وعباس ابنها من الزوج الراحل، في العشرين من عمره، طيب القلب جدا، تلوح في عينيه الواسعتين نظرة صامتة، ولعلها ناطقة بلغة مجهولة، يبتسم كالأطفال، ويطلق شاربه ولحيته ويحبهما. وهو أمي لم يحصل في الكتاب حرفا؛ ولذلك فتح له أبوه دكانا من دكاكين العمارة لبيع الحلوى والفول السوداني واللب، فكان يغدق على الأطفال بغير حساب. ولما تزوجت أمه من حسنين غاب عن الحي أياما، ثم عاد وهو يقول لكل من يلقاه: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
ورفع رأسه نحو مسكن أمه وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وعندما ينقضي النهار يخلع جلبابه ويلبس بدلة زرقاء فاتحة اللون، فهو يحب الألوان الفاتحة، ويمشط بعناية شاربه ولحيته، ويغطي رأسه بطربوش متداعي الأركان، ويتناول عصاه الخيزران البرتقالية، ثم يغلق الدكان وينطلق في سبيل طويل، ملقيا بتحياته يمنة ويسرة، يلوك في فيه قطعة من السكر النبات، ويبتسم في سعادة رائعة، وأكثر الليل يرى هائما على وجهه. ومذ تزوجت أمه من حسنين اتخذ من دكانه مسكنا، فلم تعارضه أمه طويلا لعلمها بعناده، وكانت لا تخشى شيئا عليه وتقول: إن ملائكة الله تحرسه. وسعى حسنين يوما إليه متوددا، ولكنه صاح في وجهه: اذهب، أنا لا أعرفك.
فغضب الرجل قائلا: أنا عمك.
وحال أناس بينهما وهم يلاطفون الرجل، دفاعا عن الشاب المحبوب. وحزنت أم عباس حتى دمعت عيناها الجميلتان. كانت تحب عباس؛ لأنه وحيدها ولأن وجهه صورة من وجهها. أجل كان عباس جميلا، ولا يخفى جماله رغم اللحية والشارب والطربوش المتداعي الذي يغطي ثلث وجهه.
ومن عجب أن حسنين ازداد بعد نعمة الزواج من أم عباس فظاظة وانحرافا. واستفحل جانب الفتوة من ذاته؛ فاشترى الأعوان وأكثر من العدوان، وكان يسكر حتى تلاطمه الجدران، وكان يغني إذا سكر بصوت تنفر منه الخنافس، وكلما رأى عباس الرجل في حال من أحوال عربدته خرج من دكانه إلى الطريق ورفع رأسه نحو مسكن أمه، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ويوما ترامت حشرجة نبراته الصارخة من وراء الشيش إلى الطريق في هياج وحشي: أنا سيد البيت .. أنا سيد الكل.
وتخيل الناس المرأة الجميلة تحت زوبعة الإهانات بأسف، المرأة التي لم تعرف في ماضيها سوى الحب والتكريم. وتساءلوا عن سر ذلك الغضب! وأجاب سكان العمارة بأن الإيراد هو سر الغضب، وأن الفتوة انتصر، وأصبح المحصل الوحيد للإيجار. ولم تعد أم عباس تخرج كعادتها لزيارة الجارات والتجول في التربيعة. لم يعد أحد يراها وهي تتبختر في الملاءة اللف كالمحمل، وعيناها المكحولتان ترنوان بنظرة دسمة حول عروس البرقع.
ولم يقنع حسنين باغتصاب دخل الأم، فمضى يوما إلى دكان عباس، وهتف وهو يترنح من السكر حتى طير الأطفال عن ملعبهم: دلني على مليم واحد ورثته عن أبيك؟
وتعلقت عينا عباس بالأطفال، وكأنه لا يرى الرجل الآخر، فأنذره هذا بسبابته صائحا: ادفع الإيجار أو فلتخل الدكان.
Bilinmeyen sayfa