الديمقراطية
وهو موضوع يقودنا في نفس الوقت لمناقشة كلمة كثر استعمالها في الآونة الأخيرة: الديمقراطية. وقف خالد محمد خالد يدافع عن ديمقراطية مثالية، ورد عليه الرئيس بمفهوم علمي للديمقراطية الاشتراكية. والديمقراطية على أي الحالات تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، جاءت الثورات الوطنية لتحقق هذا المبدأ، وحين قامت الثورات الاشتراكية وضعته نصب عينيها؛ اسما في حالات، وحقيقة محدودة في حالات أخرى، وكان لا بد لثورتنا هي الأخرى أن تأخذ موقفا ما من الديمقراطية باعتبار أنها الحرية الكاملة للشعب واللاحرية لأعداء الشعب، والوسائل والأشكال الديمقراطية كثيرة ومختلفة، ولكن هناك ركنا هاما من أركان الديمقراطية لا بد منه لأي حكم شعبي، سواء في ديمقراطية سليمة أو حتى في ظل أوضاع ديمقراطية فاسدة، هذا الركن هو مسئولية الحكومة أمام الشعب. فلنتبع في حكم أنفسنا أي طريق نشاء، ولكن لا بد أن يكون لنا في النهاية وسيلة نستطيع بها أن نحاسب الحكومة، لا بد لنا من جهاز من حقه أن يراقب ويناقش أعمالها ومشاريعها وسياستها وينقذها ويوجهها، لا لمجرد مبدأ المراقبة والمحاسبة والتوجيه، ولكن لكي تتم أساسا عملية الإيمان بكل ما تقوم به الحكومة من إجراءات. فالإيمان كما قلنا لا يتأتى إلا بمناقشة، وإلا بحق في المناقشة وحق في إبداء الرأي.
لقد كشفت مناقشات اللجنة التحضيرية أنه حتى مثقفينا الكبار - بعض أساتذة الجامعات ووكلاء الوزارات مثلا - متخلفون فكريا وثوريا عن قيادتنا ومفهومنا للحكم والثورة، وهو ليس عيبا فاضحا كما يبدو للبعض، إنه في رأيي ظاهرة طبيعية جدا سببها الأول الانفصال الفكري بين القيادة والقاعدة، وحتى إذا نحن ضيعنا وقتا كثيرا مع هؤلاء لنناقشهم ونفهمهم كي يصلوا إلى مستوى القيادة في الإيمان، فهو وقت غير ضائع أبدا، إنه وقت نكسبه ونوفر به أن نبني البناء على غير أساس من التفهم الكامل واليقين، إن الثورة لكي تستمر ماضية ناجحة مكتسحة لا بد أن تمضي بنا كلنا، بفهمنا الكامل لها، باقتناعنا وإيماننا وإرادتنا، فنحن الهدف من قيامها، ونحن أيضا الوسيلة لإقامتها.
فلتوسع القيادة صدرها
إن الخطوات التي حققتها ثورتنا تعثرت ثورات كثيرة وهي تحقق بعضها، ومهمة ثورتنا ليست مهمة تخص الشعب في مصر فقط. إن مصر سواء أرادت أم لم ترد هي حاملة لواء الثورة العربية كلها، وجمال عبد الناصر هو الزعيم الذي أجمعت الشعوب العربية رغم الحديد والنار على مبايعته، إنها تضع فيه كل آمالها، كل مطامحها وأيام مستقبلها، وهي حقيقة لا نقولها خطابة أو إنشاء، إنها واقع ملموس يكفي أن تطوف البلاد العربية لتراه وتحسه وتفخر به، ثورتنا غالية إذن لأنها ثورة العرب، على مصيرها يتوقف مصيرهم، وأعداؤنا يعلمون هذه الحقيقة تمام العلم، ويبنون كل خططهم في المنطقة على أساسها.
ثورتنا هي أعلى حقيقة نمتلكها إذن، وأمضى سلاح عثرنا عليه بعد طول عناء وطول فشل، وجربناه ونجح النجاح الأكيد، من واجبنا إذن أن ندافع عنها إلى آخر رمق ونحفظها، وأولا وقبل كل شيء نهيئ لها أسباب النجاح، من واجب كل منا أن يساهم بقلبه وعقله ولسانه ، أن يحياها ويربط مصيرها بمصيره، ويجب أن تتهيأ قيادة ثورتنا لهذه المشاركة الجماعية الكبرى، وأن توسع صدرها حتى لآراء كهذه يعرضها أصحابها بشكلها الخام الذي واتته به. يجب أن ندرك أننا ما لم نغير جذريا من الطريق الذي كنا سائرين فيه، فمعنى هذا أننا سنعود لارتكاب نفس الأخطاء، ومحال أن نظل نرتكب نفس الأخطاء، فقد ظل شعبنا، وظلت شعوبنا العربية كلها تنتظر يوم الخلاص على أيدي ثورة تنبثق منها وتندفع بها بقوة إلى الأمام، والثورة جاءتنا وعاشت بيننا زمنا، فأي موقف سلبي منها جريمة.
ليقل كل منا ما عنده، ولتسمع القيادة وتع وتنفذ، ولنكن صادقين مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، خاصة ونحن نتحدث عن قمة الصدق، ونحن نتحدث عن الثورة. (13) كلمة الثناء قد تقتل أحيانا
قابلت اليوم الرجل الذي كاد يقتلني مرة بسبب كلمة ثناء عابرة قلتها له، وكانت المقابلة مفاجأة لكلينا، فلم أكن أتوقع أن يعمل عم عفيفي سائق تاكسي بعد إحالته إلى المعاش، وهو لم يكن يتوقع أبدا أن يكون زبونه هذه المرة هو نفس الطبيب، رئيسه السابق في الصحة، ولكنها الصدفة المحضة آثرت أن تجمعنا، وهي التي أعادت إلى ذاكرتي أيام الصحة وأوبئتها ومشاويرها، والعربة الفورد المتهالكة التي كثيرا ما خرجت بها مع عم عفيفي في مأموريات رسمية، وكان للعربة أكثر من سائق، وكانوا يتمتعون جميعا بخاصية البطء الشديد والقلب الميت، ما عدا عم عفيفي المتحمس السريع الذي كان رغم هذا، أكبرهم سنا.
وحدث أن بلغ إعجابي به ذات يوم أن قلت له مادحا إنه أسرع سائق في القاهرة، والحقيقة كان قولا أغبر، فما من مرة ركبت فيها العربة معه بعد هذا إلا وأركبها وأركبني ألف عفريت، حتى لقد كنت أقطع الرحلة وأنا نصف واقف، أكاد لولا الحياء أن أقفز من النافذة أو أستغيث بالمارة، وطبعا كنت لا أسكت، طوال الطريق أستحلفه وأرجوه، وأحيانا أستعمل سلطتي وآمره وأنهره، وعبثا ما كنت أحاول، فقد كان يأخذ كلامي على محمل آخر، يعتقد أني أطلب منه أن يبطئ؛ لأني أشك في قدرته على القيادة السريعة، ولهذا يندفع بسرعة أكبر ليثبت لي أنه لا يزال هو الشخص الذي قلت عنه يوما إنه أحسن سائق بالقاهرة، والنتيجة أن حدث لي ما كان لا بد أن يحدث يوما، ووجدت نفسي ذات مشوار ملقى على الأرض أمام وابور زلط تحت رحمة عجلاته التي لا ترحم، فقد اصطدمت الفورد به صدمة بلغ من شدتها أن حطمت المقدمة - مقدمة عربتنا طبعا - وفتحت أبوابها قسرا، وألقتني أنا أمام الوابور، وجعلت عم عفيفي يغطس في الدواسة.
الدرس القاسي
Bilinmeyen sayfa