Bina Umma Carabiyya
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Türler
والإمبراطورية النمسوية نجحت في طرد العثمانيين من بلاد المجر ، وهي أيضا يرضيها اقتصاديا وسياسيا أن يسود نفوذها في البلقان ؛ اقتصاديا لأن الطونة يخرج من المجر للبلقان ليصب في البحر الأسود فهو منفذ من منافذ الإمبراطورية، واقتصاديا أيضا لأن الفاردار يلتقي به وينتهي في بحر الأرخبيل وهذا مخرج آخر للإمبراطورية، وسياسيا لأن الإمبراطورية تضم سلالات صقلبية - الكروات مثلا - ويهمها أن يسود نفوذها إخوانهم الصقالبة البلقانيين (الصرب وأهل الجبل الأسود)؛ فهي تعمل على إبعاد الروسيا عن البلقان ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وينبغي ألا ننسى أبدا أن التنافس بين النمسا والروسيا في البلقان - وعلى صربيا بالذات - كان العامل المباشر على اشتعال الحرب العالمية الأولى. وقد دخل ذلك التنافس في طوره الأخير لما احتلت النمسا عسكريا المقاطعتين الصربيتين جنسا - وبهما طائفة مسلمة - البوسنة والهرسك في 1878، وزاد الأمر توترا وحدة ضمها لهما نهائيا في سنة الدستور العثماني 1908. على أن النمسا بالإضافة إلى هذا عملت بصفتها دولة كاثوليكية على أن تحصل لها نصيبا من رعاية رعايا السلطان الكاثوليك.
وبالإضافة إلى هذا أخيرا كانت النمسا أميل عموما لتأييد الدولة العثمانية في الأزمات الأوروبية العامة، وذلك على اعتبار أن أساس الدولتين (العثمانية والنمسوية) كان لاقوميا، والدولتان لا تحبان تشجيع العصبية القومية، فواضح أن انتصارها معناه تفكك الإمبراطوريات من نوع النمسوية والعثمانية. هذا والسياسة النمسوية سياسة محافظة؛ ولذا فهي أميل لتأييد الدولة العثمانية. ومن الطريف أن تقرأ أن مترنيخ الوزير النمسوي المشهور لاحظ للساسة العثمانيين أن سياسة التنظيمات (أو التجديد) لاتجاري منطق النظام العثماني.
تكلمنا عن خطط دولتين أوروبيتين مجاورتين للدولة العثمانية، والآن نتكلم عن خطط دولتين أخريين هما فرنسا وبريطانيا، ولنترك دول أوروبا الأخرى فليس لها تأثير قوي في تشكيل الموقف الأوروبي في الحقبة التي نتحدث عنها. لفرنسا مصالح في الدولة العثمانية: فهي الدولة الكبرى في البحر المتوسط، وفرنسا كانت أول دولة كبيرة حالفت الدولة العثمانية، وفرنسا كانت أول دولة أوروبية كبيرة نالت لرعاياها «امتيازات» في الأراضي العثمانية، ولفرنسا مصالح تجارية كبيرة؛ فهي تريد أن تستأثر بتجارة الدولة الخارجية استيرادا وتصديرا، وفرنسا تزعم لنفسها حق رعاية رعايا السلطان المسيحيين على اختلاف مللهم ونحلهم.
ولفرنسا مصالح فيما وراء الدولة العثمانية؛ في فارس وفي الهند وفي البحار العربية الهندية. فالولايات العثمانية في الساحل المغربي، وفي مصر، وفي الساحل السوري، وفيما وراءه وفي الأناضول، وفي جزيرة كريد، وفي اليونان إذن ميادين نشاط فرنسي اقتصادي ثقافي وديني، وأنشأت فرنسا صلات وثيقة بشعوبه. وبريطانيا خلال القرنين في موقف يشبه الموقف الفرنسي ويختلف عنه: يشبهه في العمل البريطاني على الاستئثار بالتجارة الخارجية للدولة استيرادا وتصديرا، ويشبهه في أن طرقا برية بحرية تخترق الأراضي العثمانية لمناطق في فارس وفي الهند وفي البحار العربية والهندية تهم بريطانيا جدا، ويختلف عنه في انعدام الجانب الديني الثقافي من العمل البريطاني حتى أواخر القرن الثامن عشر، فبريطانيا كانت بروتستنتية وحتى القرن التاسع عشر لم يكن قد بدأ البروتستنت نشاطهم بين رعايا السلطان.
ويهم فرنسا وبريطانيا بالذات أن تمنعا حصول عملية كبيرة من نوع تقسيم الدولة العثمانية؛ لاعتقادهما أن شيئا من هذا لا يمكن أن يتم دون حرب عامة، قلت عملية كبيرة، وألفت النظر للوصف «كبيرة»؛ فهي مقصودة، وبيان ذلك أن الدولتين تعلمان أن حدوث العمليات الصغرى أو العمليات المتفرقة أمر مستحب بل هو أمر لا بد منه، فالدولة مريضة فلتمت شيئا فشيئا دون أن يصحب ذلك إضرار بالمنتفعين. قلت: إن العمليات الصغرى أو المتفرقة شيء مستحب أو ضروري، من أمثلته اكتساب حقوق السيادة في منطقة من المناطق، إنشاء منشآت من شتى الأنواع، استلحاق أفراد بالتبعية البريطانية أو الفرنسية، اكتساب أسرات وعشائر وطوائف ... إلخ.
وسنرى في القرن التاسع عشر عمليات كبرى يحاول الفرنسيون والبريطانيون إظهارها بمظهر العمل الصغير الذي لا يمس جوهر السيادة العثمانية. في 1798 حاولت فرنسا أن تمتلك مصر، وكانت مستعدة لأن تقبل سيادة السلطان وأن تؤدي له مالا، ورفض السلطان أن يقبل ذلك، وفي 1882 احتلت بريطانيا مصر واحتفظت بسيادة السلطان ولم يعلن السلطان الحرب في 1882 كما أعلنها في 1798؛ لأنه لم يجد من يحالفه كما وجد في 1798، ولأن أوروبا في 1882 كانت في ذروة القوة.
ونختم هذا الجزء من القسم بهذا الملخص: إن الدولة العثمانية أصبحت عند آخر القرن الثامن عشر في موقف يستدعي نظرا شاملا في شئونها. إن الدولة العثمانية قد أفلت من يدها زمام حياتها الاقتصادية. إن الدول الأجنبية قد أنشأت علاقات مباشرة من جميع الأنواع بشعوبها وطوائفها غير الإسلامية. (4) القرن التاسع عشر والقرن العشرون: انحلال الدولة العثمانية وانتشار فكرة التنظيم السياسي على أساس قومي
شهد المجتمع العثماني منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر جهودا متتابعة لتجديد شئون هذا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكانت الجهود التي بذلتها حكومة السلطنة؛ أي الحكومة المركزية للدولة، أو تلك التي بذلها بعض ولاة الولايات الممتازة (أي الولايات المتمتعة بقسط من الاستقلال الواقعي) كمحمد علي وخلفائه في مصر، أو بايات البيت الحسيني في تونس مما لفت نظر المؤرخين، إلا أنه مما فاتهم (بصفة عامة) دراسة ما بذلته شعوب الدولة لرفع مستواها عموما وفي ناحيته الاقتصادية والثقافية خصوصا. وقد بذلت الشعوب هذه الجهود إما لأداء ما عجزت الحكومة عن أدائه أو للقيام بما رفضت الحكومة أن تقوم به أو لتكملة جهودها.
وهذه الجهود من جانب الشعوب أو الطوائف مبعثها ما انتشر من تذمر بسبب سوء أحوالها، ومن غضب لما كانت عليه من مهانة إذا ما قاست نفسها بحكامها الأتراك أو بذوي الامتيازات الغرباء، ومن رجاء في تحقيق حياة أكرم؛ أي إن الرغبة الملحة في إزالة المفاسد وتقويم المعوج ملكت على الناس في كل مكان أمرهم.
Bilinmeyen sayfa