ومن سخرية الأقدار أن لبنان يدين ب «ازدهاره» للقضية الفلسطينية، وأن الثروات الهائلة التي جمعتها العائلات الحاكمة، قد تكونت بفضل الصراع العربي الإسرائيلي، وما لحق بالعرب خلاله من هزائم وانتصارات، على حد سواء.
فقد ترتب على هزيمة الجيوش العربية وقيام دولة إسرائيل سنة 1948، انتقال مركز النشاط الاقتصادي من فلسطين إلى لبنان، وخاصة دور الوسيط الذي كانت تتولاه فلسطين من قبل في مجالات التجارة والنقل والسياحة. وساهم الفلسطينيون اللاجئون في تطوير الخدمات، وتدعم «الازدهار الاقتصادي» بالمقاطعة العربية لإسرائيل وإجماع العرب على إخراج لبنان من دائرة الصراع العسكري مع إسرائيل وإعفائه بالتالي من مصروفات التسلح. ومن ناحية أخرى، أدى الانتصار العربي في أكتوبر 1973، إلى مضاعفة عائدات البترول وتدفق الرساميل على لبنان، فارتفعت القيمة الخارجية لليرة اللبنانية إلى 2,30 للدولار الواحد مقابل 3,25 في أواخر 1970.
وفيما يتعلق بإسرائيل، فإنها لم تخف لحظة واحدة أطماعها في لبنان؛ ففي فبراير (شباط) 1954، كتب بن جوريون إلى موسى شاريت يقول: «... من الواضح أن لبنان هو أضعف حلقة في الجامعة العربية. إن الأقليات الأخرى في الدول العربية كلها مسلمة، باستثناء أقباط مصر. لكن مصر هي أكثر الدول العربية تآلفا وتماسكا .. إن خلق دولة مسيحية في لبنان يعتبر عملا طبيعيا له جذور تاريخية .. إن تحقيق شيء كهذا في الأوقات الطبيعية أشبه بالمستحيلات .. لكن في أوقات الارتباك أو الثورة أو الحرب الأهلية تأخذ الأمور منحى آخر.»
وعشية العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن عام 1967، صرح ليفي أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي لمندوب «لوموند» الفرنسية بقوله: «لا يسع إسرائيل العطشى أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشهد مياه نهر الليطاني تذهب هدرا إلى البحر.»
وأمام ذلك قامت الحكومات اللبنانية بدور الذراع الإسرائيلية داخل لبنان؛ ففي أعقاب قيام إسرائيل، هاجر مائة ألف فلسطيني إلى لبنان. ومنحت الحكومة اللبنانية الجنسية لأربعين ألف مسيحي منهم، وفرضت على الباقين حياة الكلاب في مخيمات يحكمها رجال الأمن.
ووقعت هجرة فلسطينية جديدة في أعقاب استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة عام 1967، وحل عدة آلاف جدد في مخيمات الجنوب اللبناني وحول بيروت.
فرضت السلطات اللبنانية الحصار على المخيمات الفلسطينية، وحظرت انتقال الفلسطينيين من مخيم إلى آخر، أو إلى المدينة، إلا بإذن مسبق. وحرمت عليهم إقامة تنظيمات سياسية أو الاتصال بإحداها، وطاردت وقتلت كل من حاول منهم التسلل إلى إسرائيل. كما حرمت العمال الفلسطينيين من التمتع بالضمان الاجتماعي. وألفى هؤلاء أنفسهم مرغمين على القيام بالأعمال الهامشية والشاقة، وبأجور أدنى من تلك التي يحصل عليها أقرانهم من اللبنانيين.
وعلى حد تعبير أحد الكتاب، كان البؤس والفاقة والنزوح، جمرات دفينة في أزقة المخيمات، وأسفل بيوت التنك.
لكن هزيمة القيادات العربية التقليدية في 1967، أتاحت للفلسطينيين أن ينظموا أنفسهم في جماعات مسلحة. وعندما حاولت السلطات اللبنانية تقييد العمل الفدائي في الجنوب، إثر غارة إسرائيلية على مطار بيروت دمرت خلالها 13 طائرة مدنية لبنانية دون تدخل من الجيش، وقع أول صدام كبير بين الجانبين في 1969، انتهى بوساطة جمال عبد الناصر، وبتوقيع اتفاق القاهرة السري في نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام. وأعطى هذا الاتفاق للفلسطينيين حق العمل والإقامة والتنقل في لبنان، والإشراف على المخيمات، وإقامة نقاط للكفاح المسلح (الشرطة العسكرية) داخلها.
تأجل الصدام في ظل هذا الاتفاق بين المقاومة الفلسطينية والقوى المناوئة لها بعض الوقت. لكنه بدأ يتصاعد من جديد بعد أن قام الملك حسين بتصفية قوات المقاومة في الأردن عام 1970؛ فقد ترتب على ذلك نزوح آلاف جديدة من الفلسطينيين إلى لبنان، الذي أصبح أيضا المنفذ الرئيسي إلى الأراضي المحتلة.
Bilinmeyen sayfa