هؤلاء العائليون لا يزال يحفل بهم مجتمعنا ولم ينقرضوا بعد، ولا تزال علاقتهم بنا كشعب علاقة خوف فقط، وربما لهذا السبب أوصى الموظف ابن صديقه أن يتكتم الأمر حتى لا يفتضح أمره؛ أي تصل أخبار فعلته «الشهمة» إلى أسماع المجتمع الكبير ويعاقبه عليها.
إن الحكم الذي صدر على الجناة في هذه القضية درس من الواجب أن يتدبره كثيرا أولئك العائليون الذين من الممكن أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم ضد مجتمعهم الكبير من أجل مجتمعاتهم الصغيرة الضيقة، أو الذين لا يزالون يرتكبون جرائم كتلك، أو ليس لديهم مانع من ارتكابها على الأقل، إنه درس لمن يضع نفسه قبل عائلته، ومعارفه قبل مدينته أو قريته، وبلدته الصغيرة قبل بلاده الكبيرة، آن الأوان لكي يدرك هؤلاء أننا نحيا في وطن قد تحرر وأصبح كله لنا، ولا بد أن يضع كل منا وطنه هذا قبل بلدته، وبلدته قبل عائلته، وعائلته قبل نفسه. وهذا هو الفارق الأساسي بين ولائنا بالأمس وولائنا اليوم، بيننا كعبيد مستعمرين في الماضي، وأحرار مستقلين في الحاضر، فارق يجب أن يفكر كل منا فيه ويتأمله ويغير مثله في الحياة وفلسفته وأهدافه على هداه، وإلا استيقظ يوما ليجد نفسه مقبوضا عليه بتهمة الخيانة لشعبه ومجتمعه جزاء عمل بطولي قام به نحو أسرته أو نفسه أو الدائرة الضيقة التي يعيش فيها.
وشيء آخر ...
درس ثان خرجت به من قراءتي للقضية، الدرس أن ما يحدث خلف الناس لا بد أن يظهر يوما أمامهم، إن كثيرين منا يقدمون في أحيان على أعمال مخجلة لعل ما يدفعهم أساسا لارتكابها أنهم يعتقدون أن أحدا لن يعرفها وأن أمرها سيبقى سرا لا يصل إليه كائن من كان، ألا يعرف هؤلاء أن العمل الخبيث تفوح رائحته مهما تكتم صاحبه الأمر؟ وأنه إذا كان للإنسان أنف واحد أو عينان فالناس لهم ملايين الأنوف والآذان والعيون مصوبة في كل اتجاه ولا يمكن أن يستغفلهم أو يضحك عليهم أحد؟ هم الذين يضحكون دائما آخر الأمر، ويضحكون كثيرا، يضحكون على الجبناء الذين يطلون وجوههم بأقنعة العفة والطهر بينما هم في الداخل أشد بشاعة من القتلة والمجرمين، لقد أقدم الموظف المحترم على فعلته مثلا وهو ضامن أن الأمر لن يتعدى حدود صديقه وابنه، ولم يكن ليعتقد أبدا أو يحلم أو يتصور أن الأمر سيشيع إلى تلك الدرجة، سذاجة لا شك، ودفن للرءوس في رمال الخفاء التي لا تخفي شيئا، فما يحدث من وراء الظهور لا بد أن يظهر يوما، قد يظل خافيا لفترة، ولكنه لن يظل خافيا إلى الأبد، ولا بد لكل خاف أن يعرف، وقد يعرف ببشاعة أو بطريقة لم تخطر على البال، أو دائما هناك طرق لا تخطر على بال أولئك الذين يتسترون بظهور الناس لارتكاب جرائمهم، أو دائما يفاجئون بالأضواء تنصب عليهم ذات يوم من كل ناحية وهم واقفون، خجلون، محاصرون في ركن، لماذا لا نفكر في طريقة أشرف وأنظف للسلوك؟ لماذا لا يضع كل منا في اعتباره أن يتحمل مسئولية ما يفعله من وراء الناس؟ إنها ليست شجاعة، ولكنها «ألف باء» تصرف أي كائن يريد أن يكون له شرف أن يسمى بإنسان، تحمل المسئولية، وأولها مسئولية الخطأ. لماذا نظهر للناس محاسننا دائما ونخفي أخطاءنا بجبن؟ لماذا نصر على أن يرى الناس نصف وجهنا فقط ونكابر بسخف لكيلا يروا النصف الآخر؟ إنها ليست قيما جوفاء أطالب بها، ولكنها في الحقيقة مسألة عملية محضة، فالمسئولية - بما فيها مسئولية الخطأ - لا يستطيع أحد أبدا أن يهرب منها، إننا نتحملها سواء أردنا أم لم نرد. الفرق أننا حين نتحملها من تلقاء أنفسنا يصفح الناس عنا وينسون، أما حين نكابر ونوغل في الهرب منها فإنها لا تهرب منا، ودائما يأتي اليوم الذي نجبر فيه على حملها علانية وعلى رءوس الملأ والعار يجللنا. هو نفس الفرق لو كان الموظف الكبير قد تقدم من تلقاء نفسه واعترف للوزارة بخطئه وبما فعله، وطلب أن تتغير الامتحانات، وبينه اليوم ورأسه منكس وظهره إلى الحائط ونظرات الاشمئزاز تحيط به من كل جانب.
إني لأشفق على الكثيرين من نفس المصير. (37) أدب ثقيل الدم
لتوي انتهيت من الاطلاع على بضع مجلات شهرية بعضها من القاهرة والآخر من بيروت. وللمرة الألف أحس ذلك الإحساس الذي يراودني كلما طالعت كثيرا من المقالات التي تنشرها المجلات والجرائد، وسأكون صريحا وأنقل بالضبط ذلك الإحساس، ومهمتي سهلة، فإحساس واحد يشملني طيلة القراءة، إحساس - وليعذرني الزملاء والإخوان - بالتصنع، و... «التأدب»! من أول كلمة أحس وكأن الكاتب قد أدرك أنه بسبيله إلى القيام بعملية غير عادية، وأن عليه أن يسوك فمه مثلا بمسواك، ويتأنق ويجلس جلوس الكاهن الأعظم أمام آلاف المريدين والمتعبدين، محترما في جلسته، محترما في إشاراته وإيماءاته. كلماته لا بد أن يختارها من النوع الجاد الوقور، وأسلوبه لا بد أن يحوي كثيرا من أمثال هذه التعبيرات: وعقيدتي أن الوضع لا يتأتى، أو إذا نظرنا إلى المنهج من زاوية أخرى لألفيناه كذا وكيت.
وبحكم هذا الاحترام الزائد والطقوس، ليس من العجيب أن تجدهم قد أطلقوا اسما ثقيل الدم على ما يكتبون؛ إذ هم يسمونه «أدب المقال». ورغم احترامي للتسمية ولهذا النوع من «الأدب»، ولكل أنواع الأدب، ولكتاب أي نوع، إلا أني لا أزال إلى الآن لا أفهم ذلك المسمى بأدب المقال. فأنا أعرف مثلا أن الكاتب حين يريد كتابة قصة يصبح هدفه أن يكتب قصة، وحين يريد تأليف قصيدة يقول شعرا، أما المقال فهو لا يلجأ إليه إلا حين تتراكم لديه أفكار غير قصصية وغير شعرية وغير مسرحية، يعني عنده أخبار مثلا، أو معلومات أو وجهة نظر معينة أو حقيقة علمية يريد إيصالها للقارئ، هو حينئذ ينبذ كل الوسائل غير المباشرة ويلجأ إلى الوسيلة الوحيدة المباشرة ... المقال ... بمعنى أدق إذا كان أدب القصة تقاس جودته بما فيه من فن القص، والشعر بما فيه من تعبير شعري، فأدب المقال مقياس جودته ما له من قدرة على الإيصال المباشر والشفافية، والخلو من كل ما قد يعوق الأفكار عن القارئ؛ أي أدب أن تقول «ما يفهم»، وكلما قلته بأبسط وأسرع وأشف طريقة، اقتربت من روح أدب المقال. بعض إخواننا فهموا ولا يزالون يفهمون أدب المقال على أنه نوع «تنقل» فيه أفكارك إلى زملائك وقرائك، ولكنه النوع الذي تتخذ فيه من زملائك وقرائك موقف المعلم والمدرس وتصطنع فيه وقار الأستاذ، كارثة المقالات عندنا أنها دروس، وليتها من أساتذة كبار حقا، معظمها في الحقيقة من تلاميذ يحاولون أن يوهموا القارئ بأستاذيتهم، إيهاما متعجرفا محشوا حشوا بأسماء الكتاب الأوربيين والفلاسفة، مظهرا عضلات الثقافة في مراهقة صبيانية تحس أن الكاتب خلالها يتقيأ محصول قراءاته قبل أن يصل إلى بلعومه وقبل أن يهضمه ويصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه ونفسه، إنه محصول ضئيل يعمد إلى إظهاره وتضليل القارئ به، وكل همه أن يثبت أنه عالم ويثبت لقارئيه أنهم جهلة، حريصا في الوقت نفسه على طقوس الكتابة أكثر من حرصه على سبب الكتابة وموضوع الكتابة. والمهم في أسلوبه هو بلاغته وليس مهما أبدا طعمه، والهدف الوحيد أن يخرج القارئ من قراءته وهو يحمل للكاتب كل الاحترام والتقدير حتى لو خرج من المقال كما دخل.
ولعله لهذا السبب تتشابه كثير من المقالات التي نراها في الجرائد والمجلات تشابها غريبا وكأنما كتبها كاتب واحد، لا تجد فارقا بين مقال كتبه شيخ وآخر كتبته سيدة أو أنشأه شاب، الكلمات مرصوصة بنفس الطريقة، وإظهار الحجج يتم على نفس النسق، والخيط المستعمل واحد، يبدأ بالمقدمة يليها الدخول في الموضوع ثم قرب النهاية تجد الكاتب يلتقط أنفاسه، وجميعا يفعلون هذا بنفس الطريقة، ويقولون: وبعد ... أو أجل ... إلى آخره.
وعبثا تحاول أن تبحث عن ذاتية الكاتب فيما يعرضه من موضوعات. وبالذاتية لا أقصد أن يفرض الكاتب ذاته على الموضوع الذي يتناوله، ولكني أريد أن أحس أنه هو وليس أحد غيره ذلك الذي يعرض أفكاره، أريد أحيانا أن أراه وهو يفكر، وهو يحاول بطريقته الخاصة أن يصل إلى استنتاج، أريد أن أستمتع بالطريقة التي يرتب بها أفكاره وسرعة بديهته في إيجاد الحل. فإذا كانت ميزة الشاعر تتجلى في كونه يعالج الموضوعات ويعبر عنها بالشعر، ولكنه يفعل هذا بطريقته الخاصة، فكذلك كاتب المقال لا بد له هو الآخر أن يبحث عن طريقته الخاصة في تناول الحقائق، فكتابة المقال فن، وكل فن في حاجة إلى موهبة، أو بالميت في حاجة لدراسة، وقد كنت أعجب وأنا طالب حين أقرأ قائمة الشهادات المدونة تحت أسماء كبار الجراحين والعلماء الذين يؤلفون مراجع العلم والطب، وأجد أن كثيرين منهم قد حصلوا فوق شهاداتهم العلمية، وفقط من أجل أن يجيدوا كتابة المرجع.
وفي هذا المجال أيضا لا أزال أيضا أذكر كيف أننا كنا نحضر محاضرات يلقيها المعيدون والمدرسون والأساتذة، وكنا نلاحظ أن أسهلها في الفهم جميعا هي محاضرات الأستاذ، فقد كان يبدو وكأنه طالب أو رجل شارع متحدث عن أعقد المسائل بأبسط أسلوب، وكان أعقدها وأعسرها على الفهم محاضرات بعض المعيدين حين كانوا يحاولون أن يظهروا في ثوب الأساتذة المعلمين، تماما كبعض إخواننا من كتاب ذلك النوع الذي ثقلوا دمه، أدب المقال! (38) لمن تدق الأجراس؟
Bilinmeyen sayfa