ومن سوء حظها أن السيد شعر برغبة في الراحة عقب تعب السفر، فلم يذهب إلى الدكان كما كانت تأمل، واضطرت تبعا لذلك أن تبقى في الصالة كالسجينة، وفي أثناء ذلك صعدت عائشة إلى الدور الأعلى، وتسللت إلى الصالة حيث تجلس أختها دون أن تحدث صوتا لتريها نفسها وتغمز لها بعينها على سبيل التنديد بحالها، ثم تعود إلى أمها تاركة إياها وهي تغلي من الغيظ إذ كان مما يحنقها أشد الحنق أن يعابثها أحد بالمزاح، وإن لذ لها هي أن تعابث الجميع، ولم تسترد حريتها - إلى حين طبعا - إلا عندما أسلم السيد جنبه للنوم، فطارت إلى أمها، وأنشأت تحدثها عما قدمت لأبيها من خدمات حقيقية ووهمية، وتصف لها ما قرأت في عينيه من آي العطف والتقدير لخدماتها! ... ولم تنس أن تعرج على عائشة، فتنهال عليها بالزجر والتوبيخ على ما بدا منها من تصرف صبياني، ثم عادت إلى الأب بعد استيقاظه فقدمت له الغداء، ولما فرغ الرجل من غدائه جلس يراجع بعض الأوراق وقتا غير قصير، ثم دعاها إليه وطلب إليها أن تبعث له بياسين وفهمي بمجرد رجوعهما إلى البيت.
وقلقت الأم للطلب وخافت أن يكون قد حز في نفس الرجل غضب مكظوم، وأنه يروم الآن - في الشابين - متنفسا عن غضبه، ولما جاء ياسين وفهمي وعلما بما كان، ثم بلغا أمر أبيهما بمقابلته دار بخاطرهما ما دار بخاطر المرأة من قبل، وذهبا إلى حجرته وهما يتوجسان خيفة، ولكن الرجل خيب ظنونهما فقد لاقاهما بهدوء غير معهود، وسألهما عن الحادث وظروفه وتقرير الطبيب، فحدثاه طويلا بما يعلمان وهو يصغي إليهما باهتمام، وفي النهاية سألهما: أكنتما في البيت حين خروجها؟
ومع أن هذا السؤال كان متوقعا من بادئ الأمر إلا أنه وقع من نفسيهما - بعد الهدوء العجيب غير المنتظر - موقع الانزعاج، فخافا أن يكون مقدمة لتغيير طبقة النغمة التي ارتاحا إليها ارتياح النجاة، ولم يسعهما الكلام فلاذا بالصمت ... بيد أن السيد لم يلحف في السؤال، وكأنه لم يعبأ بسماع الجواب الذي استنتجه مقدما، أو لعله أراد أن يسجل عليهما الخطأ بلا اكتراث بإقرارهما به ... ولم يزد بعد ذلك على أن يشير إلى باب الحجرة آذنا لهما بالانصراف، وعندما مضيا إلى الخارج سمعاه يقول مخاطبا نفسه: ما دام الله لم يرزقني رجالا فليهبني الصبر.
ومع أن الظواهر دلت على أن الحادث قد هز نفس السيد حتى غير المألوف من سلوكه تغيرا دهش له الجميع، إلا أنه لم يستطع أن يثني إرادته عن قضاء سهرته الليلية التقليدية! ... فما جاء المساء حتى ارتدى ملابسه وغادر حجرته ناشرا بين يديه شذا طيبا، إلا أنه مر في طريقه إلى الخارج بحجرة الأم وسأل عنها فدعت له طويلا ممتنة شاكرة ... لم تر في ذهابه إلى سهرته - وهي طريحة الفراش - تجافيا للعطف، ولعلها وجدت في مروره بها وسؤاله عنها تكريما فاق ما كانت تنتظر، بل أليس مجرد امتناعه عن صب غضبه عليها منة لم تكن تحلم بها؟ ... وكان الإخوة - قبل مبارحته حجرته - قد تساءلوا: «ترى هل يعدل الليلة عن سهرته؟» ولكن الأم أجابت قائلة: «ولماذا يبقى بعد أن علم أن الحال مطمئنة؟!» ولعلها تمنت فيما بينها وبين نفسها لو يتم نعمته عليها فيعدل عن سهرته، كما يليق بزوج أصيبت زوجه بما أصيبت هي به، ولكنها كانت أدرى بطبعه فسبقته بانتحال العذر له حتى إذا انطلق إلى سهرته كما تتوقع أمكنها - مداراة لموقفها - أن تسوغ انطلاقه بالعذر الذي انتحلت لا بقلة الاكتراث، ولكن خديجة قالت: «كيف يطيق السهر وهو يراك على هذه الحال؟» فأجابها ياسين: «لا عليه إذا فعل ما دام قد اطمأن عليها، حزن الرجال غير حزن النساء، وذهاب الرجل إلى سهرته لا يتنافى مع حزنه، بل لعل التفريج عن نفسه واجب عليه ليتسنى له مواصلة حياته الشاقة.» ولم يكن ياسين يدافع عن أبيه بقدر ما كان يدافع عن رغبته في الانطلاق التي بدأت تتحرك في أعماقه، إلا أن مكره لم يجز على خديجة فسألته: «هل تطيق أنت مثلا أن تسهر في قهوتك الليلة؟» فبادرها قائلا وهو يلعنها في سره: «طبعا لا، ولكن أنا شيء وبابا شيء آخر!»
ولما فارق السيد الحجرة عاودها الشعور بالراحة الذي يعقب النجاة من خطر محقق، فتألق محياها بابتسامة وقالت: لعله رأى أن جزائي كفاف ذنبي فعفا عني، عفا الله عنه وعنا جميعا.
فضرب ياسين كفا بكف وهو يقول محتجا: إن رجالا غيورين مثله، منهم أصدقاء له، لا يرون بأسا في السماح لنسائهم بالخروج كلما دعت ضرورة أو مجاملة، فما باله يقيم لكن من البيت سجنا مؤبدا؟
فلحظته خديجة بهزء وسألته: لم لم تلق بدفاعك هذا وأنت بين يديه؟!
فانقلب الشاب مقهقها حتى ارتجت كرشه ثم أجابها قائلا: يلزمني مثل أنفك أولا كي أدافع به عن نفسي عند الضرورة.
وتتابعت أيام الرقاد، فلم يعاودها الألم الذي هصرها أول ليلة، وإن تهدد جذعها وكتفها الوجع لأقل حركة تأتيها، ثم تقدمت نحو الشفاء بخطوات سريعة بفضل بنيتها القوية وحيويتها الدافقة التي تكره بطبعها السكون والقعود مما جعل الإذعان لأوامر الطبيب مهمة شاقة غطى عذابها على آلام الكسر إبان احتدامها، ولعلها لولا تشدد الأبناء في مراقبتها لخرقت وصايا الطبيب ونهضت عجلى لأمورها ... على أن رقادها لم يمنعها من نشر الرقابة على شئون البيت من فراشها، ومراجعة الفتاتين بدقة متعبة فيما يعهد إليهما به ... خاصة عن دقائق الواجبات التي تخاف عليها الإهمال أو النسيان، فتسأل وتلح في السؤال: «هل نفضت أعلى الستائر؟ ... وخصاص الشبابيك؟ ... هل بخرت الحمام لأبيك؟ .. هل سقيت اللبلاب والياسمين؟» الأمر الذي أحنق خديجة مرة فقالت لها: «اعلمي أنك إذا كنت تعنين بالبيت قيراطا، فإني أعنى به أربعة وعشرين» ... وإلى هذا كله أورثها تخليها الإجباري عن مركزها المرموق شعورا معقدا عانت منه كثيرا، فربما تساءلت ترى ألم يفقد البيت - أو أحد من أهله - بتخليها عنه شيئا من نظامه أو راحته؟! وأيهما يا ترى أحب إليها، أن يبقى كل شيء كما كان بفضل فتاتيها - غرس يديها - أم أن يختل شيء من توازنه يكون خليقا أن يذكر الجميع بالفراغ الذي خلفته وراءها؟! وهب السيد بالذات استشعر هذا الفراغ، فهل يكون ذاك مدعاة لتقديره لأهميتها أو لسخطه على ذنبها الذي جر هذا كله؟! تحيرت المرأة طويلا بين عاطفتها المستحيية نحو نفسها وعاطفتها الصريحة نحو فتاتيها، ولكن المحقق أنه لو اختل شيء من النظام لأحدث لها كربا شديدا، كما أنه لو حافظ على كماله كأن لم يطرأ نقص لما خلت من ضيق.
أما الواقع فهو أن فراغها لم يسده أحد، وأثبت البيت أنه أكبر من الفتاتين على نشاطهما وإخلاصهما ... ولم تسر الأم لهذا لا في الظاهر ولا في الباطن، توارى شعورها نحو ذاتها، ودافعت عن خديجة وعائشة دفاعا حارا صادقا، ثم ركبها الجزع والألم فلم تعد تطيق صبرا على انزوائها.
Bilinmeyen sayfa