظها، يرددها حتى ليتوهم من كثرة ترديدها أنها حقا تعني شيئا في دنيا الأشياء والأحداث، على أن تلكما الحالتين: أعني حالة الكلام الذي تنفذ خلاله إلى ما يعنيه في عالم الأشياء، وحالة الكلام الذي يحبسك في حبائله اللفظية، أقول: إن تلكما الحالتين: إنما يقابلان في الحياة الثقافية نوعين من الإنتاج الفكري والأدبي: أولهما هو «العلوم» وثانيهما هو «الأدب»؛ فالجملة العلمية لا بد لها من تلك الشفافية التي تنقلنا إلى عالم التطبيق، وأما الجملة الأدبية فمن حقها أن توقفك عند تركيبها اللفظي، وحتى إن كانت تتضمن آخر الأمر ما يشير إلى جانب من جوانب الحياة التي يعيشها الناس، فذلك يكون عن طريق غير مباشر.
إلى هنا ولا ضير علينا في أن يكون للعلم لغته الدالة على ما هو واقع خارج حدودها، وأن يكون للأدب لغته كذلك، التي تنكفئ على نفسها، لكن هنالك نوعا ثالثا هو مصدر الخطر كله، إذا ما شاع في ثقافة معينة عند شعب معين في عصر معين، فقل إن على الحياة في تلك الظروف ألف سلام؛ لأن الأقلام عندئذ تكتب، والألسنة تتكلم، ولكن دون أن يتغير من دنيا الواقع شيء! لماذا؟ لأنه كلام يساق على صورة توهم بأنه يشبه الأقوال العلمية في إشارتها إلى عالم التطبيق، ولكنه في حقيقته كلام ينكفئ على نفسه فيردد الناس ألفاظه، ثم لا يتغير من حياتهم شيء، ولا يفوتنا هنا أن نفرق بينه وبين «الأدب»؛ لأنه إذا كان يشبه العبارة الأدبية في انطوائها على ألفاظها، فالفرق هو أن للأدب معاييره، التي إذا ما روعيت كان للأدب شكله الأدبي من جهة، ثم كان له الإشارة إلى الحياة الفعلية بطريق غير مباشر من جهة أخرى، وأما ذلك الكلام الممسوخ الذي أعنيه والذي هو مصدر الخطر كله، فهو - كما قلت - يوهم بأنه يحمل فكرا، ولكن الفاحص لن يجد في ثنايا لفظه شيئا اللهم إلا التركيب اللفظي ذاته، وكان الله يحب المحسنين.
إنه لا خطورة في «علم» يقدم إليك ما تنفذ به إلى عالم التطبيقات العملية كلما أردت ذلك، ثم لا خطورة في أدب يقدم إليك من التشكيلات اللفظية، ما يتركك وفي نفسك أثر من الخبرات البشرية التي إن لم تكن مأخوذة من الواقع المباشر، فهي موازية لذلك الواقع، كما يحدث لمن يقرأ من الأدب الجيد شعرا أو رواية أو مسرحية أو مقالة، لكن الخطورة كل الخطورة هي في ذلك الصنف الثالث اللعين، الذي قد يشبه كلام العلم وهو ليس من العلم في شيء، وقد يشبه كلام الأدب والأدب الحق منه بريء، وإنني لزعيم لك، راجيا أن أكون مخطئا فيما أزعمه، بأن مناخنا الثقافي في معظمه، هو من ذلك الصنف الثالث، وكذلك من هذا الصنف نفسه كان النص الذي نقلته إليك عن السوفسطائي اليوناني المجهول، ولعلك تدرك الآن لماذا قدمته؟ والذي هو وأشباهه من ضروب القول، قد حفز سقراط إلى أن يرفع للناس قوائم الميزان.
Bilinmeyen sayfa