فقالت بحدة كأنما هي المطالبة لا هو: كل يوم تقع أمور كهذه دون أن تربك أحدا، إن الله يكره من عبده العناد والمكابرة، اقبل رجائي وتوكل على الله، لا ترفض يدي، فإني ما مددتها إلى أحد قبلك.
فدارى السيد انفعاله بابتسامة وقال: هذا شرف عظيم كما قلت لك منذ لحظة ... فقط أمهليني قليلا ريثما أراجع نفسي وأرتب أموري، وستجدين رأيي عند حسن ظنك إن شاء الله.
فقالت بلهجة من يجهز على الحديث: لا يجوز أن آخذ من وقتك أكثر مما أخذت، ثم إنه كلما طال الأخذ والرد خيل إلي أنك لا تتقبل رغبتي بقبول حسن، ومثلي من تطمع إذا قالت لك أريد أن تبادرها بنعم دون لت وعجن، فلن أزيد عما قلت إلا كلمة واحدة: خليل ابني وابنك وعائشة بنتك وبنتي.
وقامت فقام السيد ليودعها، لم يكن يتوقع إلا كلمة توديع وتحية، ولكنها أبت إلا أن تذكره بوصاياها جملة. كأنما خافت أن يفوته شيء منها فأعادتها تفصيلا، وما يدري - أو تدري - إلا وهي ترجع لتأييد بعض آرائها وتوكيد البعض الآخر، ثم غلبها تداعي الأفكار فاسترسلت فيه بلا ممانعة، حتى أعادت على مسمعه جل ما قالت عن الخطبة، وإلى هذا كله لم تشأ أن تنهي ذاك الحديث دون أن تودع حديث الأم المبعدة بكلمة أو كلمتين أو ثلاث، وإذا بتداعي الأفكار يغلبها مرة أخرى فتسترسل فيه، حتى كاد الرجل يفقد أعصابه، ثم أوشك أن يضحك في النهاية وهي تقول له: «لا يجوز أن آخذ منك أكثر مما أخذت.» وأوصلها إلى الباب مشفقا في كل خطوة من أن تتوقف عن المسير وتشتبك في الكلام كرة أخرى، ثم عاد أخيرا إلى مجلسه وهو يتنفس من الأعماق. عاد مغتما مكتئبا، قلب رقيق، أرق مما يظن الكثيرون، بل أرق مما ينبغي، فكيف يصدق هذا من لا يرونه إلا مكشرا أو صاخبا أو ضاحكا ساخرا! ... إن مسة حزن تلذع فلذة من كبده خليقة بأن تنغص العيش كله، وتطين وجه الحياة في عينيه، ولكم يسعده أن يجود بكل غال في سبيل إسعاد فتاتيه، سواء هذه التي يرى في وجهها الجميل وجه أمه، أو تلك التي لم تصب من الحسن إلا لونا شاحبا، كلتاهما من نبض قلبه وعصارة روحه، بيد أن الزوج الذي تقدمه حرم المرحوم شوكت لقية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فتى في الخامسة والعشرين، ذو دخل شهري لا يقل عن الثلاثين جنيها، حقا أنه ككثير من الأعيان لا عمل له، وحقا أن حظه من التعليم ضئيل لا يتعدى معرفة القراءة والكتابة، ولكنه يتصف بجملة من خلال أبيه في الطيبة وكرم الأخلاق، ما عسى أن يفعل؟ ... يجب أن يحسم أمره؛ لأنه لم يألف التردد ولا الشورى، ولا يقبل أن يبدو أمام أهله - ولو لحظة قصيرة - كمن لا رأي قاطعا له، ألا يشاور خاصته المقربين؟ إنه لا يرى غضاضة في مشاورتهم كلما جد أمر، والواقع أن سمرهم يبدأ عادة بمناقشة الهموم والمشاكل قبل أن تطير بهم الخمر إلى الدنيا التي لا تعترف بالهموم والمشاكل، ولكنه قدر ما يستبد في باطنه برأيه فلا يحيد عنه؛ فهو من الذين يلتمسون في الشورى ما يؤيد رأيهم لا ما يعدل بهم عنه، ولكنها حتى في هذه الحال عزاء ومتنفس، ولما ضاق الرجل بأفكاره هتف قائلا: من يصدق أن ما بي من هم لا يحتمل ما هو إلا نتيجة لخير أكرمني به الله؟!
37
لم يكن لأمينة من عمل في أيام منفاها إلا الجلوس إلى جانب أمها والاسترسال في الحديث، في كل ما يخطر على البال من أحاديث تجاذبها الماضي البعيد والماضي القريب والحاضر، ما بين الذكريات العزيزة والمأساة الراهنة، ولولا عذاب الفراق وشبح الطلاق لاطمأنت إلى حياتها الجديدة كعطلة للاستجمام من عناء الواجبات أو كرحلة خيالية في عالم الذكريات. بيد أن مرور الأيام دون وقوع الشيء الذي تخاف وما بلغها من شفاعة أم مريم وحرم المرحوم شوكت لدى السيد، كل أولئك ثبت قلبها وروح عن نفسها، إلا أن زيارات الأبناء المسائية التي لم تنقطع يوما واحدا طلت جوى صدرها بنفحات أمل متجددة. ومع أن الزمن الذي يتغيبونه عنها في البيت الجديد لم يزد كثيرا عن نظيره في البيت القديم - في كلتا الحالتين لم تكن تجتمع بهم إلا حين فراغهم في جلسة المساء - إلا أنها باتت تشتاق إليهم اشتياق المغترب في بلد بعيد إلى أحباب فرق الدهر بينه وبينهم، اشتياق من حرم عليه تنفس جوهم والعيش بين ذكرياتهم، والإشراف على مواطن جدهم ولهوهم، كأن الجسم كلما قطع في طريق الفراق قيراطا كابده القلب أميالا، ودأبت العجوز على أن تقول لها كلما وجدت منها صمتا أو آنست في حديثها الشرود: الصبر يا أمينة، إني أرثي لحالك، الأم غريبة ما ابتعدت عن أبنائها، غريبة ولو حلت في البيت الذي ولدت فيه.
أجل إنها غريبة، كأنه ليس البيت الذي لم تعرف حياتها الأولى سواه موطنا، وكأنها ليست الأم التي لم تكن تطيق البعد عنها لحظة واحدة، لم يعد «بيتها» ما هو إلا منفى تنتظر بين جدرانه على لهف العفو من السماء. وجاء العفو بعد طول انتظار، حمله الأبناء ذات مساء، دخلوا عليها وفي أعينهم لمعة كسنا البرق خفق لها فؤادها خفقة اهتز لها الصدر كله، حتى أشفقت من أن تكون ذهبت في تأويلها إلى أبعد مما تحتمل، ولكن كمال جرى نحوها وتعلق بعنقها، ثم هتف بها وهو لا يتمالك نفسه من الفرح: البسي ملاءتك وهيا بنا.
وقهقه ياسين قائلا: جاء الفرج (ثم هو وفهمي معا) دعانا أبي وقال لنا: اذهبا، فعودا بأمكما.
وغضت بصرها لتداري فرحتها الغامرة. ما أعجزها عن كتمان ما يضطرب في نفسها من شتى العواطف، كأن وجهها مرآة شديدة الحساسية لا تترك كبيرة ولا صغيرة مما في أعماقها إلا سجلته، لشد ما ودت أن تتلقى النبأ السعيد بهدوء خليق بأمومتها، ولكن الفرح استخفها فضحكت أساريرها ونطقت بابتهاج صبياني، وفي نفس الوقت تولاها حياء لم تدر له سببا، وطال جمودها في مكانها، فنفد صبر كمال فشدها من يدها راميا بثقله إلى الوراء، حتى طاوعته ناهضة، ووقفت قليلا في ارتباك غريب، وما تدري إلا وهي تلتفت إلى أمها متسائلة: أذهب يا أمي؟
بدا السؤال الذي ند عنها - في نغمة الارتباك والحياء - غريبا، فابتسم فهمي وياسين، ودهش كمال وحده فيما يشبه الانزعاج، وراح يؤكد لها نبأ العفو الذي جاءوا به، أما الجدة فقد شعرت بشعورها كله، وحدست باطنها فرق قلبها، وتحاشت أن تظهر الإنكار لسؤالها ولو بابتسامة خفيفة، وقالت بلهجة جدية: إلى بيتك مصحوبة بسلامة الله.
Bilinmeyen sayfa