ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك كذلك، ونحن نرى بأعيننا، ونسمع بآذاننا أن أفراد الناس يتعاملون مع الأشياء من حولهم، ويتبادلون الأحاديث بعضهم مع بعض؟ إن «ليبنتز» إذا كان ليجيب عن هذه الأسئلة وأمثالها، لكان الأرجح أن تجيء إجابته شبيهة جدا بما قاله بعض الفرق الإسلامية قديما، وهي الجماعات التي أخذت بمذهب «الجبرية» أخذا صارما، فما من لفظ ينطق به عند تلك الجماعات وما من فعل تتعلق به إرادته، إلا ويتم حين يتم «عند» شعور الإنسان بتلك «الإرادة» في داخله، وليس «ب» تلك الإرادة، فكل شيء مرهون بمشيئة الله، سواء أتحركت في داخل الإنسان إرادة أم لم تتحرك، وهكذا - ربما - كان ما تصوره ليبنتز حين تصور أفراد الناس أبراجا مغلقة على نفسها، فإذا كان هنالك تعامل بين برج بشري وبرج آخر، فإنما هو توافق شاءته وأحكمت تدبيره وتوقيته مشيئة الله، وفي هذا يقوم مبدأ «التناسق الأزلي» الذي أخذ به «ليبنتز»، ومؤاده أن الله سبحانه وتعالى قد قدر لكل حدث ميقاته ولا يستثنى من ذلك التدبير الشامل الكامل أقوال الناس وأفعالهم، وعلى هذا الوجه نفهم كيف يتم التعامل والتبادل بين أفراد الناس، وهنا يسوق لنا «ليبنتز» أحد تشبيهاته الدقيقة الرائعة، فيقول ما معناه: أئذا وجدنا الساعات في مختلف أماكنها، متباعدة أو متقاربة، أئذا رأيناها جميعا تشير إلى وقت محدد تتفق عليه جميعا، دهشنا وسألنا: كيف أمكن لهذه الساعات أن تتفق، برغم أن كل ساعة منها مغلقة على نفسها مستقلة بذاتها؟ أليست علة اتفاقها هي مهارة صانعها الذي أحكم صناعتها فدارت تروسها، وتحركت مؤشراتها، بحيث اتفقت جميعا؟
لكن التشبيه الآخر، والأروع، هو هذا الذي جعلته عنوانا لهذا الحديث، وأعني التشبيه بالمعزوفة الموسيقية؛ إذ يقول ما خلاصته: افرض أن أعضاء الفرقة الموسيقية على اختلاف آلاتهم، قد تفرقوا، بحيث جلس كل عازف منهم في غرفة وحده، هذا يعزف على الكمان، وذلك يعزف على البيان، والثالث يزمر في مزمار ، الرابع يقرع الطبلة بضرباته، وهكذا، على أن تكون مدونة المعزوفة مع كل منهم، وعزف الجميع معا، دون أن يتصل أحدهم بالآخر، ألا ترى أن السيمفونية تكتمل لمن استطاع أن يسمع وهو على مبعدة؟ فإذا سألت: لكن أين قائد الفرقة الذي لولا إشاراته إلى العازفين، لما عرف أي منهم متى يبدأ، ومتى ينتهي؟ كان الجواب - مرة أخرى - هو أن قائد الفرقة، وواضع مدونتها، هو الخالق جل وعلا، قدر في الأزل لكل عازف ما يعزف، وأين يعزف، ومتى يعزف، بحيث يتكامل للحياة الإنسانية تناغم أفرادها في تعاملهم وفي تبادلهم، وفي كل ما يجتمعون على قوله أو فعله.
الكون كله يؤلف معزوفة كبرى، ليس فيها نغمة نشاز، هنالك سدم تعد بألوف الملايين في كل سديم منها نجوم تعد بملايين الملايين، كل نجمة منها ترسل الضوء ليسري بسرعة تقاس بآلاف الملايين من وحدات، كل وحدة منها «سنة ضوئية» - أي ما يقطعه الضوء في سنة كاملة - علما بأن الضوء يقطع في جريانه ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة. وهنالك في الكون قوة خفية اسمها «الجاذبية»، وبهذه القوة كل جسم يجذب كل جسم آخر، غير أن الأكبر من تلك الأجسام أقوى جذبا من الأصغر، والأقرب أشد وأسرع جذبا من الأبعد، وبهذا التجاذب بين أطراف الكون يتعادل البناء ويتوازن، وهنالك وهنالك وهنالك، ولكل شيء مما هنالك فعله، إلا أنه فعل يتكامل مع فعل سواه، فأي عجب في أن رجلا نافذ البصيرة مثل «ليبنتز» ينظر إلى هذا التناغم المدبر المحكم العجيب، ثم يوجه النظر بعد ذلك نحو مجموعة البشر فوق هذا الكوكب الأرضي، فيرى فيها شيئا من ذلك التناغم بين أفرادها، هذا إذا صلحت أمورها واستقامت، وإلا ففسادها يحيل أنغام المعزوفة إلى خليط من أصوات تتنافر فتصبح ضجيجا يصم الآذان؟
على أن كاتب هذه السطور، إذ يقدم ذلك الهيكل الإطاري في تصور المجتمع السليم، والذي خلاصته أن يعزف كل فرد من أفراده، على آلته التي يحسن العزف عليها، شريطة أن يلتزم في عزفه، تلك «المدونة» الواحدة ، لكي تتآلف النغمات الآتية من مجموعة المواطنين، على اختلاف نزعاتهم، فتتكون منها معزوفة موحدة متنافسة، أقول إن كاتب هذه السطور، إذ يقدم هذه «الرؤية» العظيمة، يشعر بضرورة أن ينبه قارئه، بأنه في وجهة نظره العامة، لا يأخذ بما أخذ به «ليبنتز» في وجهة نظر العامة، وأهم مصدر للاختلافات بين الوجهتين، هو أن «ليبنتز» - كما أسلفنا عنه القول - قد صدر في رؤيته، عن مبدأ أول، هو «رياضية» الكون وكائناته، فكأنما هو بذلك قد جعل الصيغة الرياضية وحدها هي معيار الحق في كل شيء، صغر أو كبر؛ ولذلك فهو يتوقع من أي شيء ومن كل شيء، أن تجيء مسالكه كلها منتزعة من طبيعته، بغض النظر عن المؤثرات المحيطة به، على غرار ما يكون «المثلث» - مثلا - هو المثلث بكل خصائصه التي نعرفها له في علم الرياضة، مهما يكن من أمر في ظروف حدوثه ووجوده، ولم يكن «ليبنتز» في ذلك المبدأ الرياضي عند النظر إلى حقائق الوجود، وحيدا ولا فريدا، بل الأمر على عكس ذلك؛ إذ نستطيع القول - اختصارا - بأن ذلك المبدأ قد ساد العصور الماضية كلها حتى لقد كان فلاسفتهم يبحثون دائما عن طريقة تمكنهم من النظر إلى «العلوم الطبيعية» على أساس المنهج الرياضي، لعلهم يخرجون منها بحقائق علمية فيها «يقين» العلوم الرياضية، لكن هذا الموقف قد تبدل في عصرنا، حين تبين، بما لا يدع مجالا لريبة مرتاب، أن ما يصدق على علوم الرياضة، لا يصدق على علوم الطبيعة، وأن لكل من هاتين المجموعتين منهجا خاصا، يختلف به اختلافا جذريا عن منهج المجموعة الأخرى، وربما كان هذا التغيير الجذري العميق، أعظم كشف في منجزات الفكر الفلسفي المعاصر جميعا؛ لأنه كشف يضرب بفروعه هنا وهناك، فإذا نحن أمام نظرة جديدة لم تعرفها العصور السابقة، وهي النظرة التي يبني عليها كاتب هذه السطور موقفه.
لكن هذا الاختلاف في الأساس، لا يمنع صاحب النظرة الجديدة من قراءة الأفكار العظيمة قراءة جديدة، ليفيد من عظمتها وعمقها واتساع أفقها، دون أن يتنازل عن وجهة النظر الجديدة ومنطقها وأسسها ، فلئن كان «ليبنتز» قد بنى هيكل المجتمع على صورة سيمفونية، تصان فيها فردية الفرد بميوله وقدراته التي يتميز بها، لكنها كذلك تلتزم أن تتناغم مع سائر الأفراد، بأن ينخرط الجميع في مدونة موسيقية واحدة، معتمدا في تصوره على أن كل فرد هو في ذاته كالجملة الرياضية القائمة وحدها داخل مبناها، فليس ثمة ما يمنعنا من الأخذ بتلك الصورة السيمفونية في تصور العلاقات، التي نريد لها أن تربط الأفراد بعضهم ببعض في شعب واحد، بل وتربط الشعوب العربية بعضها ببعض كذلك في أمة عربية واحدة، فيكون كل الفرق بيننا وبين «ليبنتز»، فيما يختص بتصورنا للعلاقة بين المجتمع وأفراده، هو أننا لا نفهم طبيعة الفرد على أنها برج مغلق الجدران، فتحصره في حدود طبيعتها الفطرية وحدها، بل نضع نحن النوافذ في تلك الجدران، لينفتح الطريق بين الفطرة الداخلية من جهة، والعالم الخارجي لكل من فيه وما فيه من جهة أخرى، فيحدث بين الطرفين تفاعل حي، يتطور بطبيعة الإنسان ذاتها، تطورا يتيح لها النماء.
وحقا نحن في أمس الحاجة إلى هذا التصور السيمفوني، لنصلح به ما قد أفسده الدهر من بنائنا الاجتماعي، حتى لقد انفرط الشعب أفرادا متنافرة متباعدة - كما أسلفت القول - وانفرطت الأمة العربية شعوبا متخاصمة الحكام، إن لم تكن متنافرة فيما هو أبعد من الحكام، وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن تمثلنا للتصور السيمفوني فيما نحن بصدده من نهوض بحياتنا، هو خير ما نهتدي به في ميادين التعليم، والسياسة، والاقتصاد، والبنى الاجتماعية على اختلافها، فهو تصور يجمع المبدأين الأساسيين معا، وهما: حرية الفرد في أن يحيا وفق طبيعته التي ولد بها ولا حيلة له فيها من جهة، وتماسك البناء الاجتماعي بما هو أصلب من أسياخ الحديد، برغم ما قد كفلناه للأفراد من حرية النمو من جهة أخرى.
لقد امتد بي العمر بحيث أستطيع المقارنة بين جيلين مقارنة واعية، والمقارنة التي أريدها هنا مقصورة على الركيزتين الأساسيتين اللتين أسلفت ذكرهما، وهما - أكرر مرة أخرى - حرية الفرد في تحقيق ما يتلاءم مع طبيعته التي انفرد بها دون سواه، سواء أكان ذلك في مجال التعليم، أم في مجال العمل، أم في حياته الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تصاغ تلك الحرية الفردية - عن طريق التربية والتوعية الإعلامية - صياغة تجعلها متسقة مع سائر الأفراد في منظومة واحدة، فإذا ما أجريت مقارنة بين الجيلين من حياتي الواعية، فيما يختص بهذين الجانبين، قلت على سبيل الترجيح الذي يقرب من اليقين، إن الجيل الماضي كان أقل من الجيل الحاضر حرية فردية، لكنه كان أكثر منه اتساقا وتناغما، فإذا كان هذا الجيل قد ترك لكل فرد (بالتشبيه الموسيقي) حرية اختيار الآلة التي يعزف عليها، والطريقة التي يعزف بها، فقد ترك أبناءه ليتنافروا لحنا ونغما، حتى لم يعد بينهم ما يربطهم في سيمفونية واحدة، وعكس ذلك صحيح بالنسبة لأبناء الجيل الماضي، فقد قيدت حركاتهم في حدود الإطار الاجتماعي، داخل الأسرة وخارجها على السواء، فنتج عن تلك القيود أن تناسق البناء الاجتماعي وتماسك، فإذا صدقت هذه المقارنة تبين لنا سبيل الإصلاح في أي مجال نريد أن نصلحه، وهو أن نبقي على الجانب المكسوب - وهو الزيادة في حرية الفرد - وأن نسترد الجانب المفقود، وهو تناسق النغمات الفردية في معزوفة اجتماعية كبرى.
وقد يكون من المفيد لنا أن نتذكر بأن الجانبين المذكورين: اكتساب الحرية الفردية وفقدان التناسق بين الأفراد، ليسا مقصورين علينا - وأعني المصريين شعبا والعرب أمة - بل هما ظاهرة ملحوظة في العصر كله، وإن تكن أقطار العالم تتفاوت درجات في تلك الظاهرة، فمنها من أفرط في حرمان الأفراد من الحرية حفاظا على شيء من التناسق الاجتماعي، ومنها من كاد يصرخ قائلا على ألسنة أفراده: إلى الجحيم بذلك التناسق المطلوب، في سبيل أن يبرطع كل فرد حرا من القيود الاجتماعية، في أي فلك يشاء أن يدور، وقد سمعت ذات يوم في الصيف الماضي (1987م)، خطبة قصيرة مذاعة بالراديو، لرئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا، ألقاها في حفل تكريمي أقيم في مناسبة لم أعرف ماذا كانت، فأخذ رئيس المحكمة يوجه العتاب المر إلى الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، قائلا إن هؤلاء جميعا، في غير شعور كاف بالمسئولية الاجتماعية الملقاة على عواتقهم، يهدمون بعنوان واحد كتب بالخط العريض في صحيفة ما، أو بدردشة مستهترة تدور في مذياع أو تلفاز، ما قد أخذ القضاء الصابر المتأني يبنيه في شهور أو في أعوام، ليصل إلى حكم عادل، فجمهور اليوم لا يعبأ بعدالة الحكم على متهم، بقدر ما يرغب في التخلص من متهم صورت له أوهامه - أعني جمهور الناس - بأنه مجرم، ثم ختم رئيس محكمة الاستئناف العليا خطبته القصيرة بقوله يصف هذه الفترة الزمنية وبنيها: لقد تحطمت الروابط والضوابط، التي لم يكن منها بد لمجتمع سليم، فانحلت روابط الأسرة حتى لم تعد أسرة، وتبخر الإيمان الحقيقي بالدين، فتبخرت معه الحدود بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، ووهنت القيم الاجتماعية، حتى أصبح كل فرد يسلك وكأنه لا ضوابط ولا ضواغط تلزمه وتقيده، وغضت الأبصار عن رؤية «الآخرين»، فكأنه قد خيل لكل فرد أن ليس في الدنيا سواه.
ذلك ما وصف به رئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا أبناء وطنه اليوم، وأحسب أننا لا نخطئ إذا جعلناه وصفا يصدق على العالم كله، وإن يكن ذلك بدرجات تتفاوت بها الشعوب، فإذا كنا نحن قد وجهنا أنظارنا اليوم بقوة نحو إصلاح الجهاز التعليمي من جذوره، بل مما هو أسبق من الجذور وهو البذور، فلا يكفي أن نسلط معظم الأضواء على عمليات «التنمية»، التي كثيرا ما نعني بها التنمية الاقتصادية من ناحية الإنتاج؛ لأن هذه النظرة سرعان ما توجه انتباهنا إلى ما يضاف أو يحذف من «المقررات»، ابتغاء أن نصنع من المتعلمين «آلات» إنتاجية مدربة، ويفوتنا أن مجموعة آلات بشرية مدربة إلى أقصى درجات التدريب، على القيام بصناعة أعلى، وزراعة أوفر، وهندسة أدق، وهكذا، لا تصنع «شعبا»، وإنما يصنع الشعوب ذلك الجانب الآخر، الذي يوائم بين الأفراد في سياق اجتماعي منغوم، نعم، إنني على علم بأن دعاة الإصلاح التعليمي، لا ينسون أن يذكروا «التنمية الاجتماعية» إلى جانب التنمية الاقتصادية ليتم التكافؤ، لكني أشك في أن هذه التنمية الاجتماعية المذكورة في البيانات والتقارير، تحمل معها معنى دقيقا في الأذهان، بحيث نعرف في وضوح ماذا يراد لنا أن نصنعه، في مدارسنا وجامعاتنا، لنخرج المواطن المحترف بحرفة إنتاجية والذي يكون في الوقت نفسه مواطنا متسق النغمات مع سائر مواطنيه.
إننا - يا سادة - نعيش اليوم حياة، كان المواطنون فيها يسالم بعضهم بعضا حتى أمس القريب، وأصبحنا فإذا بعض يذبح بعضا من أجل قبضة مال، وبعض يخنق بعضا من أجل منصب لا يكاد يأتي حتى يزول، وبعض يفتك ببعض من أجل فكرة يتعصب لها غير واثق أنه فيها على صواب، فحتى لو صلحت آلات العزف في أيدي الأفراد، فقد تهتكت الروابط التي تجعل من حياتنا معزوفة كبرى.
Bilinmeyen sayfa