ولكنهم كانوا يرمقون الدكان والخراف والعجول، ويتساءلون: وهذه الأموال ما شأنها؟ أما عباس فلم يكترث لشيء وبدا كأنما يزداد سعادة وسيادة، وكان ينطلق في الليل كأنه وارث الملكوت. وقال الناس: إن أم عباس امرأة تعيسة الحظ، وإن قلبها الضعيف يدفعها دائما إلى المهالك. وبينما كانت تعيش بفضل إحسان أسرة فقيرة، كان عبده يتضخم ويشارك في كل نشاط مالي في الحي. وسعى بالصلح بينهما أناس طيبون حتى أعادوا المرأة إلى بيتها. ولكنها عادت منكسرة النفس لا أمل لها في حياة كريمة، ولم يسمح عبده بإعادة مصروف عباس إليه إلا بشرط أن يشاركه في دكانه أحد أقربائه هو ليصون المال ويدير العمل. وأحب عبده الحياة المريحة المترفة، فعقد اللاسة الشاهي الفاخرة فوق رأسه، وتلفح بالعباءة من وبر الجمل، ولبس المركوب الملون من خان الخليلي، وتحلى بالخواتم الذهبية، وسبقته رائحة المسك حيث ذهب فيقوم له الناس على الجانبين حتى يختفي عن الأعين، فيتهامسوا: الله يرحم أيام زمان!
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين وفتحت النوافذ، ثم هرع الجميع إلى القبو. رأوا بيومي اللبان وهو يرتجف، فنظروا إلى حيث يشير فرأوا المعلم عبده مكوما ورأسه غائص في بركة من الدم. وزلزل الحي زلزالا عنيفا. وأطبقت عليه الشرطة والنيابة والمخبرون. واستدعي إلى التحقيق عدد لا حصر له من أهل الحي ، ولكن لم يقع على أحدهم ظل شبهة من قريب أو بعيد، وقطعت الدلائل بأن جريمة عبده ستلحق بجريمة حسنين. وقال أناس وهم يضربون كفا بكف: ما أعجب هذا!
فقال آخرون: انتظروا حتى يظهر العريس الجديد.
ومضى عباس إلى دكان بيومي ليتناول عشاءه المعتاد قبل الانطلاق لجولته الليلية. وجعل بيومي يرمقه بغرابة وهو يأكل الزبادي بأناة وسعادة، وشاربه ولحيته يلتقيان حول فيه، ويبتعدان في حركات متتابعة. وتردد بيومي قليلا، ثم قال: عباس! أنت أعجب شيء في حارتنا.
فابتسم عباس إليه بمودة؛ إذ كان أحب الناس إلى قلبه، فقال الآخر فيما يشبه الهمس: كان عبده ما زال حيا عندما عثرت عليه في القبو.
فتحسس عباس شاربه عند امتداده فوق فيه ليتأكد من جفافه، فقال بيومي: وقد نطق باسم قاتله قبل أن تصعد روحه.
فملأ عباس الملعقة بالزبادي، ورفعها إلى فيه وهو يركز فيها عينيه، فقال بيومي: وهو بلا شك قاتل حسنين من قبل.
لاح في وجه عباس عناء من يستحضر خيالا لا يرام، فقال بيومي: وعند التحقيق نسيت كل شيء، وتلك إرادة الله.
أتى عباس على آخر ما في السلطانية، وتأهب لمغادرة الدكان، فتساءل بيومي: من أنت يا عباس؟ .. وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟
قوس قزح
Bilinmeyen sayfa