هنا تبادل جميع المتواجدين داخل سيارة نقل الموتى النظرات المتسائلة.
إلا أن إصرار العريض على عدم السماح للأم بالاقتراب من الجثة، أهاج عواطفها أكثر فأكثر. - بنتى ... حبيبتي ... أبوسها.
هنا لكز العريض المهاجر كمن يطلب عونه، دافعا بجسد الأم إلى الوراء.
وغطت الفتاة الجنوبية في ذعر وجهها بكفة يدها، في ذات اللحظة التي جاشت فيها مشاعر الأم إلى ابنتها، إلى حد مقاومتها للعريض وشابين آخرين مسلحين، وانتصبت من فورها واقفة منحنية على النعش، كاشفة في رقة أم تهدهد صغيرتها ... طفلتها، ولدهشتها ... صرختها، لم تجد شيئا سوى خصلة شعر محترقة تعلو مطلع جمجمة.
الفصل الثالث والعشرون
ما إن حلت الهدنة المريبة، وبدأت دفعات المقاتلين في الترحيل البحري، حتى بدا ما تبقى من سكان بيروت تحت الحصار وفوهات مدافع العدوان كمن يستيقظون لتوهم من كابوس جماعي يكتم التنفس ذاته.
بدأت الجموع تأخذ طريقها إلى الشوارع، خاصة الحمراء التي دبت فيها الحياة من جديد، ففتحت معظم المقاهي والكازينوهات ومحلات الأطعمة الشعبية، ومنها اللحم بالعجين أبوابها.
وعادت وجوه الفتيات البيروتيات الرقيقات تزحم الشوارع ونواصيها.
وهن ذات الفتيات المقاتلات بزيهن الحربي، كما أنهن ذاتهن اللائي كن يبكرن في كل صباح، ويأخذن طرقاتهن إلى حيث ميناء بيروت ومرفئها لتوديع المقاتلين المغادرين وعائلاتهم، يلوحون لمن عاشروهم وقاسموهم حياتهم وخبزهم وكدهم اليومي، ودافعوا عن مدينتهم وهن ينثرن الزهور والورود من فوق رءوسهم في زهوة ووعود باللقاء.
وعلى هذا النحو، دأبت فتاة الجنوب ورفيقتها الدرزية في معظم أيام الخروج العصيبة.
Bilinmeyen sayfa