هو أيضا، فذلك هو شأن بسمارك عندما علم أن ملك بروسية يريد أن يجمع في برلين مجالس ولاياته الثمانية المعروفة باللندتاغ في مجلس عام واحد؛ وذلك للبحث في الدستور الذي وعد أبوه به الشعب بعد حرب الإنقاذ، وقد كان هذا أول برلمان حقيقي في تاريخ ألمانية، وبذلك الأمر القائل بتحويل بروسية إلى «دولة ذات دستور حر» سير نحو تحقيق رغائب فتاء بسمارك الغطريس بعد أن كان عطلها من مثل هذا الدستور يؤدي إلى رفضه كل خدمة عامة أيام بلوغه الثالثة والعشرين من سنيه، والآن في ذلك الحين الحاسم ليس له أن يشترك، فهو لا بد له من كرسي وصوت في مغدبرغ حتى يصبح ذا مقعد في اللندتاغ الموحد ببرلين، وهذا المطمح هو الذي حفزه أكثر من سواه إلى إبدائه عظيم نشاط في مجلس أشراف ولاية بوميرانية المعروف بالريترشافت، غير أن زملاءه في هذا المجلس لم يختاروا هذا الشريف السكسوني الشاب إلا نائبا رديفا يقوم بالنيابة عند خلو كرسي.
ويطالع بسمارك في منزله بشونهاوزن - كل يوم - أنباء اجتماع ممثلي بروسية للمرة الأولى في مجلس أهلي بين حماسة القوم، ويساور دماغه وفؤاده دافع إلى العمل، ومن المؤسف أن كان الأكبر منه سنا في برلين هنالك يتمتعون بصحة جيدة فيحولوا دون أخذه مكانه تحت الشمس، وما عليه إلا أن يزحزح أحدهم عن محله وصولا إلى بغيته، ويزعم أن البارون الذي انتخب للرئاسة الأولى لا يستطيع أن يجلس نائبا لهذا الانتخاب فيحتج على بقائه نائبا لدى أصدقائه ببرلين، ويرفع هؤلاء أكتافهم تهكما، ويسألونه عن سبب مغادرته بوميرانية، ويزيد حقده، ويذهب مغاضبا إلى خطيبته، ويتنادر حول الأمر مصرحا بعدوله عنه من فوره.
وأخيرا يمرض أحد فرسان سكسونية في برلين، ويحثه أصدقاء بسمارك على التخلي عن مكانه لهذا حتى عند تحسن صحته، ولا جرم أن بسمارك ذو ضلع في هذا اللعب؛ وذلك لما كان من إعلانه «شديد رغبته في أن يغدو عضوا في اللندتاغ»، ويهرع بسمارك إلى برلين ويدخل قاعة المجلس، وحدث ذلك في سنة 1847 حين كان أوتوفون بسمارك في السنة الثانية والثلاثين من عمره.
ويبصر بسمارك جميع الولايات من الرين حتى ميمل ممثلة هنالك، فيجد في ذلك رمزا إلى الوحدة البروسية، بيد أن الذي يساور أحسن الرءوس في تلك الردهة هو الخيال الألماني لا الخيال البروسي؛ وذلك لأن كل لبيب ينظر إلى المستقبل كان في تلك الأيام حرا في مشاعره مملوءا شوقا إلى الوحدة الألمانية، ويستحوذ مبدأ الوحدة الألمانية على الملك مع سابق مقت أبيه لهذا المبدأ، ويبدو الشعب وأكثرية المجلس الشاملة نصراء الملك في ذلك على حين ترى أنصار العرش الأوفياء ليسوا غير ذوي مشاعر بروسية، وفي ذلك المجلس المؤلف من خمسمائة عضو لا ترى سوى سبعين محافظا، وهؤلاء المحافظون السبعون غير قائلين بالوحدة الألمانية .
ويشعر بسمارك بأنه منفرد؛ فقد كان مركزه الاجتماعي يرغبه في الانحياز إلى الملك، وكانت مشاعره الشخصية منذ صباه تحفزه إلى معارضة الأحرار فيوجب كلا الأمرين عدم تعاونه مع أي واحد من الحزبين، وتبلغ عناصر مزاجه الأساسية - أي الزهو والشجاعة والحقد - درجة الهيجان، ويبحث في الجلسة الثالثة في مسألة إنشاء مصرف للفلاحين مع ضمان الدولة، ويرفض المحافظون اللائحة، ويطلب بسمارك أن يتكلم للمرة الأولى فيدافع باختصار عن الحكومة ضد حزب اليمين، ويدافع عن حزب اليمين ضد الأحرار، وتنطوي خطبته الأولى تلك على هجوم؛ أي تنطوي على مهاجمة الاتجاهين. ويكتب إلى خطيبته متكبرا متأثرا قوله: «إن من الغريب أن يرى ما يبديه الخطباء من إقدام إذا ما قيس بأهلياتهم، وأن يرى ما يظهرونه من قحة في محاولتهم فرض ترهاتهم على مجلس كبير كذلك المجلس. ألا إن الأمر يثيرني أكثر مما كنت أنتظر.» ثم يتكلم عن «ذلك الهياج السياسي الذي يضغطني أكثر مما كنت أتوقع».
ولم يحدث في حال حتى في حال لواعج الحب أن أعرض بسمارك عن ارتيابه إعراضه في تلك الحال، ولم يحدث أن أثار بسمارك أناس أو آراء إثارته بذلك المقدار، ولم بلغ بسمارك من الهيجان ذلك الحد في ذلك اليوم؟ لم تكن تلك المناقشة سبب ذلك ما دام لا يبالي بالفلاحين أبدا، وكذلك أمر بروسية وأمر ألمانية مما لا يقض عليه مضاجعه، وإنما الذي أهمه هو ميدان المباراة، هو معترك أفخم الأساليب، وفي الصباح يقصد اللندتاغ ويكتب إلى خطيبته غير مرة، ومن غير سخرية، قوله «يجب أن أذهب إلى الصراع.»
وكان اعتزازه يتجلى في ازدرائه للناس حتى ذلك الوقت، وذلك في بضع رسائل ساخرة وفي قليل مبارزات على الأكثر، ولم يكن هنالك أي ترجيع، ويظل نشاطه الحي وشجاعته ومهارته بغير حافز إلى المنافسة، وتظل غريزة بسمارك المنافحة المكافحة بغير تغذية لعزوفه
2
عن المنصب ترفعا وزهده في الجندية حرية، ولكونه سيد بعض الفلاحين ولسيطرته على بيئة يسهل التغلب عليها، والآن بعد حين يجد المنبر الذي يناضل من فوقه شفاء لما يغلي في صدره من حقد على الرجال وزمر الرجال، ورغبة في قهرهم، لا انتصارا لمبادئ وأفكار، ولا تحقيقا لخطط تهدف إلى إصلاح اقتصادي أو سياسي، فتمثيل الأمة عنده يعني امتشاق
3
Bilinmeyen sayfa