وقالت خديجة بإصرار غريب: لا بد من هذا ... لا بد من هذا.
كانت تعني ما تقول؛ لأنها من ناحية تعلم باستحالة إخفاء مثل هذا الأمر عن أبيها، ولأنها من ناحية أخرى تعتقد بأن والدها لا يمكن أن يقبل تقديم زواج عائشة عليها، ولأنها - إلى هذا وذاك - ما زالت تصر على التظاهر باللامبالاة، ومع أنها لم تكن تعلم بما بين الضابط والزائرات من سبب ... إلا أن القلق والتشاؤم اللذين شعرت بهما من بادئ الأمر لم يتخليا عنها لحظة واحدة.
25
مع أن السيدة أمينة جربت في حياتها أكثر من سبب من الأسباب التي تكدر الصفو، إلا أنها لم تكن قديمة عهد بنوع طارئ من هذه الأسباب، امتاز بطابع خاص به، إذ بدا في ذاته - على خلاف سوابقه - مما يجمع الناس على اعتباره من أسس السعادة الجوهرية في الدنيا، ومع هذا انقلب في بيتها، بل في قلبها خاصة، باعثا هاما من بواعث القلق والكدر، وكم كانت صادقة وهي تسائل نفسها: من كان يظن أن مقدم عريس، الأمر الذي تتلهف النفوس على استقباله، يجر علينا هذا التعب كله! ... ولكن هكذا جرى الحال، فتنازع قلبها أكثر من رأي دون أن تطمئن إلى واحد منها، رأت حينا أن الموافقة على زواج عائشة قبل خديجة كفيلة أن تقضي على مستقبل ابنتها الكبرى، ورأت حينا آخر أن الإلحاح في معارضة الأقدار موقف شديد الخطورة قد يعود على الفتاتين بأوخم العواقب، وإلى هذا وذاك شق عليها كثيرا أن توصد الباب في وجه عريس رائع كالضابط الشاب ليس من اليسير أن يجود الحظ بمثله مرة أخرى، ولكن ما عسى أن يكون حال خديجة إذا تمت الموافقة، وما عسى أن يكون حظها ومستقبلها؟! ... لم تدر لنفسها مستقرا، خاصة وأن ما طبعت عليه من سلبية شاملة جعلها أعجز من أن تجد حلا موفقا لمشكل من المشاكل؛ ولهذا وجدت راحة وهي تتحفز لإلقاء العبء كله على عاتق السيد، بل وجدت هذه الراحة بالرغم مما يخامرها من خوف كلما أقدمت على مفاتحته بأمر ترتاب في حسن تقبله له، وقد انتظرت حتى فرغ من احتساء قهوته، ثم قالت بصوتها المهموس الناطق بالأدب والخضوع: سيدي ... حدثني فهمي قال إن صديقا له رجاه أن يعرض عليك رغبته في خطبة عائشة.
سددت العينان الزرقاوان نظرة اهتمام ودهشة من فوق الكنبة إلى حيث تجلس المرأة على شلتة غير بعيدة من قدميه، كأنما يقول لها: «كيف تحدثينني عن عائشة وأنا في انتظار أخبار عن خديجة بعد ما كان من نبأ الزائرات الثلاث؟» ... ثم تساءل ليستوثق مما سمع: عائشة؟ - نعم يا سيدي.
ونظر السيد أمامه في ضيق، ثم قال وكأنه يحدث نفسه: قررت من زمن بعيد أن هذا سابق لأوانه.
فقالت المرأة في عجلة أن يظن بها معارضة لرأيه: إني أعلم رأيك يا سيدي، ولكن يجب علي أن أطلعك على كل شيء يدور بيننا.
تفحصها الرجل ببصر حاد كأنه يسبر ما في قولها من صدق وإخلاص، ولكن لمعت عيناه بخاطر طارئ حال بينه وبين تفحصها، فتساءل في اهتمام وقلق: ترى ألهذا علاقة بالسيدات اللاتي زرنك؟
أجل، علمت بهذه العلاقة وهي منفردة بفهمي، وقد اقترح عليها الشاب أن تخفي أمرها عن والده عند مفاتحته بالخبر، فوعدته بالتفكير في المسألة طويلا، وترددت بين قبولها ورفضها، ثم مالت أخيرا إلى كتمانهما كما اقترح فهمي، ولكنها حين جوبهت بسؤال السيد وهي تشعر بنظرة عينيه كضوء الشمس الوهاج تشتتت عزيمتها، وتبدد رأيها، فقالت بلا تردد: نعم يا سيدي، علم فهمي أنهن قريبات صديقه.
فعبس السيد غاضبا، وكعهده إذا غضب امتلأت صفحة وجهه البيضاء بالدم، وتطاير الشرر من عينيه، من يستهن بخديجة فكأنما استهان بشخصه، ومن يمس كرامتها فكأنما طعنه في صميم كرامته، ولكنه لم يدر كيف يعلن غضبه إلا عن طريق صوته الذي علا وغلظ، وهو يتساءل بحنق وازدراء: من هو هذا الصديق؟
Bilinmeyen sayfa