Black Seed in Prophetic Medicine and Modern Medicine
الحبة السوداء في الحديث النبوي والطب الحديث
Yayıncı
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٥هـ
Türler
الحبة السوداء في الحديث النبوي والطب الحديث
إعداد الدكتور: د. عبد الله بن عمر باموسى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، الرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
إن من دلائل النبوة المحمدية الباقية والمتزايدة مع الوقت ما تضمنته نصوص القرآن والسنة من إشارات وإيماءات متعلقة بآيات الله في الأنفس والآفاق، بعضها عرف مدلوله ومعناه على وجه الحقيقة مؤخرا، وبعضها لم يتوصل إليه العلم حتى الآن، وقد يعرف فيما بعد. ومن هذا الإعجاز النصوص الواردة في الطب، وقد جمعها عدد من العلماء في مصنفات سميت بالطب النبوي، ومنها ما نحن بصدده في هذا البحث من نصوص واردة في الحبة السوداء التي قال عنها مَنْ لا ينطق عن الهوى: إنها شفاء من كل داء إلا السام. وقد يستغرب بعضهم من ورود هذه النصوص المتعلقة بالطب في القرآن والسنة، وهذا يزيل استغرابه ابن القيم ﵀ حيث قال "ولعل قائلا يقول: ما لهدي الرسول ﷺ، وما لهذا (الباب) وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج، وتدبير أمر الصحة؟.
وهذا من تقصير هذا القائل، في فهم ما جاء به الرسول ﷺ.
فإن هذا وأضعافه، وأضعاف أضعافه من فهم بعض ما جاء به، وإرشاده إليه، ودلالته عليه. وحسن الفهم عن الله ورسوله: من يمن الله به على من يشاء من عباده. فقد أوجدناك أصول الطب الثلاثة في القرآن. وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة، مشتملة على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مرشدة إلى حفظ
1 / 1
صحتها، ودفع آفاتها، بطرق كلية، وقد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح، والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه. ولا تكن ممن إذا جهل شيئا عاداه.
ولو رزق العبد تضلعًا من كتاب الله وسنة رسوله، وفهمًا تامًا في النصوص ولوازمها لاستغنى بذلك عن كل كلام سواه، ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه، فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه. وذلك مُسَلَّمٌ إلى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه: فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه، وحكمته في خلقه وأمره. (١)
وقد طلب مني القائمون على هذه الندوة المباركة جزاهم الله خيرًا، الكتابة في موضوع يتعلق بالإعجاز العلمي أو الطبي، فاخترت موضوع الحبة السوداء لاهتمامي منذ ما يقرب من عشر سنوات بهذا الموضوع مع زملائي في القسم، وأخص منهم الدكتور باسل الشيخ، الذي كان له الفضل بعد الله بالعناية بالحبة السوداء في قسمنا. وبحوث الحبة السوداء على كثرتها (أكثر من مائة بحث) تعد قليلة في حق هذا العلاج العجيب، ولا نزال حتى الآن نجهل الكثير عن إمكانات هذه النبتة المباركة. وقد اخترت أن تكون الكتابة في الجانب العلمي مجملة ومبسطة لغرض تسهيل الفهم على العامة وغير المتخصصين.
وإن مما ينبغي الإشارة إليه أننا معشر الأطباء والباحثين المسلمين مقصرون في العناية بنصوص الشريعة المتعلقة بالطب. ولعل طرح مثل هذا
_________
(١) الطب النبوي لابن القيم صفحة ٣٢٤ - ٣٢٥
1 / 2
البحث يبعث فينا العزيمة ويشحذ الهمم على إعطاء هذه النصوص حقها من الدراسة والبحث والتطبيق. وإننا بحاجة إلى وضع خطط لهذه البحوث، ومراكز للعناية ببحوث الطب النبوي، لكي نصل إلى بعض ما دلنا عليه المصطفى من كنوز في هذا الميدان. فعلى سبيل المثال دلنا رسولنا الكريم ﷺ أن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام، ومع ذلك نجد أن البحوث التي أجريت على هذا الدواء قليلة، بل حتى الآن لم تحدد طريقة علمية موثقة لاستخدام الحبة السوداء علاجًا ولو لمرض واحد.
وقد قسمت البحث إلى فصلين في كل منهما ثلاثة مباحث:
الفصل الأول: متعلق بالحبة السوداء في الحديث النبوي وفيه ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: استقصاء الأحاديث الواردة في الحبة السوداء مع تخريجها.
المبحث الثاني: كلام العلماء في شرح هذه الأحاديث.
المبحث الثالث: بعض التجارب في الاستشفاء بالحبة السوداء في القديم والحديث.
الفصل الثاني: متعلق بالحبة السوداء في الطب الحديث وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مكونات الحبة السوداء.
المبحث الثاني: مسح عام للبحوث المتعلقة بالحبة السوداء في الطب الحديث.
المبحث الثالث: هل للحبة السوداء تأثيرات سلبية؟
1 / 3
ثم خاتمة وتوصيات.
أسأل الله أن ينفع بهذا البحث، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يجزي كل من أعان على إخراجه خير الجزاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.
1 / 4
الفصل الأول: الحبة السوداء في الحديث النبوي
المبحث الأول: استقصاء للأحاديث الواردة في الحبة السوداء مع تخريجها
...
الفصل الأول: الحبة السوداء في الحديث النبوي
استقصاء للأحاديث الواردة في الحبة السوداء مع تخريجها
١- حدثني عبد الله ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الله، حدثنا إسرائيل عن منصور عن خالد بن سعد قال: "خرجنا ومعنا غالب بن أبجر، فمرض في الطريق، فقدمنا المدينة وهو مريض، فعاده ابن أبي عتيق فقال لنا: عليكم بهذه الحبيبة السوداء فخذوا منها خمسا أو سبعا فاسحقوها، ثم أقطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب، فإن عائشة ﵂ حدثتني أنها سمعت النبي ﷺ يقول: إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا من السام. قلت: وما السام؟ قال: الموت" (١) .
٢- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة ﵁ أخبرهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام. قال ابن شهاب: والسام الموت، والحبة السوداء الشونيز" (٢) .
_________
(١) رواه البخاري (٥٦٨٧) - الفتح ج (١٠) صفحة (١٤٣)، رواه ابن ماجه - صحيح سنن ابن ماجه م٢ صفحة ٢٥٤ رقم ٢٨٨٠.
(٢) رواه البخاري (٥٦٨٨) الفتح ج (١٠) صفحة (١٤٣) . وأخرجه مسلم بنفس السند بلفظ «إن في الحبة السوداء.....» رقم (٢٢١٥) باب التداوي بالحبة السوداء - كتاب السلام.
1 / 6
٣- حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل (وهو ابن جعفر) عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: "ما من داء، إلا في الحبة السوداء منه شفاء. إلا السام" (١) .
٤- حدثنا ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن أبى سلمة، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام" والسام: الموت (٢) .
٥- عن عثمان بن عبد الملك، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: "عليكم بهذه الحبة السوداء. فإن فيها شفاء من كل داء، إلا السام" (٣) .
٦- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا سريج بن يونس عن المطلب بن زياد عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: قال النبي ﷺ " الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام" (٤) .
_________
(١) رواه مسلم / كتاب السلام / باب التداوي بالحبة السوداء ٨٩- (....)
(٢) رواه الترمذي / أبواب الطب / ٥- باب ما جاء في الحبة السوداء / رقم (٢١١٣) صحيح- صحيح سنن الترمذي ج (٢) صفحة (٢٠٢) رقم (١٦٦٢) .
(٣) صحيح – صحيح سنن ابن ماجه / م ٢/ صفحة ٢٥٣/ رقم ٢٧٧٩.
(٤) قال الألباني: (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (٤٩١)، وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات) سلسة الأحاديث الصحيحة م ٤ صفحة ٤٣٢ رقم ١٨١٩.
1 / 7
٧- "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام" (١)
٨- "عليكم بهذه الحبة السوداء، وهي الشونيز، فإن فيها شفاء" حدثنا زيد: حدثني حسين: حدثني عبد الله قال: سمعت أبا بريدة يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: فذكره (٢) .
٩- "الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء، إلا الموت" (٣) .
١٠- "حديث أن النبي ﷺ قال للأنصار:
أتيناكم أتيناكم ... فحيُّونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر لما حلت بواديكم ... ولولا الحبة السوداء ما سرت عذاريكم" (٤)
_________
(١) أخرجه الطيالسي (رقم ٢٤٦٠) وأحمد (٢/٤٦٨و ٥٣٨) من طريق شعبة عن قتادة قال: سمعت هلالا المزني أو المازني يحدث عن أبي هريرة مرفوعا، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات (سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم ١٠٦٩) .
أخرجه أحمد (٥/٣٥٤) .
(٢) (سلسلة الأحدايث الصحيحة ١٩٠٥) قال الشيخ الألباني: وهذا إسناد جيد على شرط مسلم) .
(٣) (أبو نعيم في الطب) عن بريدة. صحيح – صحيح الجامع الصغير رقم (٣١٦٣) .
(٤) (حسن: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (١/١٦٧/١) من طريق محمد بن أبي السري العقلاني أبو عاصم رواه ابن الجرح عن شريك بن عبد الله بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) (إرواء الغليل ١٩٩٥) .
1 / 8
بعض الروايات الضعيفة في الحبة السوداء:
١- "الكمأة دواء العين، وإن العجوة من فاكهة الجنة، وإن الحبة السوداء يعني الشونيز – الذي يكون في الملح دواء من كل داء إلا الموت" (١) .
٢- "قال قتادة: حدثت: أن أبا هريرة قال: الشونيز دواء من كل داء، إلا السام، قال قتادة: يأخذ كل يوم إحدى وعشرين حبة من الشونيز، فيجعلهن في خرقة فينقعه فيتسعط به كل يوم في منخره الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة، والثاني: في الأيمن واحدة، وفي الأيسر ثنتين، والثالث في الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة" (٢) .
٣- "عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ "كان إذا اشتكى تقمح (أي استف) كفًّا من شونيز ويشرب عليه ماءً أو عسلا". (٣)
_________
(١) قال الألباني: (أخرجه أحمد ٥/٣٤٦ حدثنا أسود بن عامر: حدثنا زهير عن واصل بن حيان البجلي ثني عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي ﷺ وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الستة، غير أن له علة دقيقة وهي أن زهيرًا وهو ابن معاوية أخطأ في قوله: واصل بن حيان وإنما هو صالح بن حيان، وهذا ضعيف....) إلى أن قال (... قلت وقد رواه على الجادة محمد بن عبيد قال: حدثنا صالح يعني ابن حيان عن ابن بريدة به ثم أتم منه فانظر: (إن الجنة عرضت علي..) في الكتاب الآخر (يعني سلسة الأحاديث الضعيفة) رقم ٣٨٩٩) . سلسة الأحاديث الصحيحة م ٢ صفحة ٥٤٧ في تعليقه على الحديث رقم ٨٦٣.
(٢) أخرجه الترمذي (جامع الأصول م ٧ صفحة ٥١٨ حديث ٥٦٣٩. قال محققه عبد القادر الأرناؤوط: (هذه الرواية عند الترمذي موقوفة، وفي سندها انقطاع، وقد وردت في حديث مرفوع أخرجه المستغفري في كتاب الطب، وإسنادها ضعيف) .
(٣) رواه الطبراني في الأوسط وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج ٥/٨٧) .
1 / 9
المبحث الثاني: كلام العلماء في شرح هذه الأحاديث
أ – تعريف الحبة السوداء:
قال ابن القيم ﵀: "الحبة السوداء هي: الشونيز في لغة الفرس. وهي: الكمون الأسود، وتسمى: الكمون الهندي. قال الحربي عن الحسن ﵁: إنها الخردل. وحكى الهروي: أنها الحبة الخضراء، ثمرة البطم. وكلاهما وهم. والصواب: أنها الشونيز" (١)
قال الحافظ ابن حجر ﵀ قوله: "الحبة السوداء الشونيز" كذا عطفه على تفسير ابن شهاب للسام، فاقتضى ذلك أن تفسير الحبة السوداء، أيضا له. والشونيز بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون التحتانية بعدها زاي ... وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهرة، الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر على العكس والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر، وهي الكمون الأسود. ويقال له أيضا الكمون الهندي (٢) .
_________
(١) الطب النبوي ص ٢٢٩
(٢) فتح الباري ج ١٠ / ١٤٥.
1 / 10
ما المقصود بقوله ﷺ "شفاء من كل داء" *.
هل المقصود بقوله ﷺ "شفاء من كل داء" العموم أو الخصوص. على قولين للعلماء.
١- القائلون بالتخصيص:
قال الخطابي: "هذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص وليس يجمع في طبع شيء من النبات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها، وتباين طبعها، وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة والبرودة والبلغم. وذلك أنه حار يابس فهو شفاء بإذن الله للداء المقابل له في الرطوبة والبرودة. وذلك أن الدواء أبدًا بالمضاد، والغذاء بالمشاكل" (١) .
وقال أبو بكر بن العربي: "العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل "فيه شفاء للناس" الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى" (٢) .
_________
*من الغرائب أنني قرأت لأحد المعاصرين من المجربين في طب الأعشاب (كتاب: الشفاء في الحبة السوداء بين التجربة والبرهان) أن من مدلول قوله ﷺ (فيها شفاء) وليس هي شفاء: وجوب استخدامها مع أعشاب أخرى وعدم استخدامها بمفردها (!!) ذلك لأن الشفاء من أحد مركباتها. وسبب مثل هذه الغرائب الخوض فيما لا يحسن المرء فإن مثل هذا القول كما ترى في هذا المبحث لم يقل به عالم من علماء الشرع الذين عرفوا اللغة ومدلولات النصوص الشرعية، ومن جهة أخرى تشهد البحوث الطبية المعاصرة على أن الحبة السوداء مفيدة بمفردها كما سنرى في الفصل الثاني من هذا البحث.
(١) تحفة الأحوذي ج ٦ / ١٦٣.
(٢) فتح الباري١٠/ ١٤٥.
1 / 11
وقال الطيبي: " ... ونظيره قوله تعالى في حق بلقيس: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ في إطلاق العموم وإرادة التخصيص" (١) .
وقال ابن القيم: "وقوله "شفاء من كل داء"؟ مثل قوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾، أي كل شيء يقبل التدمير، ونظائره” (٢) .
وقال المناوي: «... "شفاء من كل داء" يحدث من الرطوبة إذ ليس في شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور ...» (٣) .
٢- القائلون بالعموم:
قال أبو محمد بن أبي جمرة: "تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة، ولاخفاء بغلط قائل ذلك، لأننا إذا صدقنا أهل الطب – ومدار علمهم غالبا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم" (٤) .
وقال المباركفوري: " ... وقيل: هي باقية على عمومها وأجيب عن قول الخطابي ليس يجمع في طبع شيء ... إلخ بأنه:
ليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
_________
(١) تحفة الأحوذي ٦/ ١٦٣.
(٢) الطب النبوي / ٢٢٩.
(٣) فيض القدير م ٤/ ٣٥٢.
(٤) فتح الباري ج١٠ ص ١٤٥.
1 / 12
أما قول الطيبي ونظيره إلخ ففيه أن الآيتين يمنع حملهما على العموم على ما هو عند كل أحد معلوم، وأما أحاديث الباب فحملها على العموم متعين لقوله ﷺ فيها: إلا السام. كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر الآية:٢-٣] " (١) .
٣- الجمع بن القولين:
قال ابن حجر: "يؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة السوداء شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطًا وضمادًا وغير ذلك"٢) .
وقال ﵀ بعد ذكر الخلاف بين القائلين بالخصوص والعموم في معنى قوله ﷺ "شفاء من كل داء" «... وقد تقدم" يعني الكلام أعلاه "توجيه حمله على عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الإفراد والتركيب، ولا محذور في ذلك ولا خروج عن ظاهر الحديث والله أعلم" (٣) .
وهذا الذي ذكره ﵀ يشهد له ما سنذكر في هذا البحث من فوائد عديدة للحبة السوداء في علاج أمراض مختلفة، مما يرجح القول بالعموم، ولكن بالمشاركة مع غيرها من الأدوية أحيانا وبالاستخدامات المختلفة لها، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.
_________
(١) تحفة الأحوذي، ٦ / ١٦٣.
(٢) فتح الباري ١٠/١٤٤.
(٣) فتح الباري ١٠/١٤٥.
1 / 13
المبحث الثالث: بعض التجارب في الاستشفاء بالحبة السوداء في القديم والحديث
أ- تجارب للاستشفاء بالحبة السوداء في القديم:
ذكر عدد كبير من العلماء الذين صنفوا في الطب النبوي فوائد عديدة للحبة السوداء مقتبسة من تجارب الأطباء والحكماء في تلك العصور وما سبقها. ولا بد من وقفة قصيرة مع هذه النقولات، فقد يظن بعضهم عند قراءتها أنها من الطب النبوي؛ وذلك لأنها ذكرت في كتاب بهذا العنوان وهذا خطأ، فإن هذه التجارب القديمة للعلاج من أمراض مختلفة باستخدام الحبة السوداء هي اجتهادات لأصحابها، ولا يمكن أن تعزى إلى الطب النبوي؛ لأنها لم تصدر من المصطفىصلى الله عليه وسلم. وقد يكون إيراد العلماء لها من باب التمثيل على الفوائد الجمة لهذا العلاج وذِكْرِ ما وصل إليه علمهم في ذلك العصر من استخدامات علاجية لهذا الدواء الذي هو في أصله نبوي إذ ورد في الحديث الأمر بالتداوي به والله أعلم.
وقد جمع ابن القيم ﵀ في كتابه "الطب النبوي" أكثر هذه النقولات عن أطباء وحكماء تلك العصور ولذا فنكتفي بهذا النقل عنه مثلًا لهذه الوصفات القديمة.
"والشونيز حار يابس في الثالثة: مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى الرِّبْع (١) والبلغمية، مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة
_________
(١) وهي الحمى التي تأخذ يومًا وتدع يومين، ثم تجيء في اليوم الرابع. القاموس (ربع) .
1 / 14
المعدة ورطوبتها. وإن دق وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة. ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياما. وإن سخن بالخل، وطلي على البطن قتل حب القرع. فإن عجن بماء الحنظل الرطب أو المطبوخ: كان فعله في إخراج الدود أقوى. ويجلو ويقطع ويحلل، ويشفي من الزكام البارد: إذا دق وصر في خرقة واشتم دائما، أذهبه. ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان. وإذا شرب منه مثقال بماء: نفع من البهر وضيق النفس. والضماد به ينفع من الصداع البارد. وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعا بليغا.
وإذا طبخ بخل، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد. وإذا استعط به مسحوقًا، نفع من ابتداء الماء العارض في العين. وإن ضمد به مع الخل: قلع البثور والجرب المتقرح وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة.
وينفع من اللقوة (١): اذا تسعط بدهنه. وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال: نفع من لسع الرتيلاء (٢) . وإن سحق ناعما، وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات، نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد.
وإن قلي ثم دق ناعما، ثم نقع في زيت وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربعًا، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخُلط بشمع مذاب بدهن السوسن (٣) أو دهن الحناء وطلي
_________
(١) اللقوة: داء يعرض للوجه.
(٢) الرتيلاء: ضرب من العناكب.
(٣) نبات فصلي له زهور جذابة مختلفة الألوان.
1 / 15
به القروح الخارجية من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل وطلي به البرص والبهق الأسود والحزاز الغليط نفعها وأبرأها.
وإذا سحق ناعمًا واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد مَنْ عضَّه كَلْبٌ كَلِبٌ قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعا بليغا وأمن على نفسه من الهلاك. وإذا سعط بدهنه: نفع من الفالج والكزاز وقطع موادهما. وإذا دخن به: طرد الهوام.
وإذا أذيب الأنزروت (١) بماء ولطخ على داخل الحلقة ثم ذر عليها الشونيز كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير. ومنافعه أضعاف ما ذكرنا. والشربة منه درهمان. وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل" (٢) .
ب- تجارب حديثة للاستشفاء بالحبة السوداء:
ذكر بعض المعاصرين تجارب لهم في العلاج بالحبة السوداء تشمل تركيب بعض الأدوية المحتوية على الحبة السوداء وطريقة استخدامها للتداوي من بعض الأمراض. وهذه الكتب (٣) وإن كانت حديثة وأصحابها قد يكونون من المتخصصين في بعض المجالات التي تؤهلهم لعمل مثل هذه المركبات
_________
(١) صَمْغُ شجرة تنبت في بلاد الفرس، في طعمه مرارة، ولونه أحمر. انظر الجامع لمفردات الأدوية لابن البيطار ١/٦٣.
(٢) الطب النبوي ص ٢٣٠ -٢٣١.
(٣) للاطلاع على نماذج من الكتب انظر: الشفاء بالحبة السوداء لفرح عبد الحميد القداحي والشفاء في الحبة السوداء بين التجربة والبرهان للكيميائي: طيب عبد الله الطيب.
1 / 16
الدوائية إلا أنها لا تعدو أن تكون تجارب شخصية وآراء لأصحابها. حيث لا تعتمد هذه الكتب على الطريقة العلمية الحديثة في دراسة جدوى استخدام دواء للعلاج من مرض معين، والتي تبنى على نواحٍ إحصائية تجعل الدراسة على مستوى مقبول من الثقة والصدق. ولذا فإن مثل هذه التجارب تضم إلى هذا المبحث من هذا الفصل؛ لأنها أقرب إليه من الفصل التالي الذي يتحدث عن الدراسات العلمية الموثقة المتعلقة بالحبة السوداء في الطب الحديث. وقد تكون هذه المركبات نواة جيدة يمكن استخدامها لإجراء بحوث طبية معتمدة على النواحي الإحصائية الحديثة لإثبات مدى نفع هذه المركبات لعلاج الأمراض المشار إليها في هذه الكتب.
1 / 17
الفصل الثاني: الحبة السوداء في الطب الحديث
المبحث الأول: مكونات الحبةالسوداء
١- نبذة زراعية:
يكثر زراعة الحبة السوداء في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ووسط أوربا وغرب آسيا (١) وينتمي هذا النبات إلى فصيلة (RANUNCULACEAE) وينقسم إلى أقسام يتميز بعضها عن بعض شكلها الخارجي، كما تختلف في تركيبها الكيميائي، وهي:
- الحبة السوداء الشائعة N.Sativa
قوية النمو يصل ارتفاعها الى ٦٠ سم وغزيرة التفريع، عليها أوبار خفيفة. الأوراق مقسمة إلى أجزاء صغيرة خيطية الشكل. والأزهار مشوبة باللون الأزرق والبذور ذات رائحة عطرية عند سحقها بين الأصابع.
- الحبة السوداء الدمشقية N. Damascena
تشبه النوع السابق، إلا أن الأوراق مقسمة إلى أجزاء طويلة ورفيعة جدا، والأزهار كبيرة الحجم ولونها أزرق أو أحمر داكن.
- الحبة السوداء الشرقية: N. Orientalis
وهي نباتات قصيرة وضعيفة النمو لا تزيد أطوالها على أربعين سم. أوراقها مجزأة إلى أجزاء خيطية رفيعة وطويلة، ولونها أخضر فاتح والأزهار صفراء اللون منقطة باللون الأحمر (٢) .
_________
(١) نجيب ١٩٧٨.
(٢) من كتاب الشفاء بالحبة السوداء لفرح عبد الحميد القداحي بتصرف.
1 / 19
٢- مكونات الحبة السوداء:
من أوائل البحوث التي ظهرت في مكونات الحبة السوداء بحث للعالم: قرينش في عام ١٨٨٠ م حيث توصل إلى أن هذه النبتة تحتوي على ٢٧ % زيت، و٤.١٤ % رماد يحتوي على عنصر الكالسيوم بشكل رئيس. ثم توالت البحوث بعد ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحاضر لتكشف مكونات هذا النبات العجيب ويمكن إجمال نتائج هذه البحوث في الجدول رقم (١) والذي يبين نسبة هذه المكونات من وزن الحبة السوداء. وتحتوي الحبة السوداء على مكونات ضئيلة وجزئية ولكنها مهمة من الناحية الدوائية العلاجية؛ حيث تتميز هذه المكونات بالقدرة على التأثير في وظائف الجسم ومكافحة الأمراض والتأثير في مسبباتها) مثل (alkaloids-coumarines. ويتكون الزيت الثابت للحبة السوداء من أحماض دهنية وستيرولات (sterols) (١) بينما يحتوي الزيت الطيار على مادة النيجلون وكان أول من تمكن من فرزها الباحثان محفوظ والدخاخني في عام ١٩٦٠م ثم توصل الدخاخني فيما بعد إلى أنها عبارة عن مركب لمادة الثيموكوينون الذي يعد من أهم المواد الفعالة علاجيا في هذا النبات (٢) .
_________
(١) جاد وزملاؤه – ١٩٦٣.
(٢) الدخاخني ١٩٦٥
1 / 20
جدول رقم (١)
المكونات الأساسية للحبة السوداء (١)
مسمى الجزء
...
النسبة من وزن الحبة السوداء
الزيت الثابت
...
٣٢- ٤٠ %
الزيت الطيار
...
٠.٤ – ٠.٤٥ %
بروتين
...
١٦ – ١٩.٩ %
نشأ
...
٣٣.٩%
ألياف
...
٤.٥ – ٦.٥ %
رطوبة
...
٥.١ – ٧ %
رماد
...
٣.٧ – ٧ %
ومن أكثر الأمور إثارةً ما توصَّل إليه الباحث أبو طبل وزملاؤه (١٩٨٦) من اكتشاف (٦٧) عنصرا في الزيت الطيار للحبة السوداء والذي لا يزيد على ٠.٤ % من وزن الحبة السوداء أي إذا أخذنا مقدار (١) جرام من الحبة السوداء فإن ٠.٠٠٤ من هذا الجرام (أي ما يعادل ٤ مايكرو جرام) يحتوي على هذه العناصر السبعة والستين فسبحان الخالق العظيم.
وظهرت عدة بحوث في الألفية الثالثة (القرن الحادي والعشرون) تفصل في بعض العناصر السابقة من أهمها اكتشاف مادة فعالة ضد الخلايا السرطانية
_________
(١) مقتبس من مشروع بحثي للكاتب بمشاركة د. باسل الشيخ مقدم لمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية.
1 / 21
تسمى الفاهيدرين (alpha-hederin) بواسطة الباحثين كومارا وهوت في عام ٢٠٠١.
٣- هل تختص هذه المكونات بنوع للحبة السوداء دون آخر؟
من الشائع بين العامة أن الحبة السوداء التي لها تأثير طبي هي من نوع معين وتنبت في بلد معين بل ولها سعر أعلى من الأنواع الأخرى من الحبة السوداء. وليس على هذا التخصيص لنوع معين أو بلد معين أو شكل معين للحبة السوداء أي مستند علمي. وقد أجرى الباحثان بروتس وبوكار في عام ٢٠٠٠ بأستراليا بحثا على ستة أنواع من الحبة السوداء الموجودة في الأسواق، وتم تحليل عناصر هذه الأنواع الستة، ووجد أنها تحتوي على نفس التركيب من الناحية النوعية وتكمن الفروقات فقط في كميات هذه العناصر الموجودة في هذه الأنواع الستة. وكذلك البحوث التي أجريت في قسمنا (وظائف الأعضاء بكلية الطب بجامعة الملك فيصل) وهي تقارب العشرة كانت على الحبة السوداء الموجودة في السوق، والتي تباع بالسعر العادي، وأعطت نتائج قوية في التأثير في العوامل التي تم دراستها. ولذا فإن شراء الحبة السوداء الموجودة في السوق ذات السعر العادي يكفي عن شراء الأنواع الغالية والفروقات في هذه الأسعار ترجع غالبًا إلى درجة النقاوة والمذاق، وليس إلى التركيب الكيميائي أو التأثير الطبي والله أعلم.
٤- هل الأنفع أن تؤخذ الحبة كاملة؟
توصل العلماء إلى فصل المادة التي تعرف حتى الآن بأنها أكثر مكونات الحبة السوداء فعالية وهي الثيموكوينون التي سبق الحديث عنها. وهذه المادة تباع في شركات الأدوية وتم معرفة تركيبها الكيميائي. وقد أجرى عدد من
1 / 22