في أوروبا وزارات منظمة، فيجب أن تكون في مصر وزارات منظمة؛ لتصبح مصر كأوروبا، سواء أعملت الوزارات المصرية كما تعمل الوزارات الأوربية، أم اكتفت بوجودها ليعرف العالم أن مصر ليست أقل من أوروبا تقدما ولا رقيا.
وفي أوروبا دساتير مكتوبة تنظم ما للشعب من حقوق، وما عليه من واجبات، فيجب أن يكون لمصر دستور مكتوب، ينظم ما للمصريين من حقوق وما عليهم من واجبات. وليس ضروريا أن ينفذ الدستور في مصر على وجهه، ولا أن تحترم الحريات التي يكفلها للناس، ولا أن تجري الحياة البرلمانية نقية من كل شائبة، مبرأة من كل عيب، ولا أن يذهب الشعب إلى حيث ينتخب ممثليه حرا آمنا على ضميره من أن يعبث به الترغيب أو الترهيب، ولا أن يؤدي النواب والشيوخ واجباتهم في مراقبة الحكومة ومحاسبتها أحرارا آمنين على ضمائرهم ومصالحهم القريبة والبعيدة، ولا أن تقف الوزارة أمام البرلمان موقف المسئول عن أعماله بالفعل، ولا أن يثق البرلمان بالوزارة فتبقى، ويسخط عليها فتزول! ليس شيء من هذا كله ضروريا، وإنما الضروري الذي لا يصح الإغضاء عنه ولا التقصير فيه هو أن يكون لمصر دستور مكتوب كما أن لكل بلد راق في أوروبا دستورا مكتوبا! •••
وقد يكون من الظريف أن تلاحظ أننا حين نتمدح بالدستور لا نتمدح بأنه يمتعنا بالحرية والعدل والمساواة حقا، وإنما نتمدح بأنه كأحدث الدساتير الأوروبية، أمرنا في الدستور كأمرنا في الأزياء وفي أزياء السيدات بنوع خاص، لا ينبغي أن يبعد بها العهد، وإنما ينبغي أن تأتي من أشهر دور البدع في باريس، أو أن تكون صورة طبق الأصل لما تنتجه أشهر دور البدع في باريس.
والأزياء التي تأتي من باريس تكلف الذين يشترونها ثمنا غاليا، فيجب أن يكلفنا الدستور الذي هو كأحدث الدساتير الأوروبية ثمنا غاليا أيضا. ولست أذكر نفقات الانتخاب ولا المكافآت البرلمانية، ولا المرتبات التي يتقاضاها الموظفون في البرلمان، وإنما أذكر المرافق المهملة، والمنافع المضيعة، والأخلاق التي اشتمل عليها الفساد! فهذه هي الأثمان التي يجب أن نؤديها ليكون لنا دستور مكتوب كأحدث الدساتير المكتوبة في أوروبا. ولكل بلد من البلاد الراقية جيش منظم على أحدث طراز، فيجب أن يكون لنا جيش منظم على أحدث طراز، ننفق عليه الملايين «المملينة» إن أجاز المجمع اللغوي هذا التعبير! وليس ضروريا أن يكون هذا الجيش أو لا يكون قادرا على حماية مصر من المغيرين، بل ليس هناك بأس من أن يحتفظ هذا الجيش بكبريائه، وتمتلئ قلوبنا نحن بالكبرياء؛ لأن لنا جيشا منظما على أحسن طراز في نفس الوقت الذي يحتل فيه مصر جيش أجنبي منظم كذلك على أحسن طراز ... ومن يدري؟ لعل هذه ميزة مصر، فليس في أرضها جيش واحد وإنما جيشان كلاهما منظم على أحدث طراز!
وفي كل بلد من البلاد الراقية وزارة للتعليم، فيجب أن تكون لنا وزارة للتعليم، وقد تلاحظ أن الجاهلين في مصر ما زالوا هم الكثرة الكثيرة، وأن المتعلمين ما زلوا هم القلة القليلة. ولكن هذا كله ليس ذا خطر؛ فوزارة التعليم لا يراد منها إزالة الجهل ونشر التعليم، كما أن وزارة الصحة لا يراد منها إزالة المرض ونشر الصحة، وكما أن وزارة الشئون الاجتماعية لا يراد منها إزالة الشقاء وإشاعة الثراء، وإنما الذي يراد من هذه الوزارات ومن غير هذه الوزارات كالذي يراد من الدستور ومن كل نظمنا الحديثة؛ هو أن توجد لنستطيع أن نقول وقد رفعنا الرءوس وشمخنا بالأنوف ونظرنا إلى السماء وأبينا أن ننظر إلى الأرض: «إن مصر بلد حديث، فيه كل النظم التي تستمتع بها البلاد الحديثة الراقية!»
وويل لنا إن نظرنا إلى الأرض؛ فقد نرى على الأرض إن نظرنا إليها شعبا جاهلا مريضا فقيرا، لا يوجد في أوروبا ولا في غير أوروبا من البلاد الراقية المتحضرة! فلننظر إلى السماء، وإلى السماء وحدها، ولنكتف بالوسائل ولنتجنب الغايات! •••
هذه هي العلة التي تفسد على مصر حياتها كلها في هذه الأيام ...!
فالذين يريدون الإصلاح ويلتمسون إليه الوسائل، والذين يختصمون في تعديل الدستور، والذين يريدون تقويم الأداة الحكومية، والذين ينفخون في القرب المقطوعة، وينقشون على صفحات النيل، ويريدون أن يقرءوا ما ينقشون، كل هؤلاء خليقون أن يراجعوا أنفسهم، وأن يفكروا في أن لا سبيل إلى الإصلاح حتى يقر في نفوس المصريين عامة، وفي نفوس القادة والساسة خاصة أن الاستقلال والدستور ونظم الحكم والوزارات والمصالح ... كل هذه وسائل لا تقصد لنفسها، وإنما تتخذ أدوات لشيء آخر هو الذي يجب أن نفكر فيه ونحرص عليه؛ وهو سعادة الشعب، أو على أقل تقدير: تخفيف ما يلقى الشعب من الشقاء!
أمن الممكن أن نقر في نفوس المصريين أن من الحق عليهم لأنفسهم ولتاريخهم ولمستقبل وطنهم أن ينظروا إلى الوسائل على أنها وسائل لا على أنها غايات؟!
مسألة فيها نظر ...!
Bilinmeyen sayfa