ويمضي على ذلك أربعة أيام، فلم يشف من ألمه بسبب موت كلبه، ما ظل معذب الضمير نتيجة لضربه إياه قبل زمن قصير، وهو لم ينقطع من التألم مفكرا في أنه عجل حدوث المأساة، ويتهم نفسه بسرعة الغضب وبالقسوة، وبأنه يؤذي كل من يدنو منه، ثم يلوم نفسه على شدة اكتئابه من موت حيوان له.
ولا تجد حادثا مماثلا لذلك في حياة بسمارك، وذلك الحادث هو من طراز الأقاصيص، ويطابق ذلك الحادث مع ذلك خلق بسمارك اللغزي.
ويلوح أن ذلك الكلب الذي أرسله أمير شرقي إلى بسمارك قاصدا التزلف إلى مستشار الإمبراطورية الألمانية هذا هو أمير مسخ درواسا، وما كان ذلك الكلب في صباه ليصبر على القيود فحرر نفسه بقضم الخشب الذي ربط به وعاش طليقا في الغاب متغذيا بالصيد، ومن الحق أن يقال إنه حفيد سيده متصفا بحماقات هذا السيد أمام فتائه باديا موضعا لإعجابه، وما بين الكلب وسيده من رابطة فيشابه ما بين الحفيد الجموح والجد الشديد، ولا تزول هذه الرابطة إلى أن يهلك ذلك الحفيد في مغامرة.
ويبقى السيد وحيدا، ويبقى السيد نادما على إساءته معاملة ذلك الحيوان الذي كان يحبه كثيرا، ومن المحتمل أن كان مسئولا عن موته، ومن المحتمل أن كان من الإثم ذلك الحب الجم لحيوان أبكم، أو تبيح النصرانية التي يدين بها مثل ذلك؟ وهل كان قدماء الألمان خيرا من المعاصرين؟ أفلم يحدث بسمارك حين اهتدائه عن ذلك الأمير الوثني الذي أبى العماد مفضلا الانضمام إلى أجداده الكفرة؟ أفلم يكن هذا إنذارا من إله النصارى يطلعه به على ذنوبه الأخرى ويريه به غضباته وأثرته العميقة؟
وهو حين يفكر في أمر السنين الماضية وأمر الأمم الأخرى وأمر المعارك والتدابير والانتصارات والإخضاع لا يسعه في أيام الحزن هذه إلا أن ينعم النظر في أمر الرجال الذين أذلهم وآذاهم وقادهم إلى الموت كما صنع بهذا الكلب الذي قد لا ينسى ما أنزله عليه من الضربات، والآن تمر أمام هذا القلب الكسير وجوه أعدائه الشاحبة ووجوه من قهرهم فتتوارى إدارته بغتة ويسأل في نفسه: لم كل هذا؟ ومتى زال عنه هذا الكابوس وعاد إلى أعماله وكفاحه لم يبق له من ذلك سوى حقيقة واحدة، وهي: أن كلبه الوفي دفن في الأكمة بجانب الكلاب الأخرى، فأصبح عدد هذه الكلاب الميتة تسعة.
الفصل الثاني عشر
«حقا إنني خيالي عاطفي بطبيعتي؛ فالذين يصفونني يقترفون خطأ بتصويري رجل عنف»، ولا ريب في أن بسمارك يصف وجها من طبيعته في هذه الكلمات، ومن عادة بسمارك في شبابه أن كان يبدي - في الحين بعد الحين - شعور النافر من الحياة على طراز بايرون، وبسمارك وإن ملئ بحب الكفاح في كهولته، كان أميل إلى السوداء في شيبته، وما أبصره بسمارك في صباه فقد حقق بأكثر مما كان ينتظر، وما كان من دوام اضطراب فاوست واستمرار قحة ميفيستوفل فقد أثبت له بطل ما فعل، ولو حدث أن معلما غبيا أراد إقناع تلاميذه بأنه لا فائدة من كل جهد نفسيا ما وجد خيرا من بسمارك مثالا كلاسيا،
1
ولكنك لا تجد بين من هم حوله من يدرك هذه الأحوال النفسية فيرحب بها، وتقول حنة للوسيوس: «فقد أوتو صوابه عندما انتحر خادمه هنري بإطلاق النار على نفسه، فصار لا ينام وصار يقضي جميع وقته في التفكير في المآسي، وفي مثل هذه الأحوال نبدي ضروب الغباوة مع الكلاب وغير الكلاب ترويحا له.» وهكذا لا يدرك أمر بسمارك فلا يسار معه كما يجب، وعلى ذلك الوجه يعيش بسمارك بين من يحبونه، غير أن تلك الأفكار القاتمة تأتي في الوقت المناسب، ومن ذلك أنه لما بلغ الثانية والستين من سنيه وفي أحد الأيام وحينما كان في أوج سلطانه وبعد أن التزم جانب الصمت حينا من الزمن مفكرا متأملا نطق بالكلمات المؤثرة الآتية: «ما أقل ما اتفق لي من فرح وارتياح بفعل ما قمت به من عمل! فلم يحبني أحد من أجل ذلك ولم أجعل أحدا سعيدا بذلك، ولا أستثني من ذلك نفسي ولا من هم أعزاء علي.»
ويحتج عليه، ويقول مستمرا غير ملتفت: «أجل، إنني جعلت من البائسين أناسا كثيرين، ولو لم أك هناك ما اشتعلت الحروب الثلاث، وما قتل ثمانون ألف جندي، وما لبس آباء ولا أقرباء ثياب الحداد، وإلى الله قدمت حسابي عن ذلك، ولم أجد من جميع ذلك غير سرور قليل، أو إنني لم أجد مما صنعت سرورا قليلا ولا كثيرا، بل وجدت بدلا من ذلك كدرا وهما ونصبا.» وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يتكلم فيها على ذلك الوجه، فقد روى هولشتاين وبوشر عنه أمورا مثل تلك كثيرة، وهنا نبصر مرة أخرى مظاهر للروح اللوثرية التي تنشد المسئولية، لا الهرب منها، وهنا نبصر أيضا ادعاء الوصولي الذي لا يدرك البروسيون الخلص أمره كالملك أو رون.
Bilinmeyen sayfa