والمرحلة الأولى من هذه المراحل الأربع تتبع علم الطبيعة؛ لأنها تابعة لعلم الضوء، والمرحلتان الثانية والرابعة تتبعان علم وظائف الأعضاء، وأما المرحلة الثالثة فهي وإن تكن كذلك مما يجوز أن يبحثه علم وظائف الأعضاء، إلا أن علم النفس قد تناولها، وجعلها جزءا من ميدان بحثه، ولعله فعل ذلك حين قصر علم وظائف الأعضاء في مدى دقته العلمية بالنسبة إلى ما يجري في المخ من حادثات ... هذه المراحل الأربع في تلك الحادثة، وإن تكن شديدة التعقيد في تفصيلاتها، إلا أنها أبسط ما يمكن ضربه من أمثلة على عمليات المعرفة البشرية.
كان الرأي القديم أميل إلى قسمة تلك المراحل التي نجتازها في عملية المعرفة التي ندرك بها حوادث البيئة ونرد عليها، قسمين مختلفين؛ هما «الإدراك» من جهة، و «الإرادة» من جهة أخرى، فبالأول «نعرف» وبالثانية «نفعل»، على أن «الإدراك» و«الإرادة» كليهما عمليتان «عقليتان» لا تقتصران على أن تكونا مجرد سلسلة من حركات في موجات الضوء، أو في أعصاب الجسد، وكانت العلاقة التي تصل تلك العمليات «العقلية» بالجهاز العصبي لغزا يحير الفلاسفة، أما «رسل» فرأيه أن اللغز قد زال عنه السر،
52
وأن موضوع «المعرفة» هو في طريقه إلى الانتقال من مجال التخمين إلى مجال الدقة العلمية، و«الإدراك» و«الإرادة» مرحلتان من عملية واحدة، وما هذه العملية الواحدة سوى «فعل» وحركة في هذا الجزء أو ذاك، وليس الأمر أمر تأمل أو ضرب في غيب مجهول.
وقد أراد السلوكيون في علم النفس - وعلى رأسهم واتسن - أن يعللوا ضروب المعرفة كلها، عند الإنسان والحيوان على السواء، بمبدأ واحد، وهو مبدأ «الأفعال المنعكسة الشرطية»، أو «ردود الأفعال المكتسبة»، ونصه كما يلي: «إذا تعرض جسم حيوان أو جسم إنسان مدة كافية لمؤثرين، فإن أحدهما يصبح كافيا وحده لاستدعاء الرد الذي كان يستدعيه المؤثر الثاني.» وموقف رسل إزاء هذا المبدأ في تعليل «المعرفة» هو أنه لا يراه وحده كافيا لتعليل المعرفة بشتى ضروبها، لكنه يوافق على أنه مبدأ غاية في الأهمية؛ لأنه يفسر شرطا كبيرا جدا من عمليات التعلم، وهو ينظر إليه على أنه الصورة الحديثة لمبدأ قديم، هو مبدأ «ترابط المعاني» أو «تداعي الأفكار» الذي كانت له أهمية بالغة في الفلسفة، وفي الفلسفة الإنجليزية بنوع خاص، غير أن هذا المبدأ قد ظهر الآن على ضوء مبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية، فانطوى تحته باعتباره أحد نتائجه.
ذلك أن المبدأ الجديد - مبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية - يشمل ميدانا أوسع جدا من الميدان الذي يشمله مبدأ «تداعي الأفكار» القديم؛ فالذي «يتداعى» أو «يترابط» بعضه مع بعض ليس «أفكارا»، بل «حركات جسدية»، وأول ما يمتاز به هذا النظر الجديد هو أن الحيوان يدخل مع الإنسان في تفسير واحد إذا كان التعلم عند كليهما حركات جسدية تترابط؛ لأن «الأفكار» إن جازت بالنسبة للإنسان فافتراضها في الحيوان إمعان في التخمين ، هذا إلى أن الحركات الجسدية يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية، على حين أن «الأفكار» لا سبيل إلى ملاحظتها إلا من الداخل، بحيث يلاحظ الإنسان نفسه دون أن يتاح لغيره أن يشاركه في تلك الملاحظة.
وإذن فهو كسب علمي كبير أن نرد «المعرفة» الإنسانية إلى وحدات حركية تترابط، أي أن نردها إلى عادات جسدية، فنستغني بذلك عن «العقل» وما يحيط بافتراض وجوده من إلغاز وغموض لا تدعو إليهما ضرورة علمية، غير أن «رسل» لا يريد أن يندفع وراء السلوكيين إلى آخر المدى؛ إذ تراه يتحفظ فيقول: إن ردود الأفعال المكتسبة أحيانا لا تفسر بعض ظواهر السلوك، فمثلا رائحة الفلفل تسبب عطاسا، فإذا ما ربطنا بين الفلفل نفسه وبين كلمة «فلفل»، ثم غاب الفلفل وبقيت الكلمة وحدها، فإنها لا تسبب العطاس عند قارئها أو سامعها، مع أنها كان ينبغي أن تحدث هذا الأثر لو صدق قانون الأفعال المنعكسة الشرطية صدقا مطلقا. وكذلك هنالك من الأفعال - في رأي رسل - ما يأتي نتيجة للحدس (أو البصيرة)، ولا يكون فعلا منعكسا.
53
ومهما يكن من أمر الأفعال المنعكسة الشرطية من حيث كفايتها أو عدم كفايتها لتفسير السلوك بشتى ضروبه، فهي مميز واضح يميز الكائنات الحية من الأشياء الأخرى التي تشترك مع تلك الكائنات في القدرة على الإحساس بالبيئة المحيطة، فليست الكائنات الحية وحدها هي التي تستطيع أن تحس ما حولها وترد عليه ردودا مناسبة؛ فللآلات العلمية - مثلا - كمقاييس الضغط والحرارة، حساسية دقيقة؛ ذلك أننا نصف الشيء بالحساسية لمؤثر معين إذا كان سلوكه في حضور ذلك المؤثر يخالف سلوكه في غيابه، فلوحة آلة التصوير حساسة للضوء، والبارومتر حساس للضغط الجوي، والترمومتر حساس للحرارة وهكذا، حتى ليجوز لنا القول في هذه الحالات وأمثالها إن الآلة «تدرك» إدراكا حسيا ذلك المؤثر الذي أعدت الآلة لتكون حساسة له، غير أننا نقول ذلك على سبيل المجاز، ونشعر بأن الإدراك الحسي عند الكائن الحي يختلف عنه في الآلة العلمية، فأين يكون موضوع الاختلاف؟
الجواب التقليدي عن هذا السؤال هو أن الكائن الحي يختلف عن الآلة العلمية الحساسة لمؤثراتها بما لدى الكائن الحي من «شعور»، لكن هذا الجواب - سواء أخطأ أو أصاب - قائم على استدلال لا على ملاحظة موضوعية خارجية؛ لأنك لا ترى «شعورا» في الكائن الحي الذي يسلك سلوكا يرد به على بيئته نتيجة لما تلقاه من تلك البيئة من مؤثرات، أما الإجابة التي تعتمد على الملاحظة الموضوعية وحدها، فهي أن الكائن الحي يختلف في «إدراكه الحسي» عن الآلة العلمية بأنه حساس لمجموعة منوعة من المؤثرات، على حين أن الآلة العلمية يغلب أن تكون حساسة لمؤثر من نوع واحد، فعلى الرغم من أن الآلة العلمية قد تكون أشد حساسية من حاسة الإنسان المختصة بإدراك نفس الأثر الذي تحسه تلك الآلة العلمية، فلوحات آلات التصوير تلتقط من المرئيات البعيدة ما لا تستطيع التقاطه عين الإنسان، والترمومتر يسجل من الاختلافات في درجات الحرارة ما يعجز عن إدراكه الإنسان بحاسة لمسه، وهكذا. أقول إنه على الرغم من ذلك، فإنه ليس من سبيل إلى ربط الصلات بين آلة التصوير الميكروسكوبية والميكروفون والترمومتر إلخ، في كائن واحد يرد بطريقة مطردة على مجموعة المؤثرات المختلفة التي تتلقاها «حواسه»، مع أن للإنسان هذه القدرة على ربط الصورة المرئية بالصوت المسموع وبالإحساسات اللمسية.
Bilinmeyen sayfa