ومد يده إلى جيبه فأخرج جوهرة وقلادة فتملاهما طويلا، ثم بكى ... أتدفع هذه التميمة عنه شرا؟ يا لهؤلاء الأمهات! ما أضعفهن قلوبا وعقولا!
ومثل بباب الخيمة حرسي يدعوه إلى لقاء الأمير، كشأنه ذات يوم منذ عام وبعض عام، وكانت الجوهرة والقلادة في مثل مكانهما الآن من يده، ولكنه اليوم غير غافل عنهما ... - لأي أمر يدعوني الأمير يا حرسي؟ - لا علم لي! - أفي خيمته هو أم في الميدان؟ - في خيمته. - وفي خلوة هو أم معه أحد؟ - لا علم لي. - تخادعني عن نفسي يا حرسي! - ليس لي مأرب. - فحدثني إذن بما تعرف ... - لست أعرف شيئا. - إذن فهو الموت؟ - لا علم لي. - وبسيفك أو بسيف غيرك؟ - لا سيف لي. - تبا لك. - غفر الله لك.
وجالت الدموع في عيني عتيبة تأثرا ورقة، فقال وأنفاسه تختلج: سامحني فيما اعتديت يا صاحبي.
ثم صحبه مستسلما، وقد ازدحمت في رأسه صور الماضي القريب والبعيد ...
وكان الشيخ الرومي في خيمة الأمير، وقد وقف إلى جانبه عربيان كهلان في زي منكر ...
وثابت نفس عتيبة حين رأى غريمه؛ رومي وفى بذمته! قد أفلت رأس عتيبة إذن من سيف الجلاد، وأفلت رأس الرومي الشيخ، هذان العربيان قد وهبا له الحياة، ولعله كان يسومهما الخسف في أسره، ولكنهما الآن بحيث لا يملكان إلا أن يفتدياه من الموت، رضيا أو كرها ...
وأقبل الرومي الشيخ على عتيبة يشكر له منته، فخجل الفتى؛ علام يشكره؟ لقد كفله مكرها ثم لم يسلم بعد من الندم على ما فعل ...
وكان الشيخ يلحظه بعينين فيهما إشفاق وحب ورحمة، وقد وقف الأسيران العربيان بينهما يشهدان ويسمعان صامتين، وكان مسلمة عبد الملك في مجلسه القريب منهم يرى ويسمع صامتا كذلك، ثم نطق: أيها الشيخ، قد علمنا ما حمل هذا الفتى العربي على كفالتك؛ فإن العرب - ما علمت - أهل مروءة ونجدة، فما حملك أنت على الركون إليه دون من حوله من الجند؟ - رأيت في وجهه مخايل نبل. - ولم تر هذه المخايل في غيره من العرب؟ - ورأيت عاطفة تدفعني إليه، فكأنما سمعت صوتا يناديني إليه. - لأمر ما ... - لأن فيه ملامح من وجه ما زلت ألتمس مثله في الناس فلا أرى! - وجه عربي؟ - وجه فتاة رومية. - فتاة ! - ابنتي ... - ما لنا ولابنتك يا شيخ؟ - استباها عربي في أبيدوس منذ بضع وعشرين سنة، ومضى بها ... - من أبيدوس أنت يا شيخ؟ - بطريق أبيدوس ... البطريق قسطنطين. - قسطنطين ...
واعتدل الأمير في مجلسه وشحب وجهه، ونالت صوته حبسة فلم ينطق ...
وذهل الفتى ودار رأسه ... بعض هذا الذي يسمع قد سبق إلى وهمه منذ لحظات، أتكون أمه بنت هذا البطريق؟ ولكنها لم تعترف بأنها رومية، ولم تنكر أيضا ... يا للمفاجأة العجيبة! لقد وعد نوار أن يمهرها تاج بطريق رومي، وأن يخدمها ابنته ... أكان يعني أن يجعل رأس جده مهر عروس؟ وأن يجعل في خدمتها أمه أو خالته؟ ...
Bilinmeyen sayfa