حتى استولى على تلك الأراضي واستثمرها. فلو كان غرس الأشجار في ذلك السهل لكانت تستطيع وحدها أن تجعل من هذا الوادي - العاري اليوم تماما - جنة فسيحة تعطي أضعاف أضعاف منتوجاتها. ولكن ... إنها لامبالاة السوريين المفرطة، فهم يدرجون على ما درج عليه آباؤهم من قبل، ولا يعملون إلا مثلما عملوا، وإذا ظلت هذه القاعدة مقود هذا الشعب الميكانيكي فلا يمكننا أن نترجى لسوريا إلا حياة تعسة ومحدودة جدا، وأراني مجبرا على القول إن الثقة مفقودة تماما؛ وهذا هو أهم أسباب تعاسة الولايات الخاضعة للحكم العثماني وضعفها؛ ففقدان الثقة بالمصير جمد رءوس المال وشل حركة الأخذ والعطاء. «إن تزعزع الثقة وارتياب كل شخص في مستقبل مصيره كان يحمل جميع الناس على اختلاف طبقاتهم - من الباشا إلى الفلاح - على إخفاء قسم من الغلال ومواراتها عن أنظار الجشعة».
3
بعد انقراض آل معن دعي آل شهاب (وكانوا آنذاك في حوران) إلى تولي الحكم في الجبل، وفقا لرغبة الأهلين، وطبقا لعهد وميثاق، مدفوعين بما يقوم بين آل معن أسياد الجبل وبين آل شهاب من أواصر قربى.
إن الأسرة الشهابية حصلت على عدة امتيازات يوم تولت الحكم؛ فأيدتها هذه الامتيازات ودعمت سلطتها التي تداولها أحفادها. تعهدت هذه الأسرة المالكة - لقاء ما منحها الشعب من امتيازات - ألا تزيد أبدا ضريبة الأملاك والضرائب الأخرى إلا بالمقدار المعين، كما أنها تعهدت بعدم تملك أراضي لا تستدعي حاجتها الضرورية الخاصة ملكيتها.
ولهذه الغاية خصص لآل شهاب دخل سبع قرى في ضواحي دير القمر - عاصمة الجبل - حيث يقيم الأمير الكبير الذي صار مقره بعد حين ملكا خاصا به.
إن عائلة شهاب التي لا تملك - لأنها غريبة الدار - أملاكا وإقطاعات، لم يكن في مستطاعها تملك إقطاعات جديدة أو الانفاق من مالها على تجهيز قوة مسلحة غير محدودة تصلح للخدمة العامة والخاصة بكل أمير. وهي لا تستطيع تجنيد الأهلين لأن هذا التجنيد لا يمكن فرضه إلا إذا رضي به أو أمر - مباشرة - أمراء الولايات ومشايخها، والإقطاعيون ومدبرو إقطاعاتهم الخاصة.
إن هؤلاء الزعماء (المناصب) كانوا يجبون بأنفسهم مال الأعناق في إقطاعاتهم، ويوزعون الضرائب ويقبضونها ليحوزوا على صفو خاطر الأمير الكبير بما يقدمونه له منها. وكان هو يعيد إليهم قسما من هذه الضرائب إذا كان راضيا. أما إذا كان غاضبا فلا يمنحهم أقل مهلة، بل يرهقهم بجميع الأساليب حتى يدفعوا المال المفروض عليهم كاملا.
لم تكن هذه الطريقة هي الوحيدة التي ابتدعها الأمير ليوطد نفوذه، بل نسي رويدا رويدا جميع ما يفرضه عليه الميثاق الصريح الذي سبقت الإشارة إليه، والذي لم أعلم بوجوده إلا من ألسنة الناس.
خرقت بنود هذا الميثاق الأساسية، والضرائب والمكوس لم تحافظ على أساسها القديم - وهو ألفا كيس - إلا ظاهرا، ثم ضوعفت، وحصل فيما بعد أضعاف أضعاف أضعافها، ثم ظل هذا الازدياد في اطراد تبعا للظروف. وكانت هنالك ضرائب تجبى ست عشرة مرة تحت ستار أسماء مختلفة: بزرية، وطرح، وشاشية ... إلخ.
وهكذا أنمى الأمير أملاكه الثابتة ومداخيله؛ أنمى عقاره إذ أقام نفسه وارثا للعائلات المنقرضة، وأنمى المداخيل بطريقة التخليات الطوعية والاكتسابات الشرعية، وأخيرا بما كان يغتصبه بلباقة من جيرانه الذين أثقلت كواهلهم الديون، أو أذلتهم أسرة شهاب بسلطانها. فأملاك الشهابيين وفلاحوهم معفون من الضرائب فلا يؤدون منها شيئا؛ وهكذا أصبحت هذه الأسرة الحاكمة أكثر بيوت الجبل ثروة وغنى، وأشدها قوة وبأسا.
Bilinmeyen sayfa