وأنبأ بسمارك في الوقت نفسه أن روسية أكثر جذرية
4
بمراحل مما يرى الناس؛ «فالثورة والجمهورية أمران قد يلمان بروسية في أقرب وقت، وفي روسية أناس كثير يعلقون آمالهم على كارثة حربية تصاب بها تخلصا من النظام القيصري»، ويسطع معظم عنايته من خلال عبارة قصيرة كتبت على هامش تقرير، وهي: «لا معدل لنا عن إنكلترة إذا أردنا صون السلم مدة أخرى.»
وهكذا كان جو أوروبة مكفهرا حين موت فردريك، وكان هذا الإمبراطور شاعرا بذلك، وآية ذلك أنه استدعى بسمارك في اليوم الذي سبق وفاته، فمد إليه يديه مع اشتداد الحمى عليه، ثم تناول يد الإمبراطورة ووضعها في يد بسمارك اليمنى وضغطهما معا، ويصمت الإمبراطور صموتا مؤثرا، ولهما في صمته تحذير، فكأنه وهو يحتضر يبارك أعمال بسمارك التي ما انفك يناهضها في حياته.
وفي الغد يقضي فردريك نحبه، ويغدو ولهلم سيدا.
الفصل الثاني
«يا صاحب الجلالة! ما كان فردريك ليكون فردريك الأكبر - على الأرجح - لو كان يقوم بإدارة الأمور في بدء عهده رجل له ما لبسمارك من القوة والشأن، ولو كان قد أبقى مثل هذا الرجل في منصبه»، فهذه هي الكلمة التي نطق بها فالدرسي مؤثرا بها في فؤاد الإمبراطور، والإمبراطور كان في الثامنة والعشرين من سنيه، وكان منذ بدء عهده شديد الشوق إلى دعوته بولهلم الأكبر، وكان فالدرسي يطمع أن يكون مستشاره، بيد أن الإمبراطور كان يخشى العملاق في أول الأمر فيحفه بهالة من الإجلال، وكان هربرت بسمارك في الأربعين من عمره فيظهر أن من الممكن نصبه خلفا لأبيه.
وكان هربرت بسمارك عسير الأخلاق سيئ الطالع، ولم يقتصر أمر هربرت على أنه ابن لعبقري، بل كان أبوه يعرقل سيره بعزمه على جعله مستشارا خلفا له. ومن شأن رجل مثله يسير على خطا آبائه الأقوياء أن يدنو من العاهل الشاب فيجدد ما كان بين أبيه وبين جد ولهلم من عهد ولاء وثقة، ولكن بينما كان يسهل على كل من ولهلم الأول وبسمارك الأول أن يتصل بالآخر اتصال المخدوم بخادمه لزيادة عمر المخدوم على عمر الخادم عشرين سنة تقريبا؛ كانت صلة السن بين ولهلم الثاني وبسمارك الثاني معكوسة؛ فالخادم هنا أسن من المخدوم بسنوات كثيرة، ويتعذر عليه أن يكون تجاه المخدوم كالابن الذي لا يحقد على والده زمنا طويلا عند غضب هذا الوالد، على حسب تعبير بسمارك.
والمواهب والعيوب أسوأ توزيعا بين الزوجين الجديدين مما بين الزوجين القديمين، وعلى ما لم يتصف به ولهلم الأول من ألمعية وذكاء كولهلم الثاني كان أكثر من هذا لباقة وأحسن أوضاعا وأعظم تحفظا، فغدا بالتدريج راغبا رغبة كافية في الاقتداء بوزيره الذي كان رجلا عبقريا، ويحفز ولهلم الثاني مزاجه العصبي إلى أعمال تفوق مقدرته فيواجه ببسمارك الثاني الذي يدفعه إعجابه بأبيه وتربيته وشعوره الخفي بعجزه عن الإبداع إلى خدمة والده أكثر مما إلى خدمة وطنه، وفيما كنت ترى ولهلم الثاني كثير الاعتداد قليل التبجيل لآبائه ترى هربرت عاطلا من الاعتماد على النفس مثقلا بتعظيم عظيم لأبيه، فصار يتعذر عليه عند الاقتضاء أن يكون لنفسه آراء خاصة ويعمل بها، وأضف إلى ذلك كون ولهلم الثاني لم يجد عطفا مع أن هربرت كان مغمورا بضروب الحب، أجل قدم هربرت تضحية كبيرة بهواه وبشرفه تقريبا، ولكن أباه ما فتئ يريه أكبر حنو وأقوى كلف، وما انفك شعور بسمارك الشيخ الأسري يحثه مع السنين على العمل في سبيل ابنه ليكون خلفا له في منصبه.
وصار هربرت نجي أبيه الوحيد، وتخرج في السياسة على والده الذي هو أعظم سياسيي العصر، وكان عليه ألا يقل ثورة عن أبيه؛ ليستطيع نقد أبيه هذا، وورث عن أبيه كراهية الناس فضلا عن مبادئه وحيله التي تصدر عنها، ويشتد بغض هربرت للناس إلى درجة الإمحال، قال أبوه: «إنه يكره ما أزدريه، وهذا شعور حسن، غير أنه لا يحفظ أواره
Bilinmeyen sayfa