فقاطعته بصوت متهدج: سيدي أعوذ بالله مما تظن بي، إن خديجة ابنتي ومن لحمي ودمي كما هي ابنتك ... وإن حظها ليفتت كبدي، أما عائشة فما تزال في أول ربيعها ولن يضيرها أن تنتظر حتى يأخذ الله بيد شقيقتها.
فراح يمسح براحته على شاربه الغليظ بحركة عصبية حتى توقف فجأة، كأنما تذكر أمرا وتساءل: هل علمت خديجة؟ - نعم يا سيدي.
فلوح بيده غاضبا وهو يصيح: كيف يطلب هذا الضابط يد عائشة بالرغم من أن أحدا لم يرها؟!
فقالت بحرارة وقلبها يرتجف: قلت يا سيدي لعلهن سمعن عنها. - ولكنه يعمل في قسم الجمالية أي في حينا، وكأنه من أهله.
فقالت الأم في تأثر شديد: إن عين رجل لم تقع على إحدى ابنتي منذ انقطاعهما عن المدرسة في سن الطفولة.
فضرب كفا بكف وصاح بها: مهلا ... مهلا ... هل حسبتني أشك في هذا يا ولية؟! لو شككت فيه ما أشبعني القتل!
إنما أتحدث عما يجري في عقول بعض الناس ممن لا يعرفوننا، «إن عين رجل لم تقع على إحدى ابنتي» ... ما شاء الله، وهل كنت تريدين أن تقع عين رجل عليهما؟! ... يا لك من مجنونة مهذارة، إني أردد ما قد تشيع به ألسنة السفهاء من الناس، أجل ... إنه ضابط الحي، يسير في شوارعنا صباح مساء، فلا يبعد أن يقوم عند البعض ظن احتمال رؤيته لإحدى الفتاتين إذا علموا بزواجه منها ... لا أحب، لا أريد أن أعطي ابنتي لأحد ليثير الشبهات حول سمعتي، بل لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل إلا إذا ثبت لدي أن دافعه الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخالصة في مصاهرتي أنا ... أنا ... أنا ... «لم تقع عين رجل على إحدى ابنتي» ... مبارك ... مبارك يا ست أمينة.
وأصغت الأم دون أن تنبس بكلمة، فساد الصمت الحجرة، ثم نهض الرجل فآذنها نهوضه بأنه سيشرع في ارتداء ملابسه استعدادا للعودة إلى الدكان فبادرت بالقيام، ونزع السيد ذراعيه من الجلباب ورفعه ليخلعه، ولكنه توقف قبل أن تجاوز طاقة الجلباب ذقنه، وقال والجلباب مكوم فوق منكبه كلبدة الأسد: ألم يقدر سي فهمي خطورة الطلب الذي تقدم به صديقه؟ ... (ثم محركا رأسه في أسف) يحسدني الناس على إنجاب ثلاثة ذكور، والحق أني لم أنجب إلا إناثا ... خمس إناث.
26
على أثر مغادرة السيد للبيت ذاع رأيه في خطبة عائشة، ومع أنه قوبل بتسليم عام - تسليم من لا حيلة لهم سوى التسليم - إلا أنه كان متباين الصدى في النفوس، أسف فهمي للخبر، وساءه أن تفقد عائشة زوجا صالحا مثل صديقه حسن إبراهيم، أجل كان قبل أن يبت أبوه في الأمر مترددا بين التحمس للعريس المتقدم وبين العطف على موقف خديجة الدقيق، فلما أن قضي الأمر واستراح جانبه المشفق على خديجة أسف جانبه الآخر الراغب في سعادة عائشة، وأمكنه أن يجهر برأيه فقال: لا شك أن مستقبل خديجة يهمنا جميعا، ولكنني لا أوافق على الإصرار على حرمان عائشة من الفرص الحسنة التي تتاح لها، الحظ غيب لا يعلمه إلا الله، ولعل الله يدخر للمتأخر حظا أوفر من المتقدم.
Bilinmeyen sayfa