هنا أيضا ينبغي أن نعلم أن الظروف المؤاتية تصادف الساسة في كثير من المهام الكبرى والصغرى ولا يحسنون الاستفادة منها، بل لعلهم يعكسونها ويضيعون فرصتها بالغلطات التي يستغلها الخصوم ويحسبونها في جانبهم من الظروف المؤاتية!
وقد كان خليفة فرنكلين في تمثيل بلاده عند الدولة الفرنسية رجلا من مشاهير الأمريكيين، بلغ إلى رياسة الجمهورية وعده المؤرخون الأمريكيون والأوروبيون من آحاد الرؤساء النابهين، وكانت له فلسفة سياسية ومبادئ ديمقراطية تدرس الآن بين أصول الحكم الدستوري والحرية الفكرية، وحل هذا الخلف العظيم محل سلفه العظيم فأحس بالعبء الفادح من اللحظة الأولى، وكتب إلى قومه يقول: إنه يحل محله ولكنه لا يغني غناءه، ولم يكن جفرسون ممن يتلطفون أو يمدحون على حساب الحقيقة والعدل باسم التواضع المكذوب.
والظروف المعاونة في استنباط قواعد الفلسفة السياسية تشبه هذه الظروف وأمثالها في مسائل المفاوضة الدبلوماسية. فقد كان أذكياء العصر يرقبون هذه الفلسفة وهي تولد وتترعرع وتنمو مع الحوادث والمطالب الشعبية من جانب الطلاب وجانب المعارضين والمنكرين، وكان له رأي عن التمثيل النيابي وحقوق الدولة في تحصيل الضريبة، وحقوق المحكومين في المحاسبة عليها، وحقوق الطبقات في المساواة أو الامتيازات الموروثة - قضية قائمة مسموعة الحجج من طرفيها منجمة على حسب الحوادث، بل على حسب الأفراد والأقاليم في كثير من الأحوال، وكان صاحب الرأي الفلسفي يعمل «فلسفته» عملا وينفذها تنفيذا ولم يكن قصاراه منها أن يقرأها على الصفحات ويناقشها بالبراهين، وكان جو الدولة البريطانية من أقصاها إلى أقصاها يتماوج ببقايا الثورة الدستورية، ويردد الأصداء القريبة التي يسمعها الحاكمون كما يسمعها المحكومون، وكانت فرنسا تتنسم الأنفاس من هذا الجو وتنفثها في صرخات فولتير وزملائه المتمردين المتحفزين، ولم تسمع نظرية واحدة من نظريات الفلسفة السياسية التي شاعت في ذلك العصر، إلا وهي لاحقة بحادثة تؤيدها، أو سابقة لحادثة يوشك أن تتجسم للحس والعيان، وهذه هي النظريات التي تستجيب لها طبيعة فرنكلين ويتقبلها ذهنه ويقيم عليها أفكاره وأعماله في وقت واحد، فليست الأفكار فيها إلا أعمالا مفسرة، وليست الأعمال فيها إلا أفكارا مطبقة، أو في انتظار التطبيق.
ويوضع كل هذا في كفتي الميزان حيثما وزنت قدرة فرنكلين ومعونة الظروف في مساعيه السياسية وفي قيادة الرأي العام إلى الفلسفة الاجتماعية، ويوضع في الميزان قبلها وبعدها تقدير واحد ينبغي ألا ينساه من يزن عملا من الأعمال أو سيرة من السير، وربما كان هذا التقدير سؤالا يلقيه المؤرخ على نفسه ويجيبه ثم يفترض جوابه المعقول في حساب المسئولين الآخرين: فإذا كان صاحب السيرة لم يعمل عمله بفضل قدرته وحدها دون غيرها، فهل عملته الظروف وحدها بفضل قدرتها دون غيرها؟ وهل كل عامل ينجح مثل هذا النجاح إذا وجد في هذه الظروف؟
إن كانت الظروف لا تغني عن العامل، فذلك هو الفضل الذي يوضع له في ميزانه، وإذا كانت الظروف المؤاتية لا تنقطع عن الدنيا ولا تتجرد منها حادثة من الحوادث العظمى، فهي لا تعلو ولا تهبط بكفة ميزان.
كانت قيادة الرأي العام من «وظائف» السياسة العامة التي نهض بها فرنكلين أو أنهض لها - على الأصح - لأنه لم يطلبها بأدواتها ولم تكن لديه أدواتها في البلاد التي تنال فيها قيادة الشعب بالتأثير في الجماهير. فلم يكن خطيبا يملك عواطف السامعين ويثيرها ويلعب بها على هواه، ولم يكن من عاداته أن يسرف في الوعود، وأن يقول ما لا يعمل ولا ينوي أن يعمله ساعة الوعد به في ساعة من ساعات الحماسة وهياج الخواطر والأفكار، ولم تكن الحماسة من طباعه في علاقة من علاقاته بالناس خاصة أو عامة ومهتاجين أو هادئين، وكان فصيحا مبينا في الإعراب عن رأيه والإقناع بحجته وشرح أفكاره التي استقر عليها والتي لا تزال بين التردد والاستقرار، ولكن هذه الفصاحة المبينة ليست بالعدة الماضية في قيادة الجماهير من منصة الخطابة ، وليست على الأخص بالعدة الماضية في عصر النزاع واضطراب الأهواء وجماح المطالب إلى غير وجهة ثابتة يتفاهم عليها القادة والمفكرون فضلا عن الأتباع المنقادين بغير تفكير.
فلما نهض فرنكلين بقيادة الرأي العام أنهض لها على الأصح من غير سعي لها وغير تدبير مقصود للوصول إليها، اللهم إلا أن نحسب نتيجة عمله غاية مقصودة يناط بها التدبير.
فقد كانت ثقة الناس به من نتائج شهرته بالتقويم السنوي الذي سماه تقويم ريتشارد المسكين وكاد يحمل اسمه والإعجاب به إلى كل بيت في الولايات، وكانت هذه الثقة في موطنه وبين عارفيه من نتائج الاطمئنان إلى حسن إدارته وأمانة يده وضميره، ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الشدائد والأزمات بما يلائمها من الرأي الحاضر والفكر الهادئ والتصرف المريح الذي يرتضيه أطراف الخصومة بعد سكون الزوبعة وانقضاء النزاع والخلاف.
ولم يحاول قط، ولا كان في قدرته، أن يثير الجماهير بفصاحة الشارع وارتجال الدعوى الكاذبة التي لا تسأل عما تقول ولا يذكرها أحد بما قالت ولا يذكر أحد ما سمع منها بعد حينه، ولكنه كان يقدر على ما هو أصعب وأخطر في مخاطبة الجماهير: كان يقدر على تهدئة الجماهير الثائرة، وهي قدرة لا طاقة بها لأقدر الخطباء على إثارة الجماهير الهادئة، وكانت عدته النافعة في هذه المواقف رباطة جأشه وطيبته المرتسمة على سيماه ونظرته الأبوية التي تعدي الناظرين بما يقابلها، فلا يملكون إلا أن ينقادوا له طائعين، كما ينقاد الأبناء للآباء.
ومن هذه المواقف الثائرة أن بعض الأغرار على الحدود سمعوا بمعركة بين السكان البيض، والهنود الحمر فهجموا على قبيلة من القبائل الهندية للاقتصاص منها، وفر أبناء هذه القبيلة وبناتها إلى فلادلفيا يحتمون بها من مطاردة الناقمين المتعطشين إلى الثأر والانتقام، فثار بهم غوغاء فلادلفيا وتعقبوهم في الطرقات ليفتكوا بهم وينتقموا منهم على السماع بغير تمييز بين المعتدين والمسالمين، وطلب الحاكم من فرنكلين أن يقمع الفتنة بفرقة من الجند الرديف، فلم يعمل فرنكلين بالأمر وآثر التجربة بالحسنى قبل الوثوب إلى السلاح، وذهب إلى الثائرين منفردا أعزل لا يحمل في يده شيئا حتى عصاه، وكانت رؤيته كافية لتوقف الجمهور الهائج في ثورة غضبه للإصغاء إلى الأب فرنكلين، وكتب هو عن هذا الحادث إلى صديق له في لندن يقول: «في خلال أربع وعشرين ساعة كان صديقك القديم جنديا ومستشارا ودكتاتورا على نوع ما وسفيرا إلى الغوغاء. ثم عاد إلى منزله نكرة كما كان.»
Bilinmeyen sayfa